الرئيس اللبناني ضرورة ميثاقية… فقط

د. وفيق ابراهيم

ليس في العنوان نزعة إلى الانتقاص من قيمة رئيس البلاد، بقدر ما هو يعكس حال صلاحياته التي تردّت وتراجعت إلى الحضيض بعد تحوّل اتفاق الطائف إلى دستور للبنان، وأصبحت بموجبه السلطة التنفيذية لمجلس الوزراء الذي هو الحاكم الفعلي للبلاد، مع إيلاء رئيس الحكومة حقّ إدارة الكثير من الصناديق السيادية والمجالس، ما يضخم دوره ويعطيه حقّ التصرف بالأموال والتعيينات فيها كيفما يشاء.

وبقي لرئيس الجمهورية صلاحيات يؤديها بـ«السلب» وذلك لعقد تسوية عليها، كأن لا يوقع على مسألة معينة، فيأخذ بالتالي حصته، كأن يرفض التوقيع على مرسوم تعيين الوزراء فيرغمهم على إعطائه حصّة وزارية. إنها صلاحيات تشبه صلاحيات القراصنة يأخذون ما لا يريد الآخرون إعطاءه بالإرغام والفرض، وليس بقوة الدستور.

هناك سببان لهذه المشكلة، أولهما إلغاء الصلاحيات القديمة للرئيس، أما الثاني فهو أنّ معظم الرؤساء الموارنة يُنتخبون وهم لا ينتمون إلى تجمّعات ضغط سياسية. فقائد الجيش الذي تدفع به تسوية سياسية إقليمية أو دولية ليتسلم الرئاسة لا ينتمي إلى البيئات السياسية والنيابية الموجودة، فيُحرم بذلك من مصادر قوة إضافية، كان يستطيع بواسطتها أن يوجد توازناً إضافياً مع القوى السياسية.

انطلاقاً من هذين السببين، لا يمكن الدعوة إلى انتخاب رئيس للبلاد وكأنه السبيل الحصري إلى إنقاذ لبنان مما هو فيه، فالأزمات إقليمية ودولية، تتعدى عادة حجم الرؤساء لترتبط بالقوى السياسية المرتبطة بالإقليم. فالرئيس يحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء لاتخاذ أي قرار، وبذلك نستطيع أن نجزم أنّ الرئيس العتيد ليس قادراً على معالجة حتى التافه من القضايا إلا بالاصطفاف إلى جانب قسم من القوى الداخلية، فيستطيع عندها تحصيل مكاسب له مهما بدت ثانوية. وإذا كان الرئيس قد أصبح على هذا القدر من التواضع، فلماذا هذا النواح لعدم انتخابه، بحيث ترفع بكركي صوتها عالياً ويحذر مجلس المطارنة من الأخطار؟

يتوجب علينا أن نعترف بأنّ لبنان هو البلد الشرق ـ أوسطي الوحيد الذي يؤدي فيه الموارنة دوراً أساسياً حيث أنّ موقع الرئاسة الأولى في لبنان محصور بهم فقط، وعندما لا ينتخب المجلس النيابي رئيساً جديداً، فإنهم يعرضون التسوية التاريخية بين اللبنانيين إلى خطر الانفجار لأنّ التسوية التاريخية تقضي بتحاصص رئاسي بين ثلاثة أطرف: رئيس الجمهورية الماروني، رئيس مجلس النواب الشيعي، ورئيس الحكومة السنّي. فكيف يستقيم هذا التوازن الميثاقي بغياب الرئيس الماروني؟

هناك مسألتان تثيران قلق المراكز المارونية الكبرى، وهما احتمال تعوّد اللبنانيين على بلدهم من دون رئيس جمهورية في ظلّ حكومة تسير أعماله، وخشية الموارنة من خسارة رئاسة الجمهورية لأنّ البلاد تخضع حالياً كما منطقة الشرق الأوسط لصراع سنّي ـ شيعي، وقد لا يسمح الرابح من بينهما للموارنة بالاحتفاظ بالموقع الأول وطنياً.

أضف إلى ذلك أنّ عدد المسيحيين في لبنان يتناقص بسبب الهجرة والتكيّف في بلدان الاغتراب، وهذا يعني تدنّي عدد المسيحيين إلى أقل من عدد مذهب إسلامي واحد من بين السنّة والشيعة، وهي مسألة تثير القلق على المستقبل القريب عند المسيحيين من احتمال خسارة دورهم السياسي.

لم تتمكن المرجعيات المارونية الكبرى من تقديم إجابات حول الأسباب التي تجعلها تولول لعدم انتخاب رئيس. ألم يسبق للسنيورة أن رفض تقديم استقالة حكومته يوم انسحب منها الوزراء الشيعة ولم تعد بالتالي ميثاقية، لكنه استمر ولم يعبأ بالانسحاب؟ لماذا لم يسجّل مجلس المطارنة احتجاجاً على هذا الخرق الدستوري آنذاك؟

أمام هذا الواقع، على بكركي الدعوة إلى مؤتمر لبناني عام يعترف بانسداد القدرة على انتخاب رئيس جديد لأسباب إقليمية، ويطالب بميثاق شرف يوقعه رؤساء الطوائف اللبنانية والقوى السياسية الكبرى، شرط أن يسلّم بمسيحية الرئيس مهما بلغ عدد المسيحيين للمحافظة على الدور، كما يزيد من صلاحياته لاستحداث مرجعية تضبط الصراع السني ـ الشيعي.

هذا هو المطلوب من مراكز الضغط المارونية، وليس مجرد النواح على وضع لن يتغير إلا بقرارات إقليمية لم تصدر وقد تكون قريبة. فأنقذوا لبنان من محنته ولا تدفعوه إلى الهاوية لأنه لن يستمر إلا بميثاقيته التي تعتبر المسيحيين جزءاً أساسياً من حياته السياسية. ادعموا لبنان في محنته بالعقل لا بادعاء القدرة غير الصحيحة، ولكي يبقى لبنان علينا أن نحافظ على أدوار كامل مكوناته وخصوصاً المسيحية منها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى