معرض باريسيّ لموريس فلامنك رائد تيّار «الوحشية» التشكيليّ… إنكار واعتراف

موريس فلامنك 1876 ـ 1958 من رواد مدرسة الوحشية في الفن التشكيلي، وهو من الفنانين المنسيين إذ لم يقام له سوى معرضين، الأول في رواق شاربنتييه في باريس عام 1956، أي سنتين قبل وفاته، والثاني في متحف الفنون الجميلة في مدينة شارتر عام 1987. ورأت مدينة روييل مالميزون أن تقيم له معرضاً استعادياً يستمرّ إلى نهاية أيار المقبل لمناسبة مئوية ميلاده.

موريس فلامنك فنان عصامي ويفخر بذلك. أخذ من الحياة ومجالاتها بكل طرف، تعلم عزف الكمان من أبيه، ثم ولع بالرسم صغيراً، فكان يصور مشاهد من ضفاف السين بعفوية، ومن ثم هجر عائلته ليستقر في قرية شاتو قرب فرساي ويحترف الميكانيكا. وفي سن الثامنة عشرة شغف بركوب الدراجة وأضحى درّاجاً محترفاً يحقق الانتصار تلو الانتصار ويكسب عيشه من هذه الرياضة، حتى أصابه مرض أقعده عن مزاولة هوايته، فعاد إلى تعلم الموسيقى وتدريس بعض أطفال الموسرين العزف على الكمان. ثم ترك ذلك كله بعد زواجه وراح يساهم في عروض موسيقية مع نفر من أصحابه ليلاً في الحانات والملاهي.

في عام 1900، التقى مصادفة في القطار، وكان عائداً من الخدمة العسكرية، رساماً في مثل سنه يدعى أندريه دوران، فكان لذلك اللقاء أثر كبير في مسيرته الفنية، إذ بدأ يكتب الشعر ويؤلف روايات بورنوغرافية يتولى صديقه دوران ترصيعها ببعض الرسوم، وعاد إلى الرسم الذي ألهته عنه صروف الحياة.

تأثر في بداياته ببول سيزان، ثم عبر عن طبعه النهم الميال إلى الاكتشاف بأساليب عديدة، قبل أن يكتشف فان غوغ ويلمس في لوحاته تقنيات وألواناً تخالف الرسم الأكاديمي وتلائم طبعه العصامي المتمرد، ولم يكن آنذاك إلاّ سليل ما بعد الانطباعية. ثم تعرّف إلى هنري ماتيس وتجربته الفريدة. وفي عام 1904 التقى بأبولّينير فاكتشف لديه ولعه بجمع تحف الفن الزنجي التي عرضها للمرة الأولى. عندئذ، تخلص فلامنك من قيد التصوير واكتفى بنشر الألوان في خشونة على القماشة باستعمال الصبغة الخالصة، ما جعله يصنف ضمن تيار المتوحشين الذين أثاروا فضيحة في صالون الخريف عام 1905، حين عرض ثماني لوحات إلى جانب أعمال فنية لماتيس وجان دوفي وهنري روسو وإدوار فويلاّر وجورج رُوُو.

قال عنه ماتيس: «فلامنك كان يصرخ بحماسة أنه يجب استعمال الكوبالت الخالص والزّنجفر الخالص والفيرونيز الخالص نسبة إلى الرسام الإيطالي باولو فيرونيزي 1528 ـ 1588 ». وهي وصفة ما سُمّي في ما بعد، أي مطلع 1905، الحركة الوحشية، التي قوبلت باستياء كبير حتى أن أحد نقاد تلك الفترة طالب بسجن أولئك الفنانين «المتوحشين» في قفص. ثم التقى أمبرواز فولار، الذي فتح صالونا للفنون المعاصرة وساهم في التعريف بكثير من فناني تلك الفترة، فساعده مالياً باقتناء بعض لوحاته. بفضله تعرف إلى كيس فان دونجين وجورج براك وبيكاسو. وتعرف إلى موديلياني ومارينيتي إثر زيارة إلى إنكلترا، يوم كانت طبول الحرب تقرع. وعبر عن مناهضته للنزعة العسكرية في لقاء جمعه بثلة من «أصدقاء دورة فرنسا للدراجات»، حيث أحرقوا بورتريه هتلر بوصفه «دهاناً سابقاً في حظائر البناء»، لا يملك ما يؤهله لنقد المدرسة الفرنسية، واعتبار أعمال براك ودوران وغوغان ولورنسان وفالندون وكيسلينغ وماتيس فناً منحلاً». رغم ذلك، كان بين الفنانين الذين زاروا ألمانيا النازية خلال رحلة نظمتها حكومة فيشي زمن الاحتلال، ما جعله عرضة للتهم والإيقاف حين وضعت الحرب أوزارها. ومن نتيجة ذلك انفصاله عن صديقه دوران واعتزاله ومواصلته العمل في الرسم والكتابة، معبراً عن ثورته التي لم يتخلّ عنها حتى وفاته.

وعاش فلامنك من غير أن يحظى باعتراف، حتى خصص له رواق شاربنتييه معرضاً كبيراً عام 1956 أثار ردود فعل متضاربة إذ اعتبره فريق من النقاد خائناً للفن الحديث، متنكراً لقيمه، فيما اعتبره فريق ثان سيّد الحداثة عن جدارة لناحية توليف مشاهده وصوغها بأسلوب مفرد.

اليوم، بعد مرور أعوام على وفاته، يحيّي فيه مؤرخو الفن عصاميته واستقلاليته، ويرون أنه، وإن كان رأساً من رؤوس الحركة الوحشية، فإنه أنتج أعمالاً استوحاها من طبعه الغريزي وحاجته إلى التعبير عن انفعالاته وأحاسيسه وانجذابه إلى الطبيعة والبيئة الريفية. بدأ انطباعياً، ثم سيزانيا، ثم توحشيا، قبل أن يبتعد تدريجياً عن التيارات التصويرية وعن الصالونات الفنية الباريسية. ويسجّل أنه سبق بيكاسو في الفن الخزفي، وكان على مألوفه يقول ما يريد قوله من دون أن يخشى من باتوا كباراً يؤلههم النقاد وتعبدهم الجماهير ووسائل الإعلام وكان ذلك سبب القطيعة بينه وبين بيكاسو.

غاية المعرض الراهن نفض الغبار عن هذا الفنان العصامي الذي طوى النسيان خبره أولاً احتفالاً بمئوية مولده كما أسلفنا وثانياً وفاء من مدينة رويل مالميزون لفنانها الذي أقام بين ربوعها عشر سنين بين 1902 و1912. وثالثاً تقديم آثاره في مختلف المجالات، من لوحات وأعمال خزفية ونقوش على الخشب ومؤلفات جاوزت العشرين وكتب مصورة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى