المسلسل «الداعشيّ» مستمرّ والسعوديّة موطن الداء
جورج كعدي
عشرات المسيحيّين الآشوريّين وقعوا بالأمس أسرى في أيدي وحوش الموت والظلام «الداعشيّة» ويأمل العالم الإنسانيّ كلّه ألاّ يكون مصيرهم مصير العمّال المصريّين في ليبيا أو الطيّار الأردنيّ، علماً أن لا جديد ولا غرابة إن شهد العالم غداً مأساة جديدة.
الخبر، على فداحته ومأسويّته ورعبه، ليس هنا، بل في الجريمة المتمادية التي ترتكبها الأطراف الداعمة والمحرّكة والحاضنة لـ«داعش» والظلاميّة الدينيّة، وفي مقدّمها السعوديّة وقطر وتركيا، تحت رعاية أميركيّة تدير مشاريع الترهيب والتهجير والفرز الإتنيّ والمذهبيّ في المنطقة لرسم خرائطها وديموغرافيّاتها الجديدة الفوضى الهدّامة التي أعطيت بفذلكة لغويّة وقحة اسم «الفوضى الخلاّقة» أو «الفوضى البنّاءة» ، ووسط حبور وتصفيق من ربيبة الوحش الأميركيّ، الدولة المسخ «إسرائيل»، وكلّ ما يُفعل هو لمجدها ومجد سيّدتها الآمرة، وتحت أنظار سعوديّة وهّابيّة فرحة ضمناً بالغزوة «السنّية» الجديدة و«الجهاد السنّي» الذي يُخاض في بلاد الشام والعراق، شرط أن تبقى اندفاعته بعيدة عن مملكة آل سعود الظلاميّة الفاحشة. أمّا قطر «العظمى» المخيفة مساحةً وتعداداً وعراقةً وعلماً وثقافة وإنسانيةً! فهي مجرّد منصّة تآمر وقاعدة هيمنة للأميركيّين والصهاينة. وأمّا تركيا فهي القوّة المذهبيّة الناهضة، الحالمة باسترداد أمجاد السلطنة والزعامة الإسلاميّة في المنطقة، ولا تملك سبيلاً إلى إعادة السيطرة غير تأجيج العصبيّة المذهبيّة ودعم التنظيمات المتوحّشة من صنف «داعش» و«النصرة» و«الإخوان»، مهما زعمت العداء لأحدها أو ادّعت أنّها «مستهدفة» من بعضها، مثلما تحاول السعودية أيضاً إيهام العالم كلّه بأنّها ضدّ «داعش» والحقيقة أنّها ضدّ هذا الوحش الزاحف في الداخل السعودي فحسب، لا في «الملعب» الخارجيّ.
ملاحظة هنا حول ما حصل بالأمس: تركيا العظيمة الجبّارة هذه، التي قامت قبل أيّام باستعراض فاجر وتافه في سورية، ألم تكن قادرة على حماية سكّان قريتين في الحسكة المتاخمة لتركيا واستخدام عضلاتها العسكريّة لمنع «داعش» من أسرهم تمهيداً ربما لقتلهم؟! أليس هذا دليلاً دامغاً ضدّها ويعرّي أهدافها المشبوهة وأدوارها المجرمة في المنطقة!؟ إنه بالتأكيد برهان ساطع عن التحالف الضمنيّ القويّ القائم بين «داعش» والنظام الأردوغانيّ المجرم والمتآمر على أمّتنا جمعاء.
إنّ القوى المذهبيّة الظلاميّة المتوحّشة، على اختلاف مسمّياتها وشعاراتها «إخوان»، «داعش»، «نصرة»، «جند شام»… هي ذات منبع واحد وتحت إمرة واحدة، وقد تكون مموّلة من جهات نفطيّة عديدة، بيد أنها تدار من غرفة عمليّات مشتركة في دوائر الظلام الأميركيّة، ولا تنطلي مسرحيّة الاختلافات والتمايزات على أيّ مراقب متابع بدقّة وعليم بباطن الأمور لا بقشورها وظاهرها. إنّها مسرحيّة مكشوفة الأدوار والسياق والحبكة والفصول، ومن غير المجدي رصد التباينات والمواقف المعدّة للتغطية والتمويه، فالمؤامرة متعدّدة الطرف يقودها بدقّة «مايسترو» واحد هو الأميركيّ.
لِمَ السعوديّة هي موطن الداء، على ما أوردتُ في العنوان؟
لأنّ السعوديّة، مملكة الرمل والنفط والظلام والفحش ملوكاً وأمراء وحاشية ومنتفعين والتخلّف الاجتماعيّ والتعصّب الدينيّ والمذهبيّ، لم تعدّل حتّى الساعة النظر في ما تدرّسه في المدارس والجامعات من عقائد إسلاميّة سلفيّة تنتمي إلى «فكر» ابن تيميّة ومجموع فتاواه التي تلقّن على نحو عاديّ وتعتبر المؤسسات الدينيّة الإسلاميّة هناك أنها تخالف الشريعة! ومن تلك الفتاوى لابن تيميّة مثلاً فتوى «ماردين» التي تبيح لأتباع السلفيّة ومعتنقيها شنّ الحرب وفرض أحكام الشريعة الإسلاميّة حتى داخل الدول التي يدين أهلها بالإسلام. كذلك فتوى «التترّس» التي تنصّ على قتل المسلمين لإقامة الخلافة. أمّا قطع الأيدي والرؤوس، وفرض الجزية، وختان النساء، وتدمير القبور والأضرحة وسوى ذلك من الممارسات التي يقوم بها تنظيم «داعش» أو «الدولة الإسلاميّة» فنُصّ عليها كلّها في «مجموع فتاوى ابن تيميّة» الكتاب الذي يدرّس اليوم في السعودية وبعض الدول العربية! وأردّد في هذا السياق سؤالاً طرحه ابراهيم حيدر إذ قال: «ليس الخلط في التعليم الدينيّ المدرسيّ وما يدرّس في الجامعات السعودية بخاصة شكليّاً. إنّ حصيلته واحدة، فإذا سأل طالب عن تنظيم «داعش» أو مختلف التنظيمات الإسلاميّة الأصوليّة والسلفيّة والجهاديّة، فهل سيجيب المعلّم أنّهم آتون من مجتمعات همجيّة، أم أنّ هذه التنظيمات ولدت من رحم الفقه الإسلامي المتطرّف! هل سيقول إنّ هذه الحركات كلّها تستمدّ عقائدها من الفتاوى المتشدّدة التي نظّر لها ابن تيمية؟ وهذا ما يوجب الجهاد على المسلمين ضدّ من يسمّيهم الكفّار والمرتدّين والمشكوك في إسلامهم وغيرهم، بينما يشدّد فكر «الإخوان المسلمين» على أن دول العالم كلّها كافرة. وبالمزج بين هذين المفهومين، يرى المتطرّفون الإسلاميّون أنّ عليهم إعلان الحرب وإقامة الخلافة … ثم كيف يدرّس امتداد ابن تيمية مع سيد قطب الذي بلور فكر «الإخوان المسلمين» في القرن العشرين؟ وفي نظره: «الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردّون هذا الدين جديداً كما بدأ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون» … ».
كيف تكون السعوديّة ضدّ «داعش» وهي تلقّن تلاميذها وطلاّبها منابع العقيدة «الداعشيّة» وركائزها الفقهيّة وفتاواها الدينيّة بحسب محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية وسواهما من دعاة الفكر السلفيّ الذي يعتنقه إسلامويّو اللحظة التاريخيّة الراهنة؟! ألا يظهر الإحصاء أنّ أكثر من خمسين في المئة من السعوديّين يدينون بالفكر «الداعشيّ» ويؤمنون به ويؤيّدون «دولة الخلافة»؟
إذن، السعوديّة هي موطن الداء، تصدّر إلى المنطقة والعالم عقيدة «داعشيّة» متوحّشة، بائدة، متخلّفة، همجيّة، ثم تحاول كذباً وادعاءً التنصّل من تنظيم «داعش» وتصوير الأمر كأنّ خطره يداهمها أيضاً ربما على قاعدة ارتداد الوحش ضدّ خالقه . لكن لا ريب في أنّ السعودية هي المصدّر الأهمّ للظاهرة المدمّرة التي «تستوردها» الولايات المتحدة و«إسرائيل» وتستخدمانها أداة لتدمير المنطقة وتغيير خريطتها الحدودية والديموغرافيّة، تمهيداً لإخضاعها وحكمها إلى الأبد.