«داعش» والحضارات…

عصام الحسيني

يشهد تاريخ الحضارات الإنسانية، لوحات مضيئة من الثقافات المتعدّدة، التي تمتزج في ما بينها، لتنتج مشهداً حضارياً متجدّداً، يسعى نحو حياة إنسانية أفضل.

وخلافاً للفكر الليبرالي الحديث، والذي يعمل على توجيه هذا التنوّع الحضاري، نحو صراع للحضارات، يشعّ من الشرق فكر متجذر في الإنسانية، يسعى إلى ثقافة التلاقي، بين «الأنا» و«الآخر».

لقد عاشت ثقافة الاعتراف بالآخر، في ضمير هذا الشرق، لحقبة تاريخية طويلة، وكان رمزاً وجسراً للتلاقي الإنساني، مع كلّ الشعوب التي استوطنت أو عبرت هذه البلاد، بكلّ أفكارها وعاداتها وتقاليدها وتمايزها الديني والعرقي.

وكان كلّ شعب يعبّر عن ذاته، من خلال ثقافته الخاصة، والتي كانت تأخذ أشكال رموز وصور متنوّعة، هي نتاج معرفة تلك الشعوب بالعالم ووعيها عليه.

تلك الحضارات الغابرة تركت، إرثاً ثقافياً متمايزاً، هو تجسيد لهويتها الجماعية، رسالة إلى الأمم اللاحقة، والعابرة في التاريخ.

وفي لحظة غفلة، يتسلل إلى هذا الشرق المشعّ، أصحاب الفكر المنحرف، والفهم الملتبس، ليعبثوا بإرث تلك الحضارات، والتي هي إرث حضارة إنسانية عامة.

الظلاميون أمعنوا في تدمير إرث الحضارات السالفة، في بلاد ما بين النهرين، وحيثما وجدوا، فقاموا بهدم كلّ ما وصلت إليه أيديهم الآثمة، وحقدهم الأعمى.

لقد انتقموا من متحف الموصل، وتمثال أبو تمام، ومكتبة الموصل، وقلعة تلعفر، ومدينة الحضر، وقبر ابن يونس، والكنيسة الخضراء، ومرقد الأربعين، وموقع النمرود، والقائمة تطول.

إنّ فهمهم الديني الملتبس، هو المدخل إلى سلوكهم المنحرف، عبر فتاوى محمد بن عبد الوهاب، الذي أفتى بتهديم المقامات الدينية، كي لا يؤمّها الناس، وكي لا تصبح زيارة المراقد، عبادة للقبور.

أما بالنسبة إلى هدم المعالم غير الإسلامية، فقد استند شذاذ الآفاق إلى مفهوم تهديم معالم الشرك في تفسيرهم الملتبس للسنة النبوية الشريفة، حيث قال الرسول بهدم أصنام قريش، والتي لم تكن في حقيقتها آثاراً تاريخية، بل كانت آلهة تعبد من دون الله.

وهذا ما قام به سلفه النبي إبراهيم الخليل حينما هدم الأصنام وعلق الفأس على عنق كبيرهم.

إنّ التخلف الفكري، والانحراف السلوكي، أدّى إلى نشوء حالة شاذة في التاريخ، هي خارج الأطر والمفاهيم والقيم الإنسانية، وهي خارج الرسالة الإسلامية العالمية، لمفهوم الخالق والمخلوق.

وبعيداً عن البحث في تفسير أصل وجود هذه الظواهر المنحرفة، لا بدّ من الإشارة إلى بعض الوقائع ذات الصلة بإرث العراق الحضاري.

الواقعة الأولى، جرت في العراق أبان الغزو الأميركي، حيث حضرت مجموعة من علماء الآثار الصهاينة، للتنقيب عن بعض الآثارات اليهودية.

وفي الفكر الصهيوني، حقد على التاريخ الحضاري لمنطقة الشرق، وسعي دائم إلى العبث به وتخريبه، كسعي الكيان الصهيوني إلى تهويد كلّ فلسطين، ومحو آثار كلّ ما هو غير يهودي.

والواقعة الثانية، هي السرقة الأميركية الممنهجة للآثار العراقية إبان الغزو، والتي تعتبر من أكبر السرقات عبر التاريخ.

لقد أراد المستلب الأميركي، التهرّب من المسؤولية القانونية الدولية، فكانت جرائم الظلاميين، هي التغطية المتوفرة لهذا الاستلاب، وبذلك يضيع الفاعل وتضيع المحاسبة.

وفي حقيقة الأهداف الاستراتيجية، يأتي رفض العقل الغربي في ظلّ العولمة الجديدة، لتقبّل أي حضارة قائمة أخرى، معمّماً ثقافته المنجزة، ومشوّهاً للحضارات السابقة.

إنّ ما تقوم به العصابات التكفيرية، هو في الواقع ليس تدميراً لحجارة أو أصنام، على خلفية دينية، إنما هي خطة ممنهجة غربية استعمارية، لطمس معالم التاريخ والهوية الثقافية، لحضارات عاشت في بلاد الشرق، وليعمّم هذا المنجز الثقافي الأميركي الجديد، لـ«إسلام سياسي جهادي»، يجعل من عراقة الحضارة، غباراً في رمال الصحراء.

و»داعش» وأخواتها لم تصبح عند الأميركيين إرهابية يوم نفذت مئات المجازر بحق الشعوب في المنطقة، ولم يشنّ عليها حرب بتحالف دولي، لأنها سبَت واغتصبت آلاف النساء والأطفال، بل لأنها لامست المنطقة الاقتصادية الكردية، والتي هدّدت بذلك مصالح الشركات الأميركية والصهيونية، واقتربت من المحظور الأميركي الاستراتيجي الأأمر الذي جعل محاربتها أمراً محتوماً.

إذن… ولما كانت الدولة الصهيونية، حاجة غربية ملحة في الشرق، ذات وظيفة محدّدة، فإنّ وجود ظواهر أخرى، مثل «داعش» وأخواتها التكفيرية القاعدية، هي حاجة غربية ملحة، ذات وظائف استعمارية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى