مقاربات إبداعيّة ووجدانيّة لقصائد شعراء تقاسموا مع الناس والوطن آلام المحن
يتضمن كتاب «من حديث الشعر» للدكتورة نجاح العطار ملامح أدبية عن عدد من الشعراء الذين تألموا مع شعوبهم وتجاوزوا ما ألمّ بهم من محن لحقت بأوطانهم، فضلاً عن مقاربات فكرية لتداعيات هؤلاء الشعراء، في أسلوب أدبي رفيع يسمو إلى قصائدهم ويتخطى بعضها أحياناً بامتياز.
تعتمد الدكتورة العطار في كتابها الصادر حديثاً لدى الهيئة العامة السورية للكتاب على التفسير النفسي الاجتماعي فيمسي الشعراء المنتقون حقلاً لاستقرائها معالم صورة المكان وما تحمله من قيم دلالية أكثر التصاقاً بالمجتمع، راصدة تحولات أولئك الشعراء الذين كانوا يعيشون بين أهليهم وناسهم.
تشدّد المؤلفة على الجانب الشعري الوطني لدى الشعراء الذين عانوا من وطأة الاحتلال فتبنوا خيار موقف المقاومة، مثل خير الدين الزركلي الذي تصفه بشاعر الوطن والغربة والحنين، والذي تصدى في شعره لقسوة الاحتلالين العثماني والفرنسي اللذين حاولا النيل من حياته بسبب استنهاضه الهمم العربية، فحُكم بالإعدام مرتين، واضطر إلى الرحيل حاملاً معه أرضه ووطنه. من وحي ذلك تضع الدكتورة العطار ألفاظها ومفرداتها في إطارها الرمزي والدلالي قائلة: «حكمان بالإعدام في سنوات خمس.. وماذا يهمه فالذي اقتحم عالم الشعر من باب النضال.. وانطوت في رؤى شبابه أحلام الحرية والنهضة والتقدم ..كان يؤمن بأن الإنسان لم يخلق ليقهر وأن القوة أي قوة عاجزة عن قهره».
كما ترى العطار في محاكاتها عبقرية الشاعر محمد مهدي الجواهري أن حضور الإنسان في شعره على نحو ساطع أمر يثير التقدير والاعجاب، راصدة توهج المشاعر عند الجواهري: «إن العبقرية تتغذى من اهتمامات النفوس المعاصرة ونضالاتها وطموحاتها ومن فعلها وحركتها حين تجد نفسها في غمار صراع عظيم تشارك فيه ليغدو الشاعر كالمقاتل يكتب تاريخاً .. يكتب بالدم والحبر دم».
تقف العطار في كتابها أمام شاعر أميركا اللاتينية الأهم بابلو نيرودا الذي عرف بشاعر الشعب واعتبر من أكثر كتاب القارة اللاتينية جدارة بالاحترام، لما عرف عنه من شجاعة المواقف وحمل راية الكفاح على امتداد الكوكب. تسعى الأديبة العطار إلى الاهتمام بأصحاب المواقف الانسانية الذين دافعوا عن كرامة الانسان، وتخلص خرجت في مقاربتها الأدبية لبابلو نيرودا إلى أن النزعة الإنسانية الجماعية هي الأهم في الشعر: «ارتبط بابلو نيرودا بالطبيعة ارتباطاً عضوياً وانتمى ببراءة الدهشة لطفل اتسم بالرهافة والشاعرية.. أنبتته غابات تشيلي الصامتة والعطرة في مجاهلها السحرية ..ودروبها السرية..وخرج من أحضانها كي ينطلق مغنياً في أنحاء العالم»، تقول.
عن الشاعر «بدوي الجبل» محمد سليمان الأحمد تقول: «البدوي كان ترجماناً للدنيا ..من دنيا الذات إلى دنيا المشاعر.. فتجاوز بذلك دور الوسيط الناقل.. إلى دور البشير والنذير ..يقرأ لنا في الغيب ويأخذ بنا في دروبه ..ويشق لنا حجبه ..مبدياً من الرؤى العظيمة ما يحكي لنا قصة التاريخ وهذا الترجمان الذي كانه البدوي عن الذات الإنسانية والوطنية.. اقتضاه حياته كلها أن ينفعل تحت جلد هدوئه الظاهر.. أقسى الانفعال».
تنافس الأديبة العطار الشعراء في الانفعال الوجداني الحار، محوّلة عباراتها إلى مفردات شعرية وظواهر فنية متألقة تدلّ على قدرة تصويرية هائلة وشخصية خطابية مذهلة.
وفي الكتاب محاكاة لشعراء آخرين لا يقلّون أهمية عن المذكورين، مثل عمر أبو ريشة ومحمد كامل صالح ومصطفى جمال الدين وأمين نخلة وآخرين.
يتضمن الكتاب 479 صفحة قطعاً كبيراً المشاركات الأدبية للدكتورة العطار في حفلات التأبين والتكريم لشعراء سجلوا حضوراً مهماً على الصعيد الأدبي مثل عبد الوهاب البياتي وعبد الله يوركي حلاق وبلند الحيدري ومعين بسيسو، في نسيج أدبي متكامل يمضي بنا أيضاً إلى مي زيادة في العصر الحديث والأحنف بن قيس في العصر القديم، وسواهما ممن برعوا في الخطابة والفصاحة وأبدعوا مثلما أبدع غيرهم في الشعر والأجناس الأدبية الأخرى.
شغلت الأديبة الدكتورة نجاح العطار منصب وزيرة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، وهي اليوم نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية. نالت عدداً من الأوسمة الرفيعة أهمها وسام الصداقة بين الشعوب الممنوح من رئيس مجلس السوفيات الأعلى لاتحاد الجمهوريات السوفياتية سابقاً، ووسام الثقافة البولندية من حكومة الجمهورية الشعبية البولندية، ووسام الاستحقاق برتبة الضابط الكبير من الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، ووسام السيدة العظيمة من فرسان مالطة . من مؤلفاتها «حافظ الأسد الذي صنع التاريخ» و«نكون أو لا نكون… طرح القضية الفلسطينية وتداعياتها» و«النسيج الثوري بين آذار وتشرين» و«أدب المعركة أيام حرب تشرين» قصص بالاشتراك مع الأديب حنا مينا ، ومؤلفات أخرى في الفكر والمقالة.