لعبة شطرنج: اليمن سورية أوكرانيا
فارس رياض الجيرودي
يزداد التداخل بين ساحات النزال المتباعدة التي يخوض فيها المعسكران الدوليان المتواجهان معركتهما على مستوى العالم، إلى درجة أصبح فيها لأي نقلة في إحدى تلك الساحات أثرها المباشر والسريع على مواقف القوى المتصارعة في الساحات الأخرى، حتى غدا الصراع الدولي اليوم أشبه بمواجهة على رقعة شطرنج كبيرة، تتعقد خطوط المعارك فيها وتزداد تشابكاً.
ففي مقابل لعبة إغراق سوق النفط العالمية التي مارستها السعودية، ونجحت من خلالها في إلحاق خسائر ذات أثر بالاقتصاد الروسي، تلقى حلفاء أميركا الأهم في منطقة الشرق الأوسط السعودية وتركيا وإسرائيل ، خلال الشهر الماضي، ثلاث صفعات قاسية في حيزهما الجغرافي القريب الذي يدعيان قدرات ممارسة التحكم والسيطرة التامة عليه، وبدأ ذلك من اليمن حيث تبدو القوى المناوئة لكلّ من أميركا والسعودية، والمتحالفة مع محور المقاومة في آخر مراحل إنجاز ثورة مكتملة وتركيب نظام إدارة للبلد الممتد على معظم مساحة القاعدة الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، والذي يحوي أكبر كثافة سكانية فيها، ويمتلك أهم امتدادات ديموغرافية داخل دولها، بما يعنيه ذلك من آثار استراتيجية هائلة، أحدها ما يمكن أن يمتلكه حكام اليمن الجدد من إمكانات السيطرة على واحد من أهم معابر مرور النفط في العالم باب المندب ، والتهديد لحركة الأسطول «الإسرائيلي» في البحر الأحمر، وذلك بفضل ما يقال بأنهم حصلوا عليه من أسلحة إيرانية مشابهة لما حصل عليه مقاومو حزب الله في لبنان.
وسط كلّ ذلك، تبدو السعودية في حالة عجز شبه تام عن إبداء أي ردّ فعل ذي قيمة، مما يعني عملياً وبمنطق حقائق القوى، تسريع فقدان النفوذ السعودي في باقي الدويلات الخليجية التي بدأت أصلاً إدارة الحوار مع إيران، والتفلت من النفوذ السعودي التقليدي فيها، قبل التغير الدراماتيكي الذي يشهده اليوم جارها الإقليمي الأكبر اليمن.
بالتزامن، تلقت تركيا ضربة موجعةً على حدودها الجنوبية مع فشل الحملة التي قادها تنظيم «داعش» الإرهابي، بتكليف تركي، في السيطرة على مدينة عين العرب وتصفية وجود حزب العمال الكردستاني المسلح فيها، وتجد تركيا نفسها اليوم أمام استحقاق دفع فاتورة العبث بالنسيج الإثني في العراق وسورية، مع العلم بأنّ نسيجها الوطني يتكوّن من الخيوط ذاتها التي تكوّنه، ولن ينفع تركيا اليوم ما يطلقه زعماء الميليشيات الكردية من تطمينات، فهي تعرف أنّ الشرق التركي بأكمله هو الامتداد الطبيعي للنتوءات الكردية شمال سورية.
بعد ذلك، تلقت تركيا رصاصة الرحمة على أحلامها في السيطرة على حلب، بعد التقدم الذي أحرزه الجيش السوري في ريف المدينة الشمالي، واقترابه من إكمال الطوق حول المسلحين المدعومين من تركيا والمتحصّنين في أحياء شرق حلب.
لا شكّ في أنّ السقوطين السعودي والتركي كبيران ومدويان، لكنّ وانسجاماً مع المبدأ القائل: كلما كان الصعود عالياً وسريعاً كان السقوط مدوياً، ويبدو سقوط الأوهام التي بنت عليها «إسرائيل» حساباتها في ما يتعلق بهجومها في القنيطرة أشدّ دوياً وإيلاماً بالنسبة إلى كيان العدو الذي كان يدّعي القدرة على تأمين المصالح الأميركية في الإقليم، وصولاً إلى التهديد بتدمير المشروع النووي الإيراني، فيما يبدو اليوم عاجزاً حتى عن ردّ متكافئ على عملية شبيهة بعملية أسر الجنديين في مزارع شبعا عام 2006، والتي ردّ عليها يومئذ بعدوان واسع، فـ»إسرائيل» غدت بعد عملية شبعا عاجزة حتى عن ممارسة ما كانت تهدّد به من تدخل طيرانها لإنقاذ حلفائها الذين يتقهقرون اليوم على أرض الجنوب السوري أمام تحالف الجيش السوري مع المقاومة، فتجد نفسها مضطرة للوقوف منتظرة اقتراب أعدائها من جبهة الجولان وهي صامتة عاجزة.
لقد ارتقت «إسرائيل» إلى أوج مراحل صعودها، إلى مكان عال ضمن الاستراتيجية الأميركية العالمية، إلى درجة أنّ إتمام المصالحة الأميركية مع دولة عظمى كالصين في السبعينات، ارتبط بشرط الاعتراف الصيني بـ»إسرائيل»، واليوم يشعر الكيان الصهيوني بالتهرّب الأميركي من الالتزام الكامل بأمنه، فواشنطن ماضية اليوم في وضع اللمسات الأخيرة على تفاهمها الواسع مع إيران، متجاهلة كلّ الاعتراضات «الاسرائيلية» الصريحة، والتي انتقلت في القنيطرة من مرحلة الاعتراض اللفظي إلى محاولة التخريب على الأرض، ورغم ذلك لم يجدِ الأمر نفعاً.
لقد اضطرت هذه النقلات الثلاث الحاسمة الغرب، إلى التراجع عن التصعيد مع روسيا، وللاعتراف بها كقوة للحلّ في أوكرانيا، ما سهّل إنجاز وقف إطلاق النار في ذلك البلد، مع مراعاة مصالح روسيا، برعاية فرنسية ـ بريطانية ـ روسية ورضا أميركي.
وعلى قدر ما يشبه الصراع الدولي اليوم لعبة الشطرنج، إلا أنه يختلف عنها في أنّ حجارة الشطرنج تعود بعد حركة «كش ملك» إلى المواقع الأولى التي بدأت منها اللعبة، فيما يستمرّ الصراع على الرقعة الدولية من النقطة التي انتهى إليها الصراع من دون العودة إلى البدايات، لذلك تبدو التغيّرات التي طرأت على ميزان القوى العالمي غير قابلة للعكس، مما يعني أنّ على العالم بالضرورة الاستعداد لاستقبال نظام دولي جديد بدأت معالمه بالتشكل فعلاً.