مسرحية «سهرة في المقبرة»… كوميديا ساخرة تحاكي الواقع وتناقضاته

كتبت فاطمة ناصر وبسام الإبراهيم من اللاذقية ـ سانا : حتى المقابر لم تعد هادئة أو آمنة: رمزية لاستهداف الحضارة التي تجسدها سورية، وللقامات الفكرية والثقافية التي خلدها تاريخها، وجدت طريقها إلى جمهور المسرح القومي في اللاذقية الذي شاهد جدلية ثنائيات متناقضة في العرض المسرحي «سهرة في المقبرة». كوميديا ساخرة حاول مؤلفها ومخرجها الدكتور محمد بصل، بحسب قوله، محاكاة الأزمة في سورية، عبر بنية حكائية غير مسبوقة يتفاعل فيها الحلم مع الحقيقة والممكن والمستحيل والجمالي والقبيح، في ثنائيات لا تنتهي وتستدعي موقفاً من المتلقي حيالها.

المسرحية التي أداها الممثلون حسين عباس وفايز صبوح ونجاة محمد ومجد أحمد ونضال عديرة وآخرون تبدأ عندما يحاول بطل العمل حسين عباس حارس المقبرة «أبو نوفل» في حلمه استحضار شخصيات سورية، بينها نزار قباني وسعد الله ونوس وممدوح عدوان، وصولا إلى المعري والمتنبي، تبعاً لوصية والده الدائمة الذي مثل الضمير مجد أحمد لتخرج إليه شخوص غريبة عن المجتمع السوري ضلت هديها وطريقها لتموت على أرض سورية، إما طمعا بالمال، أو سعياً وراء «الحوريات»! وطوال العرض يرفض «أبو نوفل» فكرة فايز صبوح مؤدي شخصية صاحب التنور «أبو هيفا» وابنته «هيفا» نجاة محمد بأن الشخصيات التي يحاول استحضارها تركت المكان، فالعباقرة بالنسبة إليه لا يتركون بلدهم لأنهم يحبون ترابه ويستحيل أن يغادروه.

تناقضات الحلم والحقيقة والحياة والموت والثقافة والجهل التي وضع مؤلف العمل الجمهور أمامها كانت الطريق إلى تعرية الأفكار الرخيصة للدخلاء على المجتمع السوري، في قالب كوميدي لم يخل من الجرأة في أكثر من مجال، كما لم يخل من الغناء والرقص لينتقل بالجمهور إلى معايشة الأزمة التي يمر بها بالنكتة الخفيفة والمضحكة. والعرض الذي يستمر عرضه لأكثر من أسبوعين يركز على لفت الجمهور إلى الإرث الثقافي الذي خلفه أجدادنا والحضارة التي بنوها وجبلت بالفكر والعلم، ومحاولات استبدال ذلك الإرث بآخر لا يمت إلى القيم بصلة، يسيره الطمع وحب المال والغريزة.

يقول الممثل حسين عباس إن المسرحية تمثل تجربة من عدة تجارب أخرى، مضيفاً: «أردنا كمجموعة عمل أن نقدمها في إطار كوميدي يحترم الجمهور، ودارت مناقشة مع المؤلف منذ بداية كتابة العمل حول ما يمكن تقديمه إلى الناس خلال هذه الفترة، وكان في الإمكان إبكاء الناس بنص تراجيدي، وذلك أسهل من إسعادهم أو حتى عبر تقديم كوميديا تهريجية لكن فريق العرض حرص على احترام الجمهور وتقديم أفكارنا بأسلوب راق ومسل ليخرج الجمهور مبتسماً، لافتاً إلى أن المشاركة في النشاطات الفنية في المحافظة تحمل، بغض النظر عن ماهيتها، رسالتين، الأولى أننا موجودون والثانية هي الرد على استهداف سورية على المستوى الفكري والثقافي، على نحو ما يفعل الجيش العربي السوري في الميدان إذ يدافع عن وجودنا.

من ناحيته يرى الممثل مجد أحمد مؤدي شخصية الراوي والأب أن المسرحية تتناول المواجهة الحقيقية مع الفكر الظلامي والتخريبي الذي يشن هجوماً على ثقافتنا وحضارتنا، وإلى أي مدى نحن قادرون على مواجهته والتمسك بجذورنا الحقيقية، معرباً عن أمله في أن يكون العمل أوصل هذه الرسالة إلى الجمهور.

نجاة محمد التي تؤدي دور «هيفا» تعتبر أن المسرحية تهدف إلى إيصال رسالة أن الشعب السوري قوي ومنتصر، وأن الثقافة التي يحملها ويكتنزها تاريخه هي رافعة لهذا الانتصار.

الفنان التشكيلي محمد بدر حمدان مركّز في ديكورات المسرحية على التناقضات أيضاً لتجسيد الحلم، جاعلاً شواهد القبور عبارة عن مجلدات حملت اسم الكاتب. وما لم يطرحه نص المسرحية وتغاضى عنه نتيجة التفاؤل الذي تضمنه لم ينكره الديكور، إذ يقول حمدان: «لم نتغاض عن الشجرة الأخطبوطية التي تلتهم المكان وكان لونها أسود فاحماً في قراءة للواقع الذي نعيشه»، مؤكداً أن الديكور شخصية مهمة يجب أن تأخذ حقها في الحلم، ومبيناً في الوقت نفسه أن المقبرة امتدت إلى نهاية المكان واحتضنتها لوحة فيها تتابع للحلم بحيث حمل السلم في منتصفها دلالات الحلم والأمل مستقبلاً.

مدير الثقافة في المحافظة مجد صارم حضر العرض وأكد أن المسرح في اللاذقية في حاجة إلى مثل هذا العمل الأكثر من رائع والذي يجسّد الصراع الدائم بين الخير والشر والعلم والجهل، معتبراً أن العمل لامس الواقع الذي نعيشه وأن مؤلفه ومخرجه وفق في اختيار الكوميديا الساخرة أسلوباً للعرض وأسعد الناس رغم ما يعيشونه من ألم.

ربا حداد، خريجة معهد فنون من الجامعة اللبنانية، وصفت العمل بـ«الخفيف للمتلقي» إذ حاكى قضية مجتمع نعيش واقعه الحالي بـ«سذاجته»، مشيرة إلى ان العمل ضم شخوصاً رائعة، مبدية إعجابها بشخصية «الضمير» وطريقة أدائها، رغم أنها لم تخف امتعاضها من الجمهور الذي ضحك النكات بسيطة وأخرى كانت مكررة لا تستحق بحسب تعبيرها.

نجحت المسرحية، رغم عنوانها المثير للجدال، في استقطاب جمهور واسع لمتابعة العرض الذي استمر نحو ساعة، معزّزة أهمية الفن والمسرح في حياة الشعوب والتشوّق إلى أعمال فنية من هذا النوع، خاصة بين الشبّان الذين شكّلوا غالبية الحضور.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى