الأرض هي الثقافة
يوسف موصللي
أعتذر اليوم من أبناء أرضي البسطاء، وتزداد شدة اعتذاري لهم كلما ازدادت بساطتهم وقلّت «ثقافتهم»، تلك الحالة المسماة ثقافة وهي أبعد ما يمكن عنها، هي جو من الديكور والمظهر الحضاري ولكن من دون معنى، هي موجة تأثرنا بها منذ بدأت الحرب وقبلها، قادها عنّا من كنا نعدّهم قادة، فتبين أنهم تابعون لغرائز من هنا وعقد نقص من هناك، وما كان منهم إلاّ أن ملأوا الفراغ بين فراغهم والدور الذي يبغون لعبه بمختلف أنواع الأحاديث والأفكار المبعثرة. فظهروا وكأنهم يتمتعون بالغنى والقدرة على العطاء فيما هم بحاجة لمعانقة الأرض ليس إلا، لعلّهم يتعلمون من أبنائها البسطاء الأكثر التصاقاً بها.
سيبقى ينقص أبناء البلد كثيراً من المعرفة الحديثة والمصطلحات الثقافية وكوباً من القهوة الأميركية مع علبة سجائر مرتبة المظهر، لكنهم يتمتعون بأكثر من ذلك، فبقاء كأس الشاي على كرتونة مقلوبة في إحدى الورشات أجمل، والحليب الطبيعي الطازج في الصباح الريفي أرقى بكثير من كل اقتصاد السوق ومجتمع السوق.
في بداية أزمتنا في الشام انقسم مجتمعنا على انقسامه مرة جديدة، وهنا لا أتحدث عن الانقسام السياسي بل الفكري، إذ دأب المثقفون على تحليل الحوادث وربطها بما هو حديث وقديم، وصولاً إلى استنتاجات عدة وهنا كانت المصيبة، فقد برّر بعض اندفاعه العاطفي بعبارات منمّقة وأفكار مقنعة، فأسس تيارات فكرية لا عمق لها ولا أساس سوى حجة من هنا ورغبة من هناك. بعض آخر اقتنص الموقف لإطلاق غضبه «الثقافي» وانبرى يحمّل المسؤوليات ويوزع النسب بما يناسب مواقف دفينة قد حان وقت استثمارها ولو على حساب المنطق والحقيقة.
وحدها قلة قليلة من المثقفين أخذت وقتها في التحليل العميق واعتماد مناهج منطقية وصولاً للأسباب ومن ثم الوسائل الكفيلة بالحل، قبل طرحها على الشارع الثقافي الذي كان وللأسف قد احترق حتى ذلك الحين بترّهات من سبق. فضلّ بعض الشارع وأصاب الملل بعضه الآخر، وهنا توقف العقل المجتمعي وأصبحنا سفينة للغرائز والرغبات واليأس تقودها الظروف الخارجية والإرادات المختلفة كوسيلة سخيفة.
هنا تحديداً يتضح دور البسطاء الذين تمكنوا من رؤية الحقيقة على بساطتها. لم يأخذ مجرى الحوادث كثيراً من وقتهم حتى حددوا موقفهم وهو ليس بجديد، فالثابت فيه وكله ثابت هو الإيمان بالأرض والالتصاق بها من دون خيارات أو احتمالات، وكلمة الحق تقال في حقهم اليوم، نعم هم من دفع الفاتورة الأغلى وهم من حمى الوطن بالفعل، فإلى أبناء الأرض تحية إكبار وإجلال… فهي بكم تحيا.