رياضة الجسد والروح في «مدرحية» سعاده
حسن الخنسا
هو ليس لاعباً مشهوراً، ولم يحترف الرياضة أصلاً، كما لم يبغِ أن يكون أديباً أو فناناً أو عالم نفس أو عالم اجتماع أو غير ذلك. لأن ما شغل حياته واختلسها منه كان همَّ وطنه وقضية أمته وحياة قومه. في الأول من آذار كانت ولادة العلَم السوري الأعظم مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده. آذار الذي عشق بلادنا بقدر ما عشقته فجعلت فيه أجمل أعيادها، في حين أهداها هو أيقونةً ثمينةً جداً، وهبها الرجل ذو النظرة الاستشرافية الطامح إلى بناءِ الدولة السورية القومية الاجتماعية، ومنحها من أسس فكراً نشر فيها بذور حياتها ورسّخ فيها كينونة دولتها. وفي هذه الدولة للرياضة مكانها السامي كما الآداب والفنون.
إذا ما استرجعنا بعض أقوال سعاده حول الرياضة ـ على قلّتها ـ نجده يقرِنُها بالجاهزية العالية المطلوبة في كل آن، فهو يعتبر أن «الرياضة الحقّ يُقصد منها إبقاء الجسم سليماً مستعداً لكل طارئ». ويقول منتقداً في مقاله «عيوب الرقص والمراقص» من يعتقدون أن الرقص المبتذل حتى آخر الليل رياضة: «إذا كان الرقص رياضة فلا شكّ أنها رياضة تقود إلى الترهّل لا التصلّب والاشتداد… لماذا يشعر الراقص بصداع عندما ينهض من الفراش؟… لماذا يشعر هو بتراخٍ وكسل في أعضاء جسمه؟ لماذا يشعر بوهنٍ في قوّته البدنية، لماذا يشعر بضعفٍ في قواه العقلية حتى تُعجزه المسائل البسيطة؟ لماذا يشعر أن قلبه يكاد يقفز من صدره إذا ركض مسافة مترٍ أو أكثر قليلاً لحاجةٍ ما؟ لماذا يؤثّر عليه البرد كثيراً حتى كأنه ييبسه أو الحرّ حتى كأنه يخنقه أو يميته عياءً؟ لماذا يكون منخفض الصدر ومحدوب الظهر؟… هذه الأسئلة وأمثالها لا يمكن أن توجّهها إلى الذين يستعملون الرياضة البدنية الحق»، وإذا كان على الرياضي أن يثبت أنه عكس ذلك بحسب سعاده، فهو يجب أن يكون إنساناً صلباً ونشيطاً وقوياً ومتكيّفاً مع حرارة الطقس أيّاً كانت ومنتصب القامة ومتفتّح الذهن. ويتابع سعاده متحدثاً عن عَدوّ الرياضة والرياضيين: «كل من له أقلّ إلمام بالأوليّات الطبيعية والقواعد الرياضية، يدرك جيداً أن السهر وحده بدون أدنى عمل يُحدث في جسم الإنسان تاثيراً سيئاً وأن العمل الليلي ينهك الإنسان ويضعفه فعدم النوم في الليل عدوّ الرياضي اللدود».
لا يكتفي المعلم بانتقاد صفات غير الرياضيين، إنما يتحدّث عن ابراهيم بطل «قصة عيد سيّدة صيدنايا» مثنياً عليه فهو «مثالٌ فخم لقوّة الروح والجسد» إلّا أنه «يأنف من عرض قوته البدنية العظيمة» على رغم أن كل الشبّان «كانوا يحسدونه لعلوّه عن مستواهم في القوة البدنية وقوّة الإرادة».
هنا نلاحظ أمرين، أوّلهما إلصاقه مفهومي القوّة والإرادة، وثانيهما إشارته إلى قوّة الروح وكلنا يعلم أن الرياضة لا تقتصر على الجسد، فللروح أيضاً تمارينها التي تنعشها وتسمو بها. كثيرة هي الأقوال التي تناول فيها سعاده الروح وأهميتها التي توازي أهمية الجسد، وما يؤكد ذلك فلسفته التي أسس لها «المدرحية»، حتى أن سعاده ودّ لو لم يكن هو نفسه أن يكون «التيارات الروحية الدافعة نحو الرحابة والسمو!».
الرشاقة إحدى سمات الرياضيين التي يكون صاحبها محطّ إعجاب الجميع، ونتابع في القصة الآنفة الذكر وصف راقصة يقول فيه: «يراقبها في خَطوِها وتنقلها وسرعة دورانها ورشاقتها في انحنائها وتمايلها». وفي قصته الأخرى «فاجعة حب» ينتقص من قيمة نساء: «في وجوههن وعيونهن جمود غير طبيعي، جمود صيرّهن شبيهات بالتماثيل الرخامية الباردة، الخالية من دلائل الحياة، وأكثرهنّ من اللاتي ارتوت مفاصلهن وامتلأت أذرعهن وسوقهنّ واسترخت جسومهن وترهّلت حتى انعدمت فيهن دلائل النشاط ورشاقة الحركة ولطافة الجلسة». أما الشبان «أبناء العائلات فأكثرهن ممن نال حظاً وافراً من السمن والبدانة وبطء الحركة وبلادة الفهم». للفنون القتالية ذكر في القصة الأولى، إذ تأتي على سرد مبارزة أجريت بين الشخصيات، ولأن المناقب تأخذ محلاً عالياً في صلب الفكر والعقيدة القومية، نرى الزعيم يربط بين الفنّ القتالي ونستطيع أن نجزم بأنه مهما يكن نوعه أو نوع الرياضة والأخلاق، إذ يعقّب في سياق السرد: «ولاحظ ابراهيم أن جرجس يستعمل في التسايف ضروباً لا يستعملها من عِندَهُ شيء من كرامة وآداب السيف، بعكس رشيد الذي كان نزيهاً في كل أبوابه. يجيب على ضربات الغشّ المسدّدة نحوه بضربات صريحة»، أما الخصم الذي لا يأبه بالقواعد الأخلاقية فنلفيه: «مستعملاً الضروب المعيبة لرجال السيف».
لعل ذكر سعاده للرياضة في مقالاته كان قليلاً نظراً إلى الظروف التي اقتضت انصباب كتاباته في منحى آخر، فحاولنا الاعتماد على ما يُفهم مما سبق ذكره، ولكن عُرف عنه ممارسته لركوب الدراجة وكذلك الخيل. الرياضة هي إحدى دلائل الأمم الحيّة وكذلك إحدى إسقاطات الرقيّ والوعي لدى مواطني هذه الأمم وهي من الأوجه الحضارية لها، وفي ذلك يعتبر الفادي أن الرياضة والفنّ هما علمان من أعلام تطوّر المجتمع وتقدّمه.
ولأن الرياضة فنّ نستذكر قول المعلم: «لو لم أكن أنا نفسي، لأحببت أن أكون صور الفنّ مدهونة أبدع دهان!».