حيرة أرخميدس في سوق الذهب… المشكاة والثورات

نارام سرجون

ليس الذهب وحده من يحاول اللصوص سرقته ويعمل النصابون على تزويره وخلطه بالنحاس والمعدن الخسيس… وليس الماس وحده من يتعرّض دوماً لانتحال شخصيته من قبل الزجاج الهشّ… وليس كلام الأنبياء فقط من يُسرق من قبل الدواعش والحاخامات ويُخلط بكلام التلمود و»الاسرائيليات» حتى صار النبي العربي حاخاماً والقرآن أسفاراً يهودية… بل انّ أسواق الكلام مليئة بالغشّ والبضائع المزوّرة وأقمشة النثر المنسوجة من خيط النفط بدل الحرير… والسلع المقلّدة عن الأصل… ومن يذهب للتسوّق من دكاكين الكلام العربي هذه الأيام لن يملأ حقائب العقل بكلام الذهب الصافي ولا بقطع الماس البراق… بل بنحاس وحديد وأسلاك شائكة وشظايا زجاج… ومن يملأ مخازن الروح وبيوت المونة من أسواق الغشّ هذه ومن كلام النحاس لن تموت روحه الا مسمومة…

أقول هذا الكلام لأننا سمعنا بمقتل ضابط «إسرائيلي» اسمه «جوني» بين المسلحين الإسلاميين والثورجيين السوريين الذين أبادت جموعهم غارة سورية محكمة التصويب… فلم يكن مقتل الضابط «الإسرائيلي» بين المسلحين السوريين في القنيطرة مفاجأة لأحد… ولم تتوقف عند الخبر النظرات… ولم تقطب الحواجب مستهجنة… ولم تتسع الأحداق… ولم يكن هذا الخبر الخطير سبباً في استفاقة النائمين الحالمين بالحرية مذعورين كما يفيق نائم من كابوس، أو كمن يفتح عينيه ويرى انّ قرون الشيطان تشاطره الوسادة… وأراهن أنّ أحداً من المحيط إلى الخليج لم يرفع حاجبيه دهشة ولم يضرب كفاً بكف ولم يشهق من الذهول والصدمة… بل انّ الخبر مرّ على الناس كما يمرّ خبر فني سمج وحفل ساهر تافه وضيع لشقيق فيصل القاسم الذي يغني مثل أخيه… من اتجاهه المعاكس…

ولو وضعنا خبر مصرع الضابط «الاسرائيلي» جوني بين إخوانه المسلمين في ميزان الدهشة والانبهار في العقل العربي الذي لم يكن مغشوشاً عقل من موديل الخمسينات والستينات لقامت تظاهرة في كلّ مدينة عربية ومزقت فيها الرايات الإخوانية وصور ملك الأردن وملوك النفط والغاز… ولكن خبر مصرع الضابط جوني كان بلا شك في ميزان العقل بوزن خبر سفر سعد الحريري للاستجمام في مقاهي وبارات باريس أو التزلّج في سويسرا بانتظار أن تثأر له المحكمة الدولية الباحثة عن دم أبيه… أو كان بوزن خبر ظهور مزاج جديد لوليد بك جنبلاط وتذبذباته وجولاته ومناوراته وتغييره الأقنعة والطرابيش والولاءات والتحالفات… لأنّ تغيير تصريحات وليد بك وطرابيشه وحلفائه لم يعد يُسمّى براغماتية سياسية، بل يدخل في علم النجوم والأبراج… ويجب أن توضع تصريحاته في صفحة الأبراج اليومية وتقرأ علينا تموّجاتها السيدة نجلاء قباني أو السيدة ماغي فرح!

وهناك تشابه كبير بين ثقل خبر مصرع جوني بين إخوانه وخبر استئناف محمود عباس جولة مفاوضات سلام فراغية مريخية مع مسؤولين «إسرائيليين» لن تعيد له ورقة زيتون واحدة من فلسطين… حيث لا يبالي عربي واحد بمفاوضاته، ولا ينتظر من تلك المفاوضات قشة واحدة فلسطينية… وطبعاً يشبه تأثير الخبر علينا تأثير خبر يقول إنّ أردوغان سيحارب «داعش» ويمنع تغذيتها بالمقاتلين، فلا يبالي ذو عقل بتمثيليات أردوغان وهرائه… ويمرّ علينا خبر مقتل جوني أيضاً مثل خبر شراء شيخ أو أمير خليجي لناد رياضي أوروبي أو لبغلة جديدة أو يخت من يخوت مونت كارلو وكأنه لا يعنينا… وفي أحسن الأحوال يشبه الارتكاس العربي لخبر موت جوني بين «إخوانه المسلمين» انفجار ثمانية سيارات مفخخة في بغداد ومقتل مئتي عراقي دفعة واحدة دون أن تبلل فضائية عربية هذا الخبر ببعض التعازي، ودون أن يبدو الحزن على محيّا المذيعات اللواتي لا تغضب حواجبهن المرسومة كالسيوف العربية إلا من قصص البراميل المتفجرة في دوما كما تقول سيَر الأكاذيب…

فلم يشكل مقتل ضابط «إسرائيلي» يقود مقاتلين عرباً من أتباع محمد ليقتل بهم عرباً من أتباع محمد أيّ حرج أو استهجان لأمة محمد بكاملها… ولم تبادر «الثورة السورية المستقلة» ضدّ «الاحتلال الإيراني» بالتبرّؤ من الاحتلال «الاسرائيلي» لها وقيادة «الاسرائيليين» لها رغم أنّ هذا الموت المشترك بين «الاسرائيلي» ومقاتل مسلم يُقال إنه يدافع عن دينه ورسالته – يشبه في الضمير أن يموت المسيح وهو يقاتل مع صيارفة المعبد أو يسقط وهو يدافع عن سمعة وشرف يهوذا الاسخريوطي…

ليس مقتل جوني وعصابته من الإسلاميين هو الذي يثير السؤال، بل برود المسلمين والعرب تجاه هذا الموت وهم يقاتلون الجيش السوري! وهذا البرود هو حصيلة جهد التفكيك والفصل النفسي للإنسان العربي عن الواقع، وتحويل وسائل الاتصال الاجتماعي إلى وسائل الانفصال والانفصام الاجتماعي… وقد تمّ نقل الوعي الى واقع آخر أفاق فيه ليجد نفسه فجأة الى جانب جوني… يحارب معه… ويأكل معه… ويدخن الشيشة معه… ويتماهي معه… ويقتل اخوته معه و… يموت معه…

وهذه الجريمة بحق الوعي العربي والمشرقي كانت نتيجة إصرار المعارضة السورية على أن تبيع استقلالها ووطنها وقضيتها في أسواق العالم كما تباع السبايا… وصارت القضية للمعارضة وللإسلاميين هي مقولة التحالف مع الشيطان من أجل النصر … وهذه ذريعة لا يقبل بها الشيطان نفسه الذي لا يقبل بمثل هذا التبرير لنفسه كأن يقول مثلاً سأتحالف مع الملائكة لأهزم الله … لأنّ الشيطان تبيّن أنّ لديه قيماً ومبادئ يحترمها أكثر مما لدى هؤلاء من مبادئ… فيتحالف لذلك مع الإنسان وشياطينه…

هذا الخبر مفصل من مفاصل التحوّلات في الوعي الذي أدخلته «الجزيرة» و»العربية» ورحلات اللبواني الى هرتسليا ومرحلة «الإخوان المسلمين» في مصر وفي تركيا,.. ففي تركيا صار من الممكن أن تكون مسلماً وخليفة للمسلمين وتبقى في «الناتو» تأكل معه وتشرب معه وتقتل معه وتنام معه دون أن ينقص إيمانك وإسلامك…! وفي عهد مرسي في مصر يمكن أن تكون رئيساً مسلماً ويصبح الصهيوني صديقك العظيم ويتحوّل أحمدي نجاد المسلم الى عدو الله المبين الذي يهينه الأزهر رغم انه ضيفه! وفي عهد الثوار الليبيين يصير الصهيوني برنار ليفي صديق الشعب الليبي حتى وإنْ كان مرشحاً للرئاسة في «إسرائيل»…! وفي عهد أبو محمد الجولاني وزهران علوش تقصف دمشق بدل تل أبيب ومستوطناتها وكأنّ دمشق تشبه تل أبيب وكأنّ «دوما» صارت غزة كاتيوشا وهاون … ولكم ان تتخيّلوا أنّ هناك «إسرائيليين» سيموتون أيضاً وهم يقودون كتائب أبي بكر البغدادي وسرايا الجولاني… وسيقتل أحدهم في دوما حتماً مع زهران علوش عندما سيتمّ قصفه قريباً والتخلص منه وإلحاقه بزميله حجي مارع… فلن يطول انتظار حجي مارع في الجحيم لأنّ زهران علوش في طريقه إليه ومعه ضباط عرب واسرائيليون…

وأما في عهد ابن ملك السيفيليس فقد صار الهلال الشيعي يخيف ابن النبي فيأخذنا معه الى بلعوم نجمة داوود لتبتلعنا… وفي عهد «الجزيرة» و»العربية» يصبح أفيخاي ادرعي أقرب من العميد سليم حربا… وفي زمن رياض الشفقة يصير حزب الله أشدّ عداوة من حزب شاس… فقط لأنّ الأول دخل القصيْر… فيما لا يريد الثاني سوى المسجد الأقصى وقطعة صغيرة من الفرات الى النيل بما عليها من مساجد… وبمن فيها من سنة ومن شيعة…

تخيّلوا أنّ المعارضة السورية ملأت حيطان الذاكرة باتهامات وتلفيقات ونشرت بضائعها المغشوشة بشعارات عمالة النظام السوري لـ»إسرائيل» وتنسيق إيران وحزب الله مع «إسرائيل» ضدّ أهل السنة… بل انها لا تزال تثرثر بتلك الأسطورة عن علاقة «داعش» بالمخابرات السورية، لكنها لم تقدر أن تجد ضابطاً سورياً واحداً يموت بين الدواعش كما يموت جوني بين مقاتلي «جبهة النصرة» و»الجيش الحر»… ولم تقدر أن تجد مقاتلاً «إسرائيلياً» في صفوف حزب الله… وعجزت أن تقدم وثيقة واحدة عن علاقة النظام السوري بأيّ تنسيق مع «إسرائيل» رغم أنها حفرت ونقبت في أسرار النظام ووثائق كلّ مخابرات الدنيا منذ خمسين عاماً… ولم تجد إلا ما وجده المتطرفون اليهود تحت المسجد الأقصى من آثار يهودية… وهو الصفر المطلق… والهواء… والخواء…

مخازن الروح تسمّمت بالربيع بعد أن اعتادت أن تتسوّق من أسواق الكلام الرخيص في قطر واستانبول… وألفت أن تشتري سبائك اللغة المغشوشة من السعودية… وتملأ جرار العسل بالقطران في بيروت المستأبل… وتملأ قناديلها بزيت مخلوط مع بول بعير أو بول أمير…

إنها أسواق البضائع المغشوشة التي تملأ منها الروح مؤونتها وزيت قناديلها… وتتعامل مع أخلاط النحاس والقصدير بدل الذهب المصهور الصافي… وتتزيّن بعقود الزجاج بدل عقود الماس… فصار «الاسرائيلي» يموت بين المقاتلين المسلمين كأنه منهم… وكأنهم منه…

كيف نفصل اليوم الذهب الخالص عن النحاس في سبائك الكلام في أسواق الثرثرة العربية المغشوشة ليعود الكلام نقياً مثل سبائك الذهب الصافي؟ كي تمتلئ قناديل العقل بالزيت المبارك والمقدس ليضيء نور القناديل «كمشكاة فيها مصباح… المصباح في زجاجة… الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية… يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسْه نار… نور على نور»…؟ نور الله… نور الوعي…

حيّرني السؤال كثيراً… فكيف نعيد للوعي حضوره ونعيد اليه قدرته على تحسّس الخيانة والعمالة والجريمة والموت الخطأ المشين في المكان الخطأ… فيصبح مقتل «الاسرائيلي» بجانب أيّ مقاتل مشرقي عاراً وفضيحة لذاك المقاتل وأهله وذريته…

قديماً حار أرخميدس قبلي في معرفة نسبة الذهب المخلوط بمعادن النحاس ووجد الحلّ عندما كان يستحمّ وتنبّه إلى أنّ كتلة الماء المزاح تساوي كتلة الجسم الذي أزاحه فهرول في الشارع عارياً يعلن أنه «وجدها» أوريكا… اوريكا … ولكن اذا كان الذهب المغشوش قد شغل بال ارخميدس فإنّ الذهب لا يشغل بالي… ولن يشغل بالي كلام الزجاج الهش الذي يقلد صوت تصادم حبات الياقوت والماس وبريق عيونه… هذا الزجاج الذي يتهشم كلما سحقه حذاء العسكري السوري… بل ما يشغل بالي هو ذهب الكلام الخالص المفقود… و»غبار الذهب الخالص» المخلوط بـ»الإسرائيليات» الرخيصة… وما يشغل بالي هو أين ذهبت أسواق الذهب؟ ومن سرقها؟ وكيف نستعيدها؟ وماريشغل بالي هي تلك الأرواح التي طحنتها قصص الربيع وأحالتها الى غبار… وذلك النور المطحون الذي صار ظلاماً كهباب الفحم… فقد آن لنا أن نعيد للعقل ذهبه النقي ونوره ليميّز بين الذهب والخشب… وبين غبار الذهب وغبار الخشب… ليضيء اسم الله من جديد في الشرق… كمشكاة فيها مصباح… ونرفع نور الوعي ونحن نقول في وجه هؤلاء الخونة:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ.. الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ… الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ… يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ… نُّورٌ عَلَى نُورٍ… يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى