برنامج الهواجس الشخصية للمرشح المتوجّس

يوسف المصري ـ «البناء»

على مدار أربع حلقات تنشر «البناء» كامل قصة الخلفيات والوقائع الكامنة وراء ترشح سمير جعجع للرئاسة، وذلك منذ ولدت فكرة تعريبه عربياً وغسل قميص تاريخ الوسخ على يدي رئيس الأمن المصري السابق عمر سليمان، وصولاً إلى الاقتناع به كمرشح للرئاسة باسم فريق 14 آذار الحليف للسعودية. إضافة إلى ما بين هاتين المرحلتين من تطورات وخفايا على صلة بهذا الموضوع… وهنا الحلقة الرابعة:

مرشح الوقت الضائع

يدرك رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، أن فريق 14 آذار، وبخاصة شقه المسيحي، يعتبره مرشح «الوقت الضائع» في الاستحقاق الرئاسي. والأقطاب المسيحيون على ضفتي 8 و14 آذار، يستخدمون ترشيحه كورقة رابحة لحرق المراحل على أمل أن تصل الفرصة إليهم. الجنرال ميشال عون يستعمل ترشحه لتطيير نصاب جلسات اللاتوافق على اسم الرئيس العتيد وقادة 14 آذار المسيحيون من الرئيس أمين الجميّل إلى بطرس حرب مروراً بروبير غانم، يعتبرون ترشيح جعجع إثباتاً على أنهم الأنسب لبلوغ قصر بعبدا.

في كواليس جعجع اشمأزوا من تعبير الجميّل الذي وصف نفسه بأنه «مرشح طبيعي»، فيما الحكيم «مرشح معلن». وعندما بلغه أن روبير غانم رشح نفسه بعد ساعات من انتهاء جلسة الأربعاء الماضي، فسّر جعجع ذلك بأنّ نادي المرشحين المسيحيين يستعجل دفن ترشحه.

وفي قرارة نفسه تستوطنه هذه الأيام فكرة أساسية مضمرة ومكبوتة، وهي أنّ الاجتماع المسيحي قبل المسلم، يخفي وراء ظهره سكاكين الاستعلاء الطبقي عليه. لا ينسى جعجع بحسب الذين يولون اعتباراً لرصد هذه الفكرة لديه، أنه فلاح ماروني من الأطراف. حتى زواجه بابنة طوق العائلة البشرانية المخملية، لا تزال تنغّصه سهام الغمز المسيحي بأنها حصلت لجسر هوة التفاوت الطبقي بين السيد والفلاح.

في لقائه التلفزيوني ما قبل الأخير، وصف جعجع كيف أن عدسات مواطنين أميركيين طاردت السيدة ستريدا طوق لدى خروجهما من السينما، بينما أهملت وجوده: «بدت أنيقة كأميرة» وأضاف جعجع: «أما أنا فظهرت بعيون المارة الأميركيين شخصاً عادياً». مجرّد استذكار جعجع لهذه الواقعة التي رواها على أنها طرفة صادفته في أميركا، تخفي في لاوعيه الاجتماعي إشكالية عقدته مع طبقات السادة السياسيين الموارنة. حتى ستريدا حضرت إلى جلسة الأربعاء الماضي بأسلوب أوحى أنها معنية بإظهار أنها تملك نسَباً يعوّض زوجها بعده الاجتماعي: اللون الفاقع لثوبها ومحادثتها للصحافيين التي استخدمت خلالها تعبير «يا ذوات» في مخاطبتهم، كلها إشارات أظهرت وكأنها قادمة لحضور مناسبة اجتماعية في بشري بأكثر مما هي في حضرة الندوة البرلمانية. إن الفكرة السياسية المتبادلة بين ستريدا وسمير جعجع، هي اجتماعية بامتياز فالحكيم توسل مصاهرة عائلتها لتعويض تواضع اجتماعي وتوسل البندقية الميليشياوية لفرض معادلة الفلاح الماروني على البيوتات السياسية المارونية المحتكرة للواجهة الاجتماعية القيادية.

ويخوض جعجع معركة ترشحه للرئاسة في عام 2014 بنفس الطريقة التي خاض بها خلال الحرب الأهلية في ثمانينات القرن الماضي، معاركه التي قادته بمعظمها إلى هزائم له وللمسيحيين من ورائه. الرجل اعتاد مواجهة استحقاقاته بالهروب إلى الأمام اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً وهو اليوم يكرّر ظروفه الموضوعية داخل المعادلة المسيحية فهو رأس الحربة الاجتماعية الدامية سياسياً ضدّ طبقة الشخصيات المارونية المحفوظة أماكنهم «الطبيعية» داخل نادي مرشحي الرئاسة، ومن جهة ثانية هو رأس الحربة الإقليمية الانتحارية ضدّ حزب الله. وهذه المرة كما في المرات السابقة، قرّر أن يخوض حرب إلغاء استباقية للمرشحين الآخرين الموارنة، قبل أن تفرض عليه معادلة أنه خارج نادي مرشحي الرئاسة الطبيعيين… وبنظر نخب مسيحية لا شيء يبرّر اعتزامه الترشح سوى هذا الهدف الآنف، معطوفاً عليه هدف اعتزامه قيادة كلّ المسيحيين للحصار السياسي الذاهب إليه هو نفسه برجليه.

نقاش أكثر عمقاً

وخارج كلّ العناوين المطروقة اليوم علناً بخصوص نقاش الاستحقاق الرئاسي، فانه يوجد داخل كواليس مسيحية معنية بما آل إليه وضع مسيحيّي الشرق، نقاش هامش ولكنه الأكثر عمقاً وجدية وجدوى. وتقود هذا النقاش ثلاثة أفكار أساسية، أولها أن ترشيح جعجع للرئاسة في هذا الوقت بالذات أضرّ بمعركة الفاتيكان الساعية للاعتماد على استحقاق رئاسة الجمهورية في لبنان لإعطاء الوجود المسيحي في الشرق رجاء وأملاً ودفعة معنوية إلى الأمام. في ذهن بابا الفاتيكان كما نقلها إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما في لقائه به أن مسيحيّي الشرق يواجهون لحظة وجودية بفعل أنّ ربيع الشعوب العربية أفضى إلى خريف مسيحيّي الشرق وأنّ المطلوب هو إيصال رئيس جمهورية في لبنان، يظهر أنّ الوجود المسيحي في المنطقة لم يفقد قيمته الهامة. ثمة من ذكّر البابا بحسب مصادر مسيحية أن المارونية السياسية على رغم أخطائها إلا أنها ثابرت خلال الجمهورية الأولى على إيصال شخصية من لدنها كلّ ست سنوات إلى رئاسة الجمهورية تجمع على نخبويتها ومكانتها المرموقة النخب الإسلامية والمسيحية في آن. وقاد هذا الأمر إلى إظهار أن رئاسة لبنان ليست فقط امتيازاً لمسيحيّي المنطقة، بل أيضاً إضافة لها أي المنطقة . وكانت الفكرة أن تستعيد هذه المعادلة عن نخبوية رئيس لبنان الماروني بريقها بمناسبة استحقاق رئاسة العام 2014، ولكن ثمة من تآمر على هذه الفكرة بل حتى اغتصبها من خلال إقناع جعجع بأن يفرض ترشحه على الواقع المسيحي اللبناني. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل الجهة التي تقف وراء ترشح جعجع تريد للموارنة عدم العودة إلى معناهم النخبوي بعدما تمّ سلب معنى صلاحياتهم الدستورية؟

الفكرة الثانية المطروحة همساً ولكن كنقاش معمّق داخل النخب المسيحية عينها، هي أن جعجع منذ ثمانينات القرن الماضي حتى الآن، أثبت أنه ظاهرة تكرّر داخل المعادلة المسيحية ذات تعقيداتها ونفس حالتها مرة بأسلوب عسكري وتارة بأسلوب سياسي. والنتيجة دائماً هي أخذ المسيحيين من حصار سياسي إلى آخر ومن هزيمة عسكرية إلى أخرى.

جعجع – بنظرها – يكرّر اليوم بأسلوب سياسي وبمناسبة الاستحقاق الرئاسي حرب الإلغاء مع عون. والنتيجة التي تمثلت آنذاك بهزيمة سياسية للموارنة في الطائف ستكون اليوم هزيمة الفرصة السياسية لإنتاج رئيس ماروني يعوّض غياب صلاحيات الموقع الرئاسي الأول. وبنظرها أيضاً، يكرّر جعجع بمناسبة استحقاق الرئاسة قصة الهجمات العسكرية الانتحارية على شرق صيدا وغيرها. وهذه المرة عبر وضع نفسه طليعة انتحارية للهجمة الإقليمية على المقاومة… والمسيحيون هم من يدفع الثمن الآن وأمس وغداً…

الفكرة الثالثة، وهي غاية في الأهمية، تتحدث عن سياق معلوماتي يظهر أن جعجع في محاولته لاغتصاب فرصة مرشح لرئيس الجمهورية، إنما يريد عبر ذلك استرداد مكانته داخل نادي دول حلفاء 14 آذار من السعودية إلى واشنطن، بعد أن طرأ عليها خفوت ملحوظ خلال العامين الماضيين. وهنا رواية تستحق نقل وقائعها كما ترد هذه الأيام داخل كواليس ما يمكن تسميته بتهامس النخب المسيحية.

الرياض تغيّرت

خلال السنتين الماضيتين وحتى فترة قصيرة تغيّرت الرياض التي يعرفها حلفاؤها اللبنانيون. لقد جرت سلسلة تغييرات على مستوى إعادة تشكيلة البنية الداخلية للحكم، أدت بمجملها إلى جعل الملف اللبناني هناك، موجوداً بكلّ تفاصيله بين قبضتي رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان. قبل هذا التحوّل، كانت هناك مروحة من الخيارات الصالحة لأن تلجأ الشخصيات اللبنانية إلى إحداها، كي «تفتح خطاً مع الرياض». وأيضاً كانت مفاتيح العلاقة مع لبنان في السعودية متداخلة، فالأمير مقرن لديه تداخل بها، والسفير السعودي السابق عبد العزيز خوجة بقيَ له رأي في اعتماد أو عدم اعتماد هذه الشخصية اللبنانية أو تلك، إلخ…

وحتى وقت مبكر من العام الماضي، سطع أيضاً نجم آل التويجري الذين يديرون بلاط آل السعود منذ أيام مؤسس المملكة عبد العزيز بن سعود حتى الآن. وبلغ نفوذهم حجماً كبيراً في التأثير على قرارات الملك، إلى درجة أثارت حفيظة أمراء الأسرة المالكة. ثم طرأ توازن مستجدّ أراده الملك بين آل التويجري الذين باتوا المصفاة التي تعرب مواعيد الملك مع أية شخصية داخل السعودية وخارجها، وبين ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز ومن ثقب هذا التوازن، نفذ – على سبيل المثال- مشروع تسمية النائب تمام سلام كرئيس مكلف لتشكيل الحكومة العتيدة. طبعاً لا يوجد لبندر حق الفيتو على خيارات سلمان، ولكن الأخير أوكل إليه مهمة دعمه كون أجندة السعودية في لبنان في ظلّ ظروف أولوية اهتمامها بسورية، ليست سياسية بل أمنية، وتتسم بمقارعة حزب الله وليس مهادنته.

أين جعجع من المستجدات؟

يقول متابعون إنّ موقع جعجع داخل اهتمام أجندة السعودية في لبنان، تراجع على رغم أن النظرة إليه لا تزال على حالها، لجهة انه يتميّز عن باقي حلفائها اللبنانيين بان ّعداءه لحزب الله «عقائدي» وليس «سياسياً» أو فقط «مصلحياً وموسمياً»، كما هو حال وليد جنبلاط مثلاً. قصارى القول إنه في زمن دخول لبنان «المرحلة البندرية» الأمنية الخالصة، وأيضاً مرحلة إعطاء أولوية لسورية عليه، لم يعد يوجد وظيفة يعتدّ بها سعودياً لجعجع في لبنان فبندر لديه ذراعه العقائدي والأمني الضارب ضدّ حزب الله في بلد الأرز، وهم السلفيون السنة. كما أنّ مهمة إنشاء المناورات السياسية الشكلية على مستوى تشكيل الحكومة وإنتاج معادلات تصريف الأعمال السياسية اللبنانية، يتمّ التواصل معها مع وليد جنبلاط كونه يمتلك ميزة بيضة القبان التقني والسياسي داخل توازنات التوزيعة النيابية والحكومية اللبنانية.

أضف إلى ذلك أمراً آخر في غير صالحه، استجدّ على تقويم مكانة جعجع من وجهة نظر وكالة الاستخبارات الأميركية واستتباعاً بندر الأقرب إليها في كلّ المنطقة العربية. مفاده أن جعجع الذي تلقى إمكانات كبيرة من الرياض ليكون له دور فاعل على مستوى جعل موقف مسيحيّي المشرق منسجماً مع المعارضة السورية، عجز عن إظهار أية قدرة فعلية على هذا الصعيد. لقد استُفِزّت الرياض من زيارات الجنرال ميشال عون إلى سورية، والتي جاءت لتمتدح بتعبير مجازي «الإقامة السعيدة لمار مارون في دمشق». كما أنّ الزيارة الرعوية الأخيرة للكاردينال بشارة الراعي إلى سورية في عز أحداثها، اعتبرتها الرياض بمثابة إعلان من مسيحيّي المشرق عن انحيازهم إلى جانب النظام السوري. وتساءلت أوساط سعودية: ماذا يفعل جعجع في المقابل لا شيء يذكر؟!

ومنذ عدة أشهر لم توجه أية دعوة إلى جعجع لزيارة السعودية أو أياً من دول الخليج ويعبّر ذلك بوضوح عن وجود ميل فيها إلى تصنيفه في هذه المرحلة على أنه حليف عادي علماً انه ما بين أحداث 7 أيار 2008 وبين بدء الحراك السوري عام 2011، كان انهمر عليه سيل الدعوات إليها». وخلال تلك المرحلة كان جعجع «ملك الخليج المتوّج في لبنان»، إلى درجة أثارت حساسية حتى الرئيس سعد الحريري منه لبعض الوقت. وحصل ذلك تحديداً عندما أبلغت الرياض الحريري بأن موازنة العمل الخاصة بجعجع ستصله بعد اليوم مباشرة وليس عن طريقه. وتشكّك أوساط سعودية، بأن هذا الامتياز لا يزال على حاله الآن. وتقول: «صحيح أن الرياض لم تقطع عنه المساعدة على رغم أنها طاولت الجميع في لبنان منذ ما بعد الانتخابات الأخيرة، ولكن في المرحلة البندرية تقوم الرياض بتحويل الإمكانات بشكل خاص إلى المجموعات السلفية الواقفة على جبهة منازلة حزب الله، ضمن أمر عمليات من بندر شخصياً».

مرحلة الجَدَب

وبالعودة إلى مرحلة الجَدَب التي يواجهها جعجع خليجياً، يذكر أنه في خلال «حفلة إيحاءات» الغزل التي قام بها سفير السعودية في لبنان علي عسيري للجنرال ميشال عون، حبس جعجع أنفاسه. لقد شكل هذا الانفتاح السعودي على خصمه الماروني اللدود مؤشراً آخر من وجهة نظره على أنه ضمن نطاق مجال العمل السعودي في لبنان، بات فعلاً ينطبق عليه وصف «العاطل من العمل». ومنذ تلك الفترة بدأت تصدر عن جعجع، بحسب مقرّبين منه، علامات التذمّر مما يسمّيه أن كلّ الدول الحليفة العربية والغربية لـ14 آذار، تبدو أجندتها السياسية الخاصة بلبنان خاوية من أي مشروع عمل. إنهم يكتفون بالأسئلة وجمع المعلومات. يضيف هؤلاء: إن بيئة قيادة القوات تلاحظ بصمت أن جعجع لم يقم بأية زيارة للخارج منذ فترة طويلة؟!

وثمة ميل لدى هذه الكواليس المسيحية لاعتبار أن جعجع هندس إطلالته بمناسبة استحقاق الرئاسة لتقوم بمهمة التذكير بدوره في الخارج وبخاصة للخليجيين، والإيحاء لهم بأنه لا يزال موجوداً. وبالأساس لتوجيه رسالة غير مباشرة إليهم تفيد بأنهم يخطئون في ما لو عاملوه بوصفه «الحليف المنسيّ». ومن هنا تقصّد تضمين برنامجه الرئاسي مواصفات تظهره أنه «رئيس الصراع الإقليمي على لبنان».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى