القاهرة تاريخاً وراهناً في دراسة شائقة لنسمة السيّد

يقول المستشرق ستانلي لينبول في كتابه «سيرة القاهرة»: «إن من لم ير القاهرة، لم ير الدنيا، فأرضها تبر، ونيلها سحر، ونساؤها حور الجنة في بريق عيونهن، ودورها قصور، ونسيمها عليل كعطر الندى ينعش القلب، وكيف لا تكون القاهرة كذلك وهي أم الدنيا؟»، بينما يقول اولغ فولكف مؤلف كتاب «القاهرة مدينة ألف ليلة وليلة»: «من لم ير القاهرة، لم ير شيئاً»، في حين يرى روبرتو سانسفرينو أن من الأفضل ألا يتحدث عن مدينة القاهرة، لأنه كلامه سيؤخذ على أنه أساطير، فهي عظيمة الاتساع إلى حد لا يصدق.

بهذه العبارات وغيرها تفتتح نسمة السيد محمد السيد دراستها «القاهرة العاصمة المصرية… تاريخها حتى عصرنا الحديث»، شارحة أن القاهرة هي «تلك المدينة الطولية» التي تمتد من حلوان في أقصى الجنوب إلى شبرا الخيمة في أقصى شمالها، بطول أكثر من أربعين كليومتراً، وإن يكن عمقها عند القلب لا يتجاوز ثلاثة كيلومترات من النهر إلى الجبل.

توضح الباحثة في كتابها الصادر لدى «دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع» أن القاهرة لم تكن على نهر النيل، بل كانت بعيدة عن النهر، لكنها أصبحت اليوم جزءاً من النهر. وتضيف أن لهذه المدينة سحرها الخاص الذي يصعب تعليل مصدره، لذا احتلت مكانة مرموقة بين المدن في العالم كله. وتؤكد أن القاهرة تستأثر وحدها بنصف سكان العواصم الأفريقية الخمسين مجتمعة. وترى أن للقاهرة جذوراً في المكان منذ العصر الفرعوني وقبل الفتح الإسلامي لها عام 20 هـ، والمدينة هي امتداد لثلاث مدن هي الفسطاط والعسكر والقطائع، نمت وازدهرت وأضحت عاصمة للعالم العربي في ظل الدولة الأيوبية، وبعدها في عصر المماليك.

توضح نسمة السيد في كتابها 240 صفحة قطعاً وسطاً أن لكل حي من أحياء القاهرة تاريخاً وحكاية طريفة ومثيرة، وقسمت كتابها سبعة فصول، الأول عن المدن المصرية الفساط والعسكر والقطائع قبل إنشاء القاهرة موضحة أوصاف هذه المدن وتخطيطها وما بقي لها من آثار، وما مُحِي مع الزمن، مع الإشارة إلى الدافع السياسي والديني وراء إنشاء هذه المدن، وقيمة هذه المدن في الفترة الزمنية التي أنشئت فيها.

وفي الفصل الثاني عن بناء القاهرة، إذ وقفت على بناء جوهر الصقلي للمدينة بأمر من قائده المعز لدين الله الفاطمي، بعد دخولها غازياً من بلاد المغرب العربي، وتغلبه على الحاكم الإخشيدي وإنشائه أربعة أبواب للمدينة هي: باب النصر، وباب الفتوح، وبابا زويلة، وبنائه للجامع الأزهر.

والفصل الثالث حول ما وصلت إليه القاهرة في عهد صلاح الدين الأيوبي من منجزات خلاقة، إذ بنيت القلعة وأنشئ سور يحيط بالمدن الأربع الفسطاط والعسكر والقطائع والقاهرة وأخطاط القاهرة حاراتها وبنيت القناطر، وحفرت بئر يوسف، وبني مارستان مستشفى ومدارس المدرسة القمحية والمدرسة الصلاحية والمدرسة السيفية والمدرسة الشافعية، إلخ . وتوضح الباحثة أن في عهد ابن صلاح الدين، الملقب بالعزيز، انتشر الوباء ومات الناس بالمئات، وبعده اتخذ نجم الدين أيوب الروضة مكاناً لحكمه بعدما أنشأ فيها قلعة وبساتين وقصورا.

الفصل الرابع تحت عنوان «القاهرة في عهد المماليك» يستعيد ما وصلت إليه القاهرة في عهد المماليك مع اتساع مساحتها ومعرفة أبنيتها نهضة كبيرة، إذ بنيت القصور الفارهة والمساجد الشامخة والقباب العالية، والأضرحة والأسبلة، والمدارس والحانات والحمامات، وتحولت القاهرة إلى مدينة تجارية، ومركز للنقل التجاري العالمي، وعلى طول شارع بين القصرين أنشئت الأسواق الرئيسية وامتدت في الشوارع المجاورة، وأصبحت القاهرة مركزاً رئيساً للتبادل التجاري بين الشرق والغرب، والتغير الكبير الذي طرأ في أحيائها: الحي الجنوبي الممتد إلى الفسطاط، والمنطقة الشمالية الغربية للعاصمة، والاندماج التدريجي لجزيرة بولاق، وبناء المتاجر والحمامات بها، وإعمار منطقة بولاق وحفر الخليج الناصري، وإعمار أرض الطبالة وإعمار منطقة الأزبكية، إلخ. وفي هذا الفصل تتوقف الباحثة عند أعمال أربعة سلاطين كان لهم دور بارز وخلاق في إعمار القاهرة في تلك الفترة وهم: الظاهر بيبرس، والسلطان الناصر محمد بن قلاوون، والسلطان قايتباي، والسلطان الغوري. وعن القاهرة في عهد العثمانيين تشير إلى فترة التخلف والتردي السياسي فترة العثمانيين بين عامي 1517 و1800 التي كان لها أثرها في إعمار القاهرة، فلم نجد قاهرة المعز في تألقها، ولا قاهرة الأيوبيين والمماليك التي وقفت حجراً صلداً في وجه هجمات الصليبيين والتتار، بل وجدناها مدينة تكثر فيها القاذورات والأوبئة والمدافن، وما تثيره من رائحة، ومن مياه البرك الراكدة، وإن حدث في بعض الأحياء كشارع الموسكي وحي ابن طولون وحي بولاق، إلخ، ولكن هذا التوسع كان محدوداً ولم يشمل المدينة بأسرها، لذا قال عنها أحد الرحالة الأجانب: أهذه القاهرة؟! إنها لا تستحق ما يقال عنها.

الفصل السادس عن دور الحملة الفرنسية في إعمار القاهرة، إذ جاء نابليون غازياً ولأطماع استعمارية، فهدم كثيراً من إحياء القاهرة رداً عل ثورتي القاهرة الأولى والثانية، مثل حي الحسينية وبولاق، أكثر مما عمر، والدور الإيجابي في عهده تمثل في تنظيمه للشوارع ورشها وحركة المرور بها.

الفصل السابع في قسمين، القاهرة في القرن التاسع عشر، والقاهرة في القرن العشرين، ففي القرن التاسع عشر وقفتْ فيه على دور محمد علي في تنظيم القاهرة، وجمع الأوساخ والقمامة وتنظيم الطرق وتوسيع الأحياء وإنشاء أحياء جديدة، كذلك دور الخديوي إسماعيل الذي يعد باني مصر في العصر الحديث لناحية التنظيم الإداري، وإنشاء خطوط السكك الحديد التي تربط بين القاهرة والإسكندرية والسويس، ومشروع إنارة القاهرة، ومشروع توصيل المياه إلى البيوت، وإنشاء أحياء جديدة.

أما القاهرة في القرن العشرين فتقف فيه الباحثة عند الصورة النهائية للقاهرة التي نراها اليوم، لأحيائها الكبرى، ودور كل من ساهم في تشييد هذه الأحياء، واستلزم هذا الوقوف على نشأة هذه الأحياء وتطورها مع الزمن، وأهم معالم هذه الأحياء، ومصدر عراقتها وأصالتها. وأهم هذه الأحياء: باب الحديد، باب الشعرية، الأزبكية، العتبة، بولاق، مصر الجديدة، الحسينية، العباسية، قصر القبة، شبرا، حي الحسين، السيدة نفيسة، حي السيدة عائشة، والسيدة سكينة، إلخ.

ابن بطوطة الذي اجتاز أكثر من 75000 ميل 121000 كيلومتر ، في رحلة استغرقت 27 عاماً طاف فيها بلاد المغرب ومصر والسودان والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن وعُمَان والبحرين وتركستان، وما وراء النهر وبعض الهند والصين وجاوة وبلاد التتار وأواسط أفريقيا، وإتصل بكثير من الملوك والأمراء، وضع كتابه «تحفة النظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وفيه يقول عن القاهرة: «القاهرة أم البلاد، ذات الأقاليم العريضة، فهرت قاهرتها الأمم، وتملكت ملوكها نواصي العرب والعجم، لها خصوصية التي جل خطرها وأغناها عن أن يستمد القطر قطرها، كريمة التربة، مؤنسة لذي الغربة». أما أولغ فولكف فيقول: «قليل من المدن تلك التي يمكن أن تثير خيال المرء لدى سماع اسمها مثل مدينة القاهرة. إن هذا الاسم يبعث في النفس صوراً وخيالات بطولية رائعة».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى