قصة تعريب جعجع عربياً
يوسف المصري ـ «البناء»
يعود إلى مصر حسني مبارك، الفضل في تعريب فكرة تبييض صورة سمير جعجع عربياً، والعمل لتنقية تاريخه الأسود كقاتل للرئيس الكبير الشهيد رشيد كرامي وكمتعامل مع «إسرائيل».
ولهذه الفكرة قصة طويلة تضمّنت مخاضاً لم يكن دائماً سلساً، روى تفاصيلها وخفاياها لـ«البناء» دبلوماسي عربي مطلع على كواليس السياسة الخليجية، وذلك منذ البدء بتعريبها وصولاً بتولّد القناعة بترشيحه كرئيس ولو للمناورة لرئاسة الجمهورية.
وقائع القصة
بدأت بعض إرهاصات قصة علاقات جعجع العربية في مصر، والمفارقة، أنّ فكرة تقرّب القاهرة من جعجع ولدت في وقت واحد، مع فكرة وزير الاستخبارات المصري الراحل اللواء عمر سليمان التقرّب من قائد الجيش حينها، الرئيس ميشال سليمان، لكن العلاقة مع جعجع مرّت بمخاض طويل. ويبدو أنّ مخططي التقرّب في القاهرة من الرجلين لم ينشئوا صلة بين الأمرين. فميشال سليمان كان حصاناً رابحاً لصورة العسكري الديمقراطي. وهذا ما كان يريده عمر سليمان، الباحث حينها عن وراثة الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وتسليط الضوء على مشهد الدور السياسي لا الأمني فقط للعسكر في حلّ أزمات دول المنطقة.
أما جعجع، فهو في عيون الشارع العربي، شخصية تحمل على كتفيها إرث الذاكرة السيّئ عن ماضيها، ضدّ المسلمين. ولتجاوز هذا المعنى لجعجع، صيغ في الكواليس العربية «المعتدلة» مصطلح «تعريب جعجع»، ومعناه «تبييض صورته في عيون الشارع العربي، خصوصاً السنيّ منه».
ولدت هذه الفكرة أول مرة في الكويت، لا في مصر، التي تبنّت تطبيق مفاعيلها، فيما تهيّب الكثير من الدول العربية الإسلامية المحافظة، إعلان انفتاحها على جعجع، مخافة ردود فعل شارعها.
ومن دون أن يقصد، قدم النائب وليد جنبلاط إلى جعجع خدمة كبيرة، وذلك على مستوى جعل أنظار الخليجيين تتجه إليه. وثمة في دول الخليج من يجزم بأنّ تفكير «عرب الاعتدال» بجعجع، ولد نتيجة ميلهم إلى إجراء مقارنة بينه وبين جنبلاط. فكلاهما حينها كان حليفاً لقوى 14 آذار، لكن الأخير استمرت الشكوك في ولائه أو حتى في أسباب هذا الولاء. فهو، من وجهة نظر ساسة الخليج، أكثر من براغماتي، إنه «أفعى تحت الوسادة»، وهنا التعبير مقتبس عن وزير خارجية خليجي. وطوال الفترة التي مثّلت ذروة تحالف جنبلاط مع سعد الحريري أيام الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، لم يستسغ السعوديون الإيحاءات المتعجرفة المسرّبة من جنبلاط، عن كونه هو من يقود السعودية و«السنية الحريرية»، معاً، في لبنان، لا العكس. ورداً على هذا الإيحاء الجنبلاطي، قال السعوديون في كواليسهم: «هل من أحد يصدّق أنّ المختارة تقود مكة».
شرّ لا بدّ منه
وفي غمرة الاستغراق الخليجي في الهواجس من جنبلاط، ارتأت الكويت أن يصبح جعجع هو حليف الحريري الرقم واحد في لبنان، بدلاً من جنبلاط، على أن تظلّ العلاقة بهذا الأخير في إطار تكتيكي، أو أشبه بدفتر شيكات تعوزه الملاءة، أو أيضاً تطبيقاً للقول الشهير «شرّ لا بدّ منه».
لا يعرف الخليجيون، ولا سيما السعوديون منهم، جعجع كثيراً. كان الرئيس رفيق الحريري، ثم مشايخ من دار الفتوى، قد نقلوا إلى السعودية صورة قاتمة عنه، «يكفي أنه سبق الآخرين في قتل رئيس وزراء سنّي». هذه الفكرة عنه، كان لها حضور عميق، ليس فقط عند صنّاع القرار السياسي في دول الخليج، بل أيضاً في وسطها الشعبي السني المحافظ. لذلك، حالما عُرضت فكرة «تعريب جعجع»، قابلتها دول الخليج، بدايةً، بموافقة حذرة. حتى الأردن، وهو من خارج دول الخليج، رفض استقباله، ليس لأنه لا يؤمن بأهمية خيار التحالف معه وصوابيته، بل خوفاً من استغلال الإخوان المسلمين ذي النفوذ في الشارع الأردني، مشهد رؤية الملك عبد الله يصافح صاحب التاريخ الأسود في قتل اللبنانيين وقاتل أفضل رئيس وزراء في لبنان. التحفّظ نفسه أبدته الكويت، على رغم اقتراحها الانفتاح، وأيضاً السعودية. وحدها مصر، تبرّعت بالقيام بمهمة فتح أبوابها له، واستقباله، وكسر ريبة حكام الخليج من ردّ فعل شعوبهم على استقبال جعجع.
وهكذا، سافر جعجع إلى مصر، في ظروف تطاير الشرر فيها من عيني الختيار مبارك ، ضدّ الرئيس السوري بشار الأسد. كان اللقاء حميماً بين الطرفين. قالوا له في مصر: «أهلا بك حليفاً، لا زائراً فقط». كانت الكويت تراقب باهتمام تفاعل زيارة جعجع إلى القاهرة، وبالأساس كانت ترصد ردّ فعل الشارع المصري عليها. لم يظهر أيّ مؤشر يوحي بأنّ الشعب المصري وأحزابه الإسلامية انتبهت لزيارته، أو أعطتها بعداً على صلة بذاكرتها عنه، أو قضية تورّطه في اغتيال رشيد كرامي. وصادف أيضاً أنّ الرئيس عمر كرامي، لم يقدم رسالة احتجاج لدى مصر على استقبالها قاتل أخيه، كما تحسّب المصريون. وهكذا مرّ اختبار مقبولية جعجع في الشارع العربي «السنّي»، بنجاح.
العدو العقائدي لحزب الله
في هذه الأثناء، كانت مطابخ رسمية في دول الخليج، قد أنهت صياغة رؤيتها حول «الجدوى من تعريب جعجع»، ووزعتها على الدول الحليفة لها في المهمة التي كان لها الأولوية آنذاك، وهي قتال حزب الله والإيرانيين والسوريين في لبنان.
وأبرز ما جاء في هذه الرؤية أنّ جعجع بخلاف كلّ مجايليه من القادة اللبنانيين، الذين شاركوا في الحرب الأهلية، أخضع نفسه لعملية نقد ذاتي جريئة، وقدم فعل الندامة على علاقته السابقة بـ»إسرائيل». ثانية نقاطها أن جعجع يعدّ «عدواً عقائدياً» لحزب الله ولنظام بشار الأسد، لذا يمكن الاعتماد على صلابة التحالف معه، وهو أقله لن يخلق لدينا ذات الهواجس التي تثيرها علاقتنا بجنبلاط البراغماتي والمصلحي وغير العقائدي. النقطة الثالثة أفادت بأن القوات اللبنانية تحت رعاية جعجع، تصلح لأن تكون القوة العسكرية الصلبة التي يمكن الاعتماد عليها لإحداث نوع من التوازن العسكري مع حزب الله. نقطة رابعة، أيضاً، تحدثت عن «جعجع الصلب» على الساحة المسيحية في مواجهة «عون القاسي» فوقها.
وصلت إلى جعجع بطرق ملتوية ملاحظات دول الخليج عنه. وهو بلا شك أدار، من جانبه، لعبة توطيد علاقته بهذه البيئة الخليجية الجديدة عليه، بنجاح مقنع. ويلاحظ أن جعجع يتعمّد المبالغة في إظهار صورته الأمنية الحديدية، أمام زواره العرب، وذلك في مناورة ذكاء منه، ليؤكد لهم ملاحظتهم عنه. ويشدّد على أنه الوحيد القادر على تحقيق نوع من التوازن الأمني مع حزب الله، كما يبالغ في إظهار حيويته التنظيمية أمامهم، لتعزيز انطباعهم، بعمق هذه الموهبة لديه، وبجدوى الاستمرار في تمويلها، وعدم الانقطاع عن ذلك، حتى في فترات وقف ضخ المال السياسي الخليجي لشركائه اللبنانيين في 14 آذار.
اليوم تفتح لجعجع صالونات الشرف في المطارات العربية ويتمّ دعم ترشيحه لرئاسة لبنان. وانتفت عقدة استقباله في الخليج. ومع ذلك، فإنّ أخبار زياراته الرسمية إلى بلدانها تنعكس في إعلامها الرسمي على شكل خبر مقتضب، إذ تعتمد المداراة في تقديم صورته إلى الشارع الخليجي.
«الكرم» العربي و«الوفاء» الجعجعي
يلاحظ أنّ الجولة الرسمية الأهمّ التي قام بها سمير جعجع آخر مرة لدول الخليج، بدأت بالكويت. وهذا ترتيب معروفة خلفياته، فهو يقول: «شكراً كويت» التي يعود إليها سبق الفضل في فتح الجزيرة العربية له. ثم زار السعودية، وثالثاً قطر. وهذا أيضاً ترتيب مقصود من قبله، فقطر لم تبتسم له، إلا لاحقاً، وتحديداً، عندما اشتعل الجفاء بينها وبين الرئيس الأسد. ثم بعد ذلك عرّج على الإمارات العربية المتحدة، التي تكن له وداً ينبع في الأساس من اقتناعها بأنه الحليف الأفضل. فخلال العام 2012 وصل إلى الخارجية الإماراتية طلبان منفصلان لزيارة سياسية من كل من جعجع وجنبلاط، وذلك في وقت واحد. دولة الإمارات وافقت على طلب جعجع «عندما يريد»، وأهملت طلب جنبلاط.
وخلال الفترة الأخيرة كانت تجري مقارنة شامتة داخل كواليس القوات اللبنانية، بين «كرم» الدول العربية الخليجية مع جعجع، و«بخلها» مع جنبلاط. وتقول الرواية القواتية إنّ جعجع حينما زار السعودية، استقبله في أقلّ من 24 ساعة، كلّ المستوى السياسي والأمني الرفيع في المملكة من دون استثناء. في المقابل، فإنّ جنبلاط يسعى عبثاً إلى ترتيب لقاء رسمي واحد في السعودية.
الحلقة الرابعة: جعجع المرشح المتوجّس