في جدليّة الكتابة… المعنى المتحرّك والمحدّد الثابت والخاصّ والعامّ

نصار إبراهيم

«الشعر الحقيقي هو الذي يعتمد على حركة المعنى وليس المحدّد، والذي يتناول الأشياء تناولاً غير مباشر» محمود درويش

بين وقت وآخر يزورني بعض الكتاب الشبّان، وأحيانا تصلني منهم بعض الأسئلة أو بعض النصوص طالبين رأياً وتقييماً ونصيحة. ويسألني بعضهم كيف يمكن تطوير مهاراتهم؟ هذا كلّه يبهجني بالتأكيد، ولكنه يشير في الوقت ذاته إلى إشكالية عميقة تتعلق بمفهوم الكتابة الإبداعية وشروطها وأسرارها، إن كانت لها أسرار. الجانب الآخر لهذه المشكلة هو أن البعض يعتقد أن هناك وصفة ما مخفية يكفي الاطلاع عليها لتحل المشكلة. تنبثق من هذه المشكلة مشكلة أخرى أكثر تعقيداً هي العلاقة بين الخاص والعام في الكتابة. في ضوء هذه الأسئلة وجدت من الضروري والمفيد تقديم بعض الأفكار التي قد تساعد في وعي هذه العملية الإشكالية.

الكتابة الإبداعية، أو أي تجربة إبداعية، هي في الجوهر نتاج خاص لرحلة حياة. إنها تشبه اكتشاف الغابات أو تسلّق الجبال أو الإبحار في المحيطات أو الرحيل في الصحراء، فخلال الرحلة تنضج التجربة في بوتقة المحاولة. إنها لا تأتي من العدم. بمعنى أنها ليست بداية الرحلة أو نهايتها، إنّما هي الرحلة ذاتها. الرحلة الشاقة والممتعة التي تعلم الكاتب الحكمة والعمق والوعي يخوضها ليجد نفسه ومن دون أن يدري أحياناً مثقلاً بالتجارب والجروح وآلام الفشل، وأيضاً فرح الاكتشافات والتجريب والإنجاز.

لكي يقوم الإنسان، أي إنسان، بأي رحلة، عليه أن يعدّ ويستعدّ، وعليه أن يتزوّد ما يجب لتلك الرحلة. ومع ذلك يبقى ذلك كلّه مجرد فرضيات وتوقعات. فحتى لو أعدّ واستعدّ معتمداً على تقليد الآخرين، عليه فإنه في النهاية ومنذ الخطوة الأولى معرفة أنه وحده من سيتخذ القرار، ووحده من سيحدد كيف سيتصرف ومدى احتماله وردود فعله على المفاجآت التي لم تكن في الحسبان. سيكتشف أن ثمة أشياء أهملها أو لم يكن يعرفها ويتمنى لو كانت لديه، أو لو أن أحداً أخبره عنها. ولكن ها هو يبدأ الاكتشاف، وعليه أن يتصرف. ها هو يبدأ التجربة ويتعلم، يقع ينهض، يتألم، ييأس، يحزن، ولكنه يتعلم.

إنها تماماً رحلة الطفل الذي لا يمكن أن يمشي قبل أن يحبو ولا يمكن أن ينضج قبل أن يراهق، وعليه أن يدفع ثمن هذه المحاولات والصيرورة. هنا تماماً في سياقات الرحلة وصيروراتها، تحدياتها وصعوباتها تتكون الملامح. حينئذ هناك من يتعلم. وهناك من يبدأ في اكتشاف الأسرار، وهناك من يبدأ ورد الفعل الإبداعي، وهناك أيضاً من يستهويه أن يكون تابعاً، أو أنه ينهار وينكص، وهذا النوع لن يكون يوماً إنساناً مبدعاً.

المقصود بالتجربة الأدبية هنا بالطبع ليس المعنى الضيّق للكلمة، بل الفضاء وقوة الصهر والعمل على امتلاك عناصر الإبداع. أي ربط تجارب الحياة بالعمل والحفر في صخر البشرية الإبداعية وكنوزها والغوص في أعماقها لكي يتكون ويتشكل بالتدريج الوعي والفضاء المعرفي والثقافي. أي أنّ المطلوب هو الاتكاء ما أمكن على الثروة والتجارب المتراكمة لكي نخفف آلام رحلتنا وخسائرها وخيباتها، قدر ما نستطيع. ستبقى هناك حقيقة ثابتة وهي أن جميع تجارب البشرية السابقة لن تحلّ الإشكاليات والتحديات، ولن تجيب عن الأسئلة التي ستقذفها تجربتنا الخاصة في وجوهنا مثل حمم البراكين، لأنها ببساطة ليست من مهماتها. علينا هنا ان نتقدم لنجيب، وأن نتحمّل وأن نكون على استعداد لدفع الأثمان. ولا بأس في سياق المحاولة من أن نخطئ ونتعثر، بل إن ذلك بمثابة الضرورة الحتمية للتعلم ولكن علينا النهوض معها والمجالدة. ولو كان الأمر غير ذلك لما كان هناك مبدعون في كلّ عصر وفي كل مرحلة من مراحل البشرية، ولكانت هناك وصفة جاهزة تنطبق على الجميع وكفى. إنه حكم مبرم على الإبداع البشري بالموت.

لذا تتجلى أهمية وخطورة وعي العلاقة في الإبداع الأدبي ما بين التجربة الشخصية وحصرها في هذه الحدود، الأمر الذي يبقيها أسيرة ذاتها، أي تحوّلها إلى بوح شخصي ونحيب شخصي لا يجذب اهتمام الآخرين إلاّ بحدود معينة وكحالة من التعاطف الموقت مع الحالة بحسب علم النفس . وبين تشكلها وتخلقها كوليد إسبارطي ينهض من تلاقح الخاص مع العام، ومن تفاعل الماضي مع الحاضر مشحوناً بقوة الأحلام والمخيال لما سيكون.

في قصيدة عنوانها «إيثاكا» إحدى جزر اليونان الصغيرة يقول الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس الذي عاش معظم أيامه في الإسكندرية ومات فيها:

«عندما تتهيأ للرحيل إلى «إيثاكا» تمنّ أن يكون الطريق طويلاً. مليئاً بالمغامرات والأشياء المثيرة… لتكن إيثاكا ماثلة في ذهنك دائماً والوصول إليها هدفك النهائي لا تتوقع أن تعطيك إيثاكا أي شيء لقد أعطتك إيثاكا رحلةً جميلة وحياة حافلة ومن دونها ما كنت بدأت وليس لديها شيء آخرَ تعطيك. وإذا وجدت إيثاكا فقيرة ومعوزة، فهي لم تخدعك… فمن الحكمةِ التي اكتسبتَها، والمعرفةِ التي حصلتَ عليها، والخبرة التي صارت جزءاً منك… سوف تفهم معنى إيثاكا»

كفافيس، 1898

هذا يقودني إلى طرح نقطة منهجية يجب إجادة التعامل معها ووعيها كمدخل إجباري لتطوير العملية الإبداعية. قرأت قبل سنين عبارة مدهشة للشاعر الكبير محمود درويش شكلت بالنسبة إليّ تحدياً جميلاً العبارة هي: «التركيز على حركة المعنى وليس المحدد».

إنّه مدخلي لمقاربة جدل العلاقة واشتباك معادلات: المحدد/الملموس- المعنى ظلال المعنى خافيات الإبداع.

تحدثت أعلاه عن مفهوم الرحلة الإبداعية بصورة كثيفة، وخلال هذه الرحلة تتشكل العلاقة بين أبعاد وتكوينات وأكوان ورؤى الكاتب. عملية مضنية تحصل عبر نضالات واشتباكات والتباسات لا حصر لها حتى تستقر. واستقرارها هذا ولادة مستمرة، وبهذا المعنى يقول محمود درويش: «هناك شعراء يولدون»بالتقسيط» وأنا من هؤلاء الشعراء. ولادتي لم تتم مرة واحدة إني شاعر ولد بالتقسيط».

إذن، في الرحلة الشاقة والممتعة، يجد الكاتب نفسه مثل قطرة ماء تتقلب في سياقات نهر الواقع والحياة الملموس بما هو ضجيج الحياة وتفاصيلها المختلفة والمتنوعة، الأسرة ، الدراسة العمل، الاقتصاد، الجغرافيا والتاريخ. أي كل شئ ملموس أو كل شيء نتحرك في سياقاته، أي الواقع بشموليته. وهذا له إشكالاته وتأثيراته وآفاقه وقيوده ومحدداته التي على الكاتب أن يبقيها حاضرة في ذهنه، فهو وإن تمرد عليه إلاّ أنه لا يستطيع الفكاك منه. في سياق هذه العملية ومعها وبموازاتها أحياناً تتشكل وبالتدريج أيضاً قناعات ورؤى وخيارات الكاتب/المبدع الفلسفية والوجودية والجمالية، عبر عملية التفاعل الملموس على صعيد الوعي والاستجابات لتحديات الواقع، أياً تكن طبيعتها. هذا التفاعل يبقى مشدوداً إلى القناعات والقيم الفلسفية، الدينية، الاجتماعية، السياسية، التي يتبنّاها ويختارها الكاتب، ويتحرك وفق حركتها اقتراباً أو ابتعاداً، أو المزاوجة بينها.

هذه العملية هي التي تشكل خافيات الكاتب ونصوصه المقصود هنا جميع حقول الإبداع والخافيات الإبداعية هنا هي بمثابة القوة السارية. إنها التخلّق الناجم عن صيرورة وعي الكاتب وعواطفه وتفاعله وانفعاله، وهي عادة عميقة الغور في الطفولة والتاريخ والحضارة والأساطير والجغرافيا وخصوصية المجتمع الشعب وغير ذلك. وهي بالتالي مفتوحة على طيف واسع من الخافيات، فقد تكون: الصحراء، البحر، الغابات، الوطن، الأنثى، الأم، كاتب أو فنان محدد، فلسفة، دين، جبال، حدث ما مثل حرب أو كارثة، الحب، الخيل، السماء، الفضاء… وغير ذلك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى