لبوسٌ أميركي جديد لجبهة «النصرة»

د. وفيق ابراهيم

يسارعُ الأميركيون إلى إنتاج «سربال جديد» لجبهة «النصرة» الإرهابية، لإعادة ضخها في التفاعلات السورية، كتنظيم مدني حديث ومقبول يرث «داعش» ومئات الشلل والتنظيمات المشابهة، وهذا الأمر يتطلب تخفيف الحمولة الإرهابية من تشكيلاتها المتنوعة وتغيير اسمها، ولا يمكن لهذا التخفيف أن يحدث إلا بقطع علاقة «النصرة» بتنظيم «القاعدة» الذي تتحدر منه عضوياً وتنتمي إليه.

أما تغيير الاسم، فمتعذر قبل إبعاد الأجنحة الإرهابية، وهكذا تعيد الولايات المتحدة الأميركية إنتاج السيناريو نفسه الذي دفعت به إلى الساحة السورية: تلبيس عناوين معتدلة لمنظمات يتبين فيما بعد أنها إرهابية وتشكل خطراً على الإنسانية جمعاء.

هناك مئات الشلل منها «أحرار الشام»، و«جيش الإسلام»، و«فيلق الشام»، و«جند دمشق»، و«لواء سيف الإسلام»، و«فرقة السلطان مراد» عثماني ، وتنظيمات حوران، وغوطة دمشق، والرقة، والحسكة، ودير الزور، كلها مثيل لـ«داعش» و«النصرة»، على المستوى الأيديولوجي، وهي تتلقى دعماً مثلث الاتجاهات: سعودي ـ تركي ـ قطري، وأحياناً «إسرائيلي»، وخصوصاً التنظيمات القريبة من حدود الجولان كجبهة «النصرة» التي تتلقى دعماً «إسرائيلياً» علنياً.

لماذا اختيار «النصرة» لقيادة المرحلة المقبلة؟ أولاً لأنها التنظيم الأقوى بعد «داعش»، ثانياً لأنها تتعاون من دون خوف مع «إسرائيل» وتتلقى منها دعماً واضحاً، ثالثاً لأنّها تُشكّل تقاطعاً تركياً ـ قطرياً ـ «إسرائيلياً»، تقبل به السعودية التي يهمّها إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد فقط، حتى ولو عن طريق الشياطين.

يبدو أنّ أميركا قرّرت بسرعة تحويل «النصرة» إلى منظمة مدنية، فتبين لها أنّ هناك جناحين بقيادة سورية وأجنبية، والأجنبي أكثر تطرفاً وعدوانية ويرتبط مباشرة بقيادة «القاعدة» في أفغانستان، لذلك فهي تسعى إلى تدمير الجناح «الأجنبي» بتزويد أعداء «النصرة» في سورية من التنظيمات المنافسة بمعلومات دقيقة عن أفراده للفتك بهم، وكادت خطتها تنجح لولا النظام السوري الذي استوعب خطة «الكاوبوي» الأميركية.

كانت معركة القنيطرة لاستهداف «النصرة»، تحديداً بكامل أجنحتها، وكذلك غارات الطيران الحربي السوري الذي أباد في قصف واحد نحو أربعة عشر قيادياً لـ«النصرة» من السوريين، وعلى رأسهم القائد الميداني الفعلي «أبو همام الشامي».

يتبين، بالاستنتاج، وجود نهج أميركي متجدّد في الشكل وثابت في المضمون، وهو استخدام التنظيمات الإرهابية بأزياء جديدة تسترها إلى حين، وعندما تسقط عسكرياً وأيديولوجياً يجري استبدالها بأخرى، وذلك في إطار لعبة مميتة، هدفها الوحيد الاستمرار في تدمير سورية واستنزاف شعبها.

ماذا عن النتيجة حتى الآن؟

هناك صراع بين أجنحة «النصرة» التي تصرّ على الاستمرار في مبايعة «القاعدة» الأم، باعتبارها المجسِّدة الفعلية للسلفيين التكفيريين، وصراع بين «النصرة» و«داعش» وإخوانهما وآخرها مع ما يسمى الجيش الحر، وذلك للاستئثار بتمثيل السلفية التكفيرية، واحتلال مساحات أكبر من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضات لتدمير الوجهة الجديدة لـ«النصرة». وتتمثل الأجنحة المهادنة بـحركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» اللذين فاوضا الأميركيين طويلاً في قطر، وكادت المفاوضات أن تؤدي إلى نتيجة لولا بعض التفاصيل الفنية التي تواصل الدوحة مناقشتها مع المعنيين. هناك إذاً «فتوى سلفية تكفيرية» بمناقشة الأميركيين واعتبارهم من أهل «الكتاب» الذين يجوز إبرام معاهدات ومواثيق معهم، ويجوز كذلك تلقي العون من اليهود في الجولان بالذريعة نفسها والله مسامح.

وإذا كانت تركيا وقطر مستفيدتين من تعويم «النصرة» لارتباطها الوثيق بهما، فما هو دور السعودية؟ هنا تظهر الحقيقة التي تقول إنّ التنظيمات الإرهاب واحدة، وتتلقى، في وقت واحد، الدعم من مثلث قوى إقليمي يغطي السلفية التكفيرية على أنواعها منذ بدء الأزمات في المنطقة قبل أربع سنوات، أي تركيا والسعودية وقطر، وما يؤكد ذلك هو التأنيب الذي وجهه آل سعود للرئيس السيسي لقصفه مواقع «إسلاموية» في ليبيا تابعة للإخوان المسلمين الذين هم على علاقة سيئة مع الرياض أو يفترض ذلك، وإصرار تركيا على دعم «داعش» في سورية على الرغم من كلّ المحاولات الأميركية لسحب أنقرة نحو مواقع تأييد جديدة ضمن تشكيلة الإرهاب التكفيري المختلف في المنطقة، لكنّ أولوية الأتراك الدائمة تنحصر في هدفين: إسقاط مشروع الدولة الكردية وإسقاط النظام السوري، وهما يؤديان على الفور إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي، أي إعادة إنتاج الأمبراطورية العثمانية لصاحبها السلطان أردوغان وشركاه الغرب وإسرائيل .

ماذا الآن عن ردود فعل النظام السوري؟

لا يُبدي كبير فرق بين أسماء التنظيمات، لأنه متأكد من وحدتها الأيديولوجية على مستوى الارتباط بـ»القاعدة» والسلفية الوهابية، وهو يعرف أنّ مرجعياتها موجودة في المثلث السعودي ـ التركي ـ القطري، برعاية أميركية مباشرة ودقيقة، تؤدي دور «القدر» الذي يسمح لجهة بالصعود، مبيحاً تدمير أخرى ومتيحاً لقوى جديدة الجلوس على مقاعد الانتظار، لذلك يهاجم الجيش السوري كلّ ألوان الإرهاب في النقاط التي تحدّدها استراتيجيات تنظيفه للأراضي السورية، رافضاً التمييز بين جهة وأخرى، إلا بمدى خطورتها وتموضعها في أماكن يريد تحريرها.

وفي المحصلة، فإنّ الجهود المبذولة لتدمير النظام السوري تكفي حسب الخبراء لإطاحة معظم أنظمة العالم العربي، ويأتي ألف «داعش» ومليون «نصرة» وأشباههما، ولا يبقى في الميدان إلا سورية المنتصرة بنظامها وشعبها وجيشها تلقن الأعداء الظلاميين، مهما بدّلوا ألبستهم، دروساً في فنون الدفاع عن الانتماء التاريخي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى