أقلية يهودية فرنسية تبتز قصر الإليزيه
د. مصطفى يوسف اللداوي
تكاد لا تزيد نسبة عدد السكان اليهود الفرنسيين عن 1 من إجمالي عدد سكان فرنسا البالغ 67 مليوناً، إذ تشير أحدث الاحصائيات السكانية الفرنسية إلى أنّ عدد يهود فرنسا القاطنين فيها الآن يمثلون نسبة 0.72 فقط، أيّ أقلّ من نصف مليون مواطن، يتركز أغلبهم في العاصمة باريس، بينما يشكل المسلمون الفرنسيون من أصولٍ شتى، عربيةً وأفريقية وغيرها، نسبةً قد تصل إلى 8 من إجمالي عدد السكان، أي أكثر من خمسة ملايين مسلم، بما يجعل من الإسلام الدين الثاني في الجمهورية الفرنسية.
إلا أنّ نسبة اليهود الضئيلة العدد، فاعلة الوجود والأثر على العكس من عددها، إذ تلعب دوراً كبيراً في تشكيل السياسة الفرنسية، وتتحكم في القرارات السيادية للدولة على المستويين الداخلي والخارجي، وتمارس على الحكومة أدواراً ابتزازية واستفزازية، الأمر الذي يجعل منهم لاعباً أساسياً لا يمكن إهمال دوره، أو انكار تأثيره، وعاملاً مؤثراً في تحديد سياسة ساكن قصر الإليزيه، الذي يجد نفسه غالباً ينجرّ وراء الأماني اليهودية، ويحقق رغباتهم في فرنسا وخارجها، وخاصةً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، بما يرضي أمانيهم، ولا يخالف سياساتهم المعلنة والخفية.
تراعي الإدارات المحلية الفرنسية على عمومها، العادات والمناسبات اليهودية بصورةٍ لافتةٍ ومثيرة للانتباه والتساؤل، وتثبت أيام المناسبات والأعياد اليهودية في روزنامتها الرسمية، إذ فجأةً وفي غير المناسبات المسيحية الكبرى، تزدان باريس كلها والمدن الفرنسية الأخرى، وتتزيّن شوارعها، وتضاء ميادينها، وتوقد الشموع في ساحاتها وأمام رموزها التاريخية، وتسخر الشرطة والأجهزة الأمنية لحماية وحراسة الأماكن والمؤسسات اليهودية، ليهنأ اليهود الفرنسيون ، بالاحتفال بمناسباتهم، والفرح في أعيادهم، والصلاة في معابدهم.
بينما لا ينسى الرئيس الفرنسي توجيه رسالةٍ لهم، يهنئهم فيها بالعيد، أو يشاركهم المناسبة بنفسه، ويتمنى لهم السعادة والهناء، والسلامة والأمن والرخاء، ويدعو جموع الفرنسيين لتهنئتهم، ومشاركتهم احتفالاتهم، وعدم التنغيص عليهم في يوم فرحهم، أو الإساءة إلى رموزهم ومقدساتهم.
بل إنّ بعض الرؤساء الفرنسيين يبالغون في الاحتفاء، ويغالون في التهنئة والمباركة، ويظهرون فرحاً في مناسباتٍ يهودية أكثر من فرحهم بمناسباتهم، وكأنهم بفرحهم وبتهنئتهم يخطبون ودّ شعبٍ بأكمله، أو يخاطبون دولةً كبرى ويتودّدون إلى حكومتها، ويستسمحون خاطرها، ويتقدّمون إليها بآيات الولاء، وعلامات القربى والمودّة والشكر والعرفان، عبر جاليتها التي تسكن بلادها، وتتحكم في بعض قراراتها، وكأنهم سلطة فوق السلطة، فيكرمونها خوفاً من غضبها، أو استمالةً لها وحرصاً على رضاها الذي لا تبلغه.
يراعي الفرنسيون كثيراً اليهود ويحرصون على مشاعرهم، فيحيون معهم ذكرى المحرقة، ويضعون من أجلهم القلنسوة اليهودية على رؤوسهم، ويبكون حزناً عليهم وتضامناً معهم، ويعاقبون كلّ من ينكر المحرقة أو يشكك فيها، أو يقلل عدد الذين قتلوا خلالها، ويتهمون من لا يواسي اليهود في يومهم، أو يشاركهم فرحهم أو حزنهم بأنه معاد للسامية، وأنه بجريمته الأخلاقية يجب أن يحاكَم ويسجَن، أو يعاقب ويغرَّم، فقد اعتدى على مشاعر شعبٍ بأكمله، وتنكّر لعذاباته ومعاناته، وأساء إلى عائلاتهم وأسرهم المنكوبة، في الوقت الذي يرفضون فيه إجراء مقارنة بين عذابات اليهود ومحرقتهم، وبين ظلمهم واضطهادهم وطردهم لشعبٍ بأكمله، وكأن اليهود أمةٌ ينبغي ألا تظلم ولا تضام، وألا تعذب ولا تهان، بينما يجوز ذلك على أيديهم لغيرهم.
ورغم أنّ اليهود الفرنسيين في خمسينيات القرن الماضي كانوا أقلّ عدداً مما هم عليه اليوم في فرنسا، إلا أنهم استطاعوا من خلال نفوذهم ومناصبهم الرسمية، ومواقعهم الحكومية، أن يصنعوا حلفاً كبيراً بين باريس وتل أبيب، وأن يجعلوا من فرنسا داعمةً رئيسة للكيان الصهيوني، ومؤيدة لسياسته، ومدافعةً عنه، ومقاتلةً من أجله، وهي التي أشرفت على تزويده بمختلف أنواع الأسلحة المدمّرة، إذ زوّدته بطائرات الميراج التي كانت عماد سلاح الجو الإسرائيلي، والذي كان له الدور الأكبر في عدوان حزيران، عندما باغتت أسراب طائراتهم الحربية المطارات والطائرات العربية الرابضة.
كما أنّ فرنسا كانت وراء دخول الكيان الصهيوني نادي الدول النووية، ومكنته من بناء مفاعل ديمونا الذي يعتبر عمدة مشروعه النووي، وأساس ترسانته النووية الكبيرة، الذي يهدد به العرب، ويستقوي به على الشعوب، ويهدد به أمن المنطقة كلها، وقد كان هذا الإنجاز نتيجةً للجهود الكبيرة التي بذلها الموظفون الكبار في وزارة الدفاع الفرنسية، الذين كانوا على اتصالٍ دائمٍ مع شيمون بيريس الذي كان إبَّانها المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية، والذي يعتبر العقل المدبّر، والأب الحقيقي للمشروع النووي «الإسرائيلي»، الذي كان مشروعاً فرنسياً بجدارةٍ.
وما زالت فرنسا ترعى الكيان الصهيوني بما أمكنها، فتزوّده بالسلاح إنْ استطاعت، وتدافع عنه في كلّ المحافل السياسية، وتحول دون خضوعه إلى المحاكم الدولية، ولا تقبل بالإشراف أو الرقابة الدولية على مشاريعه النووية، ولا على مخازن أسلحته الاستراتيجية، وتنبري لصدّ أيّ هجومٍ عربي أو إسلامي أو دولي ضده، وترى أنّ الكيان الصهيوني يجب أن يبقى قوياً ومحصّناً، ومتفوّقاً ورادعاً، فلا يهدّد أمنه أحد، ولا يهز قواعد بنيانه نظامٌ أو جيش.
كما تريد للكيان الصهيوني أن يكون «دولةً طبيعية» في المنطقة، لها علاقاتها مع العرب ويعترفون بها، ويرتبطون معها باتفاقيات تعاونٍ، ويتبادلون التجارة معها، ولهذا تحرص الإدارات الفرنسية على أن يشارك في مناسباتها إلى جانب القادة والملوك والرؤساء العرب، مسؤولون «إسرائيليون» كبار، لتحدث بينهم علاقة علنية مكشوفة، تقبل بها الأنظمة وتسكت عنها الشعوب، ولعلّ مشاركة رئيس الحكومة الإسرائيلية في مسيرة باريس التضامنية مع حادثة «شارلي إيبدو» إلى جانب قادةٍ عرب، محاولة مقصودة من الحكومة الفرنسية لدعم الكيان الصهيوني، وتبرئته من تهمة الإرهاب الموغل بها، والتي يرتكبها وجيشه صباح مساء، دون ردّ دولي، أو اعتراضٍ أممي.
إنهم يهود فرنسا على قلة عددهم، يخططون وينفذون، ويملون ويأمرون، يفرضون سياستهم، ويلقون أوامرهم، ويضعون شروطهم، ويحدّدون مسارات قصر الإليزيه وسيّده، ببجاحةٍ ودون لياقة، وبفجاجةٍ غير لائقة، وبقلة أدبٍ بادية، لئلا يبعد أو يشط، أو يقصّر ويهمل، أو ينسى التزاماته ويفرّط في واجباته.
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
moustafa.leddawi gmail.com