رأس المال البشري… وماذا بعد؟

لمياء عاصي

تدخل الحرب الطاحنة على سورية عامها الخامس، الحرب التي بدأت في عام 2011 ولم تنته بعد، لا يختلف اثنان على نتائجها الكارثية التي انعكست على البنى التحتية والمؤسسات الإنتاجية والبيوت والمدارس والمشافي، وطاولت الآثار التي تشهد على حضارات عديدة نشأت على هذه البقعة من الأرض، ولكن انعكاسها الأهمّ والأخطر كان على رأس المال البشري السوري، الذي كانت خسائره لا تقدّر بثمن.

إنّ التنمية البشرية في سورية بأبعادها الثلاثة: التعليم والصحة والدخل، تأثرت بشكل كبير، إذ سجل دليل الصحة في نهاية عام 2014، تراجعاً بنسبة 36،3 في المئة مقارنة بعام 2010 بسبب معدّل العمر المتوقع للفرد السوري، متأثراً بالعدد الكبير جداً لضحايا وشهداء الحرب، بينما تراجع مؤشر التعليم بمعدّل 32.2 في المئة لعام 2014 مقارنة بعام 2010، بسبب ضعف معدّل الالتحاق بالمدرسة نتيجة ارتفاع معدّلات التسرّب من المدرسة بسبب الأعمال الإرهابية والعسكرية وتهدّم الكثير من المدارس وسيطرة العصابات المسلحة على الكثير من المناطق ومنع المؤسسات التعليمية فيها.

لعلّ أسوأ تداعيات الأزمة والحرب في سورية هو تأثيرها على العملية التعليمية، حيث ورد في تقرير أعدته منظمة «اليونيسيف» التابعة للأمم المتحدة، التي تعنى بشؤون الطفولة، في كانون 2013، «أنّ تدهور مستوى تعليم الأطفال السوريين هو الأسوأ والأسرع في تاريخ المنطقة بسبب الحرب».

أما الدخل فقد انخفض بمعدّلات تقارب الـ 70 في المئة، وتجاوزت نسبة الفقراء الـ80 في المئة من عدد السكان، نتيجة لانكماش الناتج الإجمالي المحلي، الذي بلغ في عام 2014 38 في المئة فقط من الناتج المحلي لعام 2010.

كيف ستكون نتائج استهداف التنمية البشرية بعناصرها الثلاثة في سياق هذه الحرب القذرة؟ وما هو المصير الذي ينتظر الجموع البشرية المتميّزة في منطقتنا، هل سيكون العنصر البشري مستلباً وغارقاً في القبلية والطائفية، ورهين الغيبيات الظلامية والفهم الخاطئ للتراث، بما يمنع تطوّره ويجعله يراوح في المكان؟ أم ستنتهي هذه الحرب وسيعود الإنسان السوري إلى سابق عهده خلاقاً ومتميّزاً؟

منطق العصر اليوم يقول، إنّ رأس المال البشري المزوّد بالمعرفة هو الثروة الأهمّ التي تمتلكها الأمة، حيث أنّ الأفكار الإبداعية الخلاقة للأفراد على مستوى الشركات والمؤسسات الاقتصادية والعلمية، هي التي تؤدّي بشكل مباشر إلى رفع الكفاءة الإنتاجية للاقتصاد وتساهم في تقدم الدولة والمجتمع، إنّ هذا المفهوم لأهمية العنصر البشري ترسّخ في العقود الأخيرة وتبنّته معظم الدول والشركات الكبيرة التي سعت إلى وضع نفسها على الخريطة التنافسية العالمية، ومن هنا ازداد الاستثمار في الكوادر البشرية، وأصبح مفهوم التعليم والتدريب طول الحياة سائداً.

بالرغم من الاعتقاد الذي ساد ولفترات طويلة قبل ثورة المعلومات والاتصالات، أنّ ثلاثية رأس المال والأرض وقوة العمل هي العوامل الأساسية للإنتاج، لكن تطوّر الدول والعلوم المختلفة والتجارب الإنسانية أثبت، أن هذه العناصر الثلاثة تتضاءل أهميتها أمام قوة المعرفة، وأصبحت المقولة الأشهر بأنّ «المعرفة قوة»، Knowledge is Power.

احتلّ الاقتصاد الياباني مرتبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم، وقد سألت أستاذي الياباني ذات يوم… عن الثروة الطبيعية الأساسية في اليابان؟ وكنت حينها فعلاً… أجهل أهمّ الثروات الطبيعية التي تعتمد عليها اليابان، هذا السؤال كان في عام 1992، يعني قبل انتشار شبكة الانترنت وخدماتها الجليلة بتقديم المعرفة دون الكثير من العناء، أذهلتني الإجابة عندما قال بثقة تامة: لا نملك في اليابان سوى الثروة البشرية، وتعتبر اليابان من الدول التي تستثمر في العنصر البشري بشكل كبير، وهذا يتقاطع مع ألفريد مارشال في كتابه مبادئ الاقتصاد، الذي قال إنّ «الرأس المال الأكثر قيمة، هو رأس المال المستثمر في البشر»، إنّ الموارد البشرية، هي الأساس في كلّ الإنجازات العلمية والصناعية في اليابان.

التنمية البشرية في سورية، تعاني من اختلالات كبيرة برغم الجهود الهائلة التي بذلت من أجل نشر التعليم أفقياّ ليشمل كلّ المناطق. تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة يتضمّن تحليلاً معمّقاً مدعوماً بالمعلومات والإحصائيات والمؤشرات عن حال التعليم وجودته ومخرجاته وقوة العمل حتى عام 2004، والذي تمّ إطلاقه من دمشق في عام 2005، احتوى على معلومات صادمة عن نسب التسرّب من المدرسة، وخصوصاً في أرياف كلّ من حلب وإدلب والرقة ودير الزور والحسكة، والنسب المتدنية للالتحاق بالتعليم الجامعي من مجموع الطلاب الذين نالوا الثانوية العامة، حيث بلغت نسبة من يلتحقون بالتعليم العالي أقلّ من نصف الناجحين في الشهادة الثانوية، وهذا بسبب سیاسات القبول في التعلیم العالي، حيث لا يوجد تكافؤ حقيقي في الفرص بین طلبة الریف والمدن.

إنّ أهمّ المشاكل التي تعتري مخرجات التعليم الجامعي في سورية، هي:

أولاً: انّ الخبرات والمعارف للخرّيجين الجامعيين في معظم الكليات لا تلبّي احتياجات سوق العمل.

ثانياً: انّ المناهج وطرق التعليم وغياب الأنشطة الداعمة في الكليات، لا تبني الشخصية القادرة على التعلّم الذاتي المستمرّ خلال الحياة.

ثالثاً: الركود في عملية تطوير المناهج وطرق التعليم، فالكلّ يعرف، أنّ المناهج لم تعد تتناسب مع التطوّر الحاصل في العالم معظم المجالات، ومن المعروف، أنّ الكليات المختلفة في الجامعات السورية لا تقوم بإعادة تقييم مناهجها وطرق التدريس فيها من خلال المقارنة مع الجامعات العالمية، وبما يساير أحدث الاتجاهات السائدة. مثلاً، لسنوات طويلة بقيت كلية التجارة في جامعة دمشق تدرّس بعض الكتب والمناهج الموضوعة في الخمسينات، إضافة إلى لجوء الطلاب إلى اختراع اسمه «الملزمة» وهي عبارة عن ملخص سيّئ للكتاب، يتمّ وضعها بطرق مختلفة، ويقوم الطلاب بحفظها لتقديم امتحاناتهم والنجاح في المواد، في غياب كامل للمنهج النقدي والبحثي الذي يدرّب الطلاب على البحث والاستقصاء للحصول على المعلومات بدلاً من الحفظ البصم، في الوقت الذي باتت المناهج في الكثير من الجامعات في البلدان المتقدّمة عبارة عن مجموعة من الكتب على الطلاب قراءتها ومناقشتها.

يعتبر التأثير الكبير للعملية التعليمية على قوة العمل وإنتاجيتها مؤكداً، حيث تشير الدراسات التحليلية لقوة العمل في سورية، أنها تعاني من خلل واضح في البنية التعليمية، قياساً إلى التركيب الأمثل لهرم قوة العمل السائد في معظم البلدان المتقدّمة، حيث أنّ نسبة تتجاوز الـ60 في المئة من قوة العمل هم من حملة الشهادة الإعدادية فما دون، الأمر الذي يفسّر انخفاض الكفاءة الإنتاجية في معظم القطاعات في الدولة بشكل عام، إضافة إلى الانعكاسات السلبية والخطيرة في حال تحوّل هذه الشريحة إلى صفوف العاطلين عن العمل، ومن هنا تنشأ الأهمية الكبرى لإحداث تغيير في تركيبتها.

وبغضّ النظر عن الاستراتيجيات القصيرة والطويلة المدى، التي يتمّ الإعلان عنها في مناسبات مختلفة، لإحداث تغيير في بنية قوة العمل الحالية والمستقبلية وإيلاء التعليم بكلّ مراحله الاهتمام الكافي، لتخريج كوادر قادرة على خلق فرص العمل وربط السياسة السكانية بعملية التنمية، ولكن للأسف، لم تخرج تلك التصريحات الإعلامية إلى مجال الفعل، وبقيت مجرّد أمنيات لا تسمن ولا تغني عن جوع.

أخيراً، لا بدّ من القول، إنّ الأزمة السورية بكلّ نتائجها الكارثية التي انعكست على كلّ مكوّنات الحياة، كان تأثيرها الأكثر سلبية هو على الكوادر البشرية، سواء من حرم من التعليم أو هاجر إلى بلدان أخرى لأسباب مختلفة، ولا بدّ أن تعتمد مسيرة النهوض من المحنة نحو التعافي والبناء، على إعلاء قيمة العنصر البشري كمورد أساسي في التنمية، وذلك من خلال التعليم المبكر لبناء الشخصية التي تقوم على الملاحظة والتحليل والبحث، بدلاً من الاعتماد على البصم والتلقي، حيث يكون الفرد السوري هو الرأس المال الأهمّ والأكثر فاعلية في تغيير ما آلت إليه الحال.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى