أفلام سينمائيّة شرقاً وغرباً
يقدّم المخرج محمود كامل في بداية فيلمه «خارج الخدمة» شخصيته الرئيسية «سعيد» أحمد الفيشاوي ، المدمن المهمش الذي يعيش على سرقة ما تطوله يده من العاديات في المنازل التي يقوم بتنظيفها، من خلال لقطات بعيدة وكادر غير ثابت، يوحي أن الكاميرا تتلصص على الشخصية وواقعها المأزوم، بين البحث عن المال والتفاوض على المسروقات، أو التملص من سداد دين مالي لأحد «البلطجية». ثم تتنقّل الحوادث بين الشارع والغرفة التي يسكنها «سعيد» إلى منزل «هدى» شيرين رضا الأرملة الخمسينية ذات الجمال الذي حطمته الوحدة وانكسار زهرة العمر. ويبدو المخرج مدركاً لأبعاد الدراما التي يعالجها والصراع الذي يتطوّر ببطء بين الشخصيتين الرئيسيتين، مذ يبدأ سعيد في ابتزاز «هدى» بالفيلم القصير الذي يعثر عليه مسجلاً على إحدى الفلاشات، أثناء سرقة شقة هجرها صاحبها والذي تبدو فيه «هدى» وهي تخنق طفلة صغيرة في شقتها ثم تغادر بدم بارد. وتتمحور الكاميرا حول العنصر البصري الرئيسي في مشاهد شقة «هدى»، وهي الأريكة التي يمارسان عليها نشاطهما في التعاطي والجنس، أو بمعنى أدق خمولهما المتدفق والمتنامي مع تنامي العلاقة بينهما، والمخدرات التي يتقنان تعاطيها كأنها راحتهما الوحيدة أو حلمهما المفقود. ويتخبط السيناريو في البداية قبل الدخول إلى عالم شقة «هدى» وتطوّر علاقتها مع «سعيد»، من الابتزاز إلى الاغتصاب إلى الصداقة فالزواج العرفي. ويركز السيناريو على أزمة «سعيد» ورغبته في الحصول على المال، كأنه وحده بطل الحكاية، ويفسح له مشاهد كثيرة في البداية، ربما لتبرير عملية الابتزاز، رغم أن السياق ليس في حاجة إلى ذلك. «سعيد» شخص غير أخلاقي لا يتورّع عن سرقة أي شيء لأجل الإدمان الذي تظهر علاماته الجسدية عليه بوضوح، من خلال أداء دقيق لأحمد الفيشاوي في أفضل أدواره على الإطلاق، مجسّداً في إتقان للانكسار الجسدي والنفسي الذي يعانيه والإيحاء بألم متواصل لا ينتهي سببه الحاجة المستمرة إلى المخدر والهرب نحو عالم بعيد.
رغبة الحفاظ على الغموض المتعلق بشخصية «هدى» جعلت الدور المكتوب لها سينمائياً بامتياز، فتتعرّف إلى تاريخها الشخصي وروحها المحطمة من انعكاس قراراتها وأفعالها على علاقتها بـ«سعيد»، مذ أن تطرده في أول محاولة ابتزاز، وصولا إلى استجابتها لاغتصاباته المتكررة، كأنها تبرر لنفسها استسلامها الجسدي له مرة فأخرى. والانسجام بين الفيشاوي وشيرين ملموس منذ ظهورهما قبل عامين في مسلسل »دون ذكر أسماء» للمخرج تامر محسن. ولا شك في أن شيرين أعادت اكتشاف نفسها كممثلة بعد سنين طويلة من تجاربها المتواضعة والعابرة في التسعينات مع أحمد زكي في فيلمي «حسن اللول» و«نزوة». وتتكشف ملامح شخصية «هدى» تدريجياً عبر علاقتها بعنصري الأريكة و«سعيد»، ولا تخفى دلالة الأريكة السياسية، خاصة مع وجودها أمام التلفزيون لمتابعة أخبار الاحتشاد لتظاهرات 30 يونيو، ما يعرف بـ«حزب الكنبة»، أحد أشهر المصطلحات السياسية في مصر بعد 25 يناير 2011، ويطلق على فئات الشعب التي تجلس في المنازل أمام شاشات التلفزيون لمتابعة الحوادث من دون المشاركة فيها.
يلجأ المخرج إلى مصادر الضوء الطبيعيّ من نافذة الصالة، بعيداً عن شطحات التأثيرية والتعبيرية التي أفسدت الكثير من مشاهد أفلامه السابقة، وصنع مع مدير التصوير تلك الحالة اللونية الزرقاء الباهتة التي تكسو الشخوص في خمولها الطويل فوق الأريكة، مع استبدال نور النهار الباهت بانعكاس إضاءة التلفزيون في المشاهد الليلية التي تضفي مناخات زرقاء باردة تدل على تسرب الحياة وفقدان الحرارة، خاصة في لقطات الغياب الكامل عن الوعي من أثر المخدر حتى أن «سعيد» و«هدى» يبدوان مثل جثتين. هنا تتجاوز الأريكة، أو الكنبة، الدلالة السياسية بكونها عنصراً يعبر عن الغيبوبة الروحية للشخصيتين، فعلاقتهما التي تتطور عبر سياقات الابتزاز، ثم الاغتصاب فالاستجابة، تنمو من خلال تجاورهما على الكنبة كأنها دلالة صعود درامي. وينجح الفيلم في التحوّل بالكنبة من حيّز التأويل السياسي الذي تدعمه مشاهد التظاهرات والخطب «الإخوانية» في 30 يونيو، إلى كونها تابوتاً رمزياً لتلك الأرواح التي أصبحت خارج الخدمة البشرية.
«حرّة» للتونسيّ معز كمون… آلام العجز والخيانة
تتأبط «علياء» فاطمة ناصر حقيبة وتمسك باليد الأخرى ذراع ابنتها الصغيرة مغادرة بيت الزوجية، معلنة أنها لن تعود إليه ثانية. إنّها اللقطة الأخيرة من فيلم «حرة» نص وإخراج التونسي معز كمون في ثالث شريط سينمائي طويل له بعد «كلمة رجال» 2006 ، و«آخر ديسمبر» 2010 .
يظل وفياً للقضايا الاجتماعية المسكوت عنها في المجتمع التونسي، فبعد تناوله مسألة الزواج العرفي في فيلمه الأول «كلمة رجال»، ومسألة العذرية ونظرة المجتمعات الذكورية إليها في فيلمه الثاني «آخر ديسمبر»، يطرح كمون في فيلمه الأخير مسألة البرود الجنسي بين الزوجين والخيانات عامة. «كريم» أحمد القاسمي شاب في مقتبل العمر، فقد والده وألفى نفسه وحيداً مع والدته صعبة المراس، فهي امرأة تحمل مبادئ شيوعية، لكنها تعيش بذخاً اجتماعياً بادياً من خلال البيت الكبير الذي تسكنه. «جميلة» سامية رحيم امرأة شارفت على الخمسين، جريئة وثورية، تعاقر الخمرة يومياً، أم متحرّرة وانتهازية تتكشف حياتها تباعاً من خلال قصة الفيلم عن أنها انتزعت زوجها الراحل من أقرب صديقاتها التي انقطعت صلتها بها نحو ثلاثين عاماً قبل أن تلتقيا مجدداً، وتعاود «جميلة» أو تحاول الفعل ذاته مع زوج صديقتها الجديد. الزوجة الجميلة «علياء» تعيش حياة زوجية بائسة مع زوجها «حمادي» جمال ساسي الذي تكشف مشاهدها الأولى معاً عجزه الجنسي، ما يجعله تباعا يعنفها دوماً بالشتم والضرب، ربما لإثبات رجولته المهزوزة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك في استعراض فحولته مع فتاة أخرى، يبدو أنه لم يعاشرها البتة من خلال حوار مقتضب معها. في ظل ما تعيشه «علياء» من عنف أسري، تتعرف ذات لقاء بـ«كريم» حبيب صديقة شقيقتها الذي يلاحقها مراراً حتى تقع فريسة غوايته. وفي ليلتها تلك، وبعدما ارتشفا من الحب أعذبه، خرجا معاً ليكملا السهرة وكانت «علياء» بين نقيضين، الأول إتمام ليلتها التي لا تريد لها أن تنتهي هرباً من واقعها، والثاني إقراراها لـ«كريم» بأن ما حصل بينهما لن يتكرر لاحقاً، فضميرها يعذبها عما اقترفته في حق زوجها وابنتها. وبينما هي بين عذاب ضمير وجني رحيق الحب مع عشيقها، تصادفها شقيقتها الصغرى وصديقتها في مقهى القرية، فتنهار جميع القيم فجأة، وتتكشف الحكاية للشقيقة الصغرى وصديقتها المخدوعة في حبيبها الذي هجرها بعدما تعرف على «علياء»، وبهدوء تام تقرر «علياء» ترك بيت الزوجية طلباً لحياة حرة.
هذه في اختصار قصة فيلم «حرة»، الذي يبدو إيقاعه بطيئاً مثل حياة بطلته فالحوار مقتضب، والكلام قليل والانفعالات متشابهة، عدا العمّ «علي» لطفي بندقة الذي يضفي على الفيلم بعضاً من الفكاهة الملطفة.وتحسب لمعز كمون، كسائر أفلامه السابقة، حرفيته العالية في اختيار المشاهد والزوايا، فضلاً عن المؤثرات الصوتية والإضاءة الخافتة والباردة غالباً إذ تعكس برودة العلاقات بين الشخوص. نجح كمون في تصوير مشاهده بجمالية، مستنداً إلى مهارة عالية في التأطير والتقطيع والتركيب، فالصورة والحركة متناسقتان مع الزمان والمكان والألوان والصوت، فضلاً عن التوزيع المحكم بين اللقطات القريبة واللقطات المكبرة التي تركز على الوجه وأدق تفاصيل الحركة، لإبراز أهمية الحدث الدرامي.
«تسامٍ» فيلماً مبحراً في الذكاء الاصطناعيّ لإنقاذ البشريّة
يحلّق فيلم «تسامٍ» أو «تفوّق» للمخرج والي بفيستير بعيداً في الخيال العلمي، مستنداً إلى الحقائق المتعلقة باستخدام قدرات العقل البشري، في كل موحد مع مساحة من الصراعات بين البشر والعاطفة والحب. ويشارك فيه من ألمع نجوم هوليوود، بينهم جوني ديب في شخصية «البروفيسور ويل»، والممثل مورغان فريمان في شخصية «عميل أف بي آي» وآخرين.
يواصل «البروفيسور ويل» بدعم ومساعدة زوجته «إيفلين» ريبيكا هال إجراء أبحاثه في موضوع الإدماج بين الذكاء والذاكرة العقلية البشرية الطبيعية-البيولوجية، وبين نظيرتها الصناعية، وصولاً إلى الذكاء الصناعي فائق التطور. ويظهر «ويل» في الفيلم ملقياً محاضراته وإنجازاته في قاعة ضخمة تكتظ بالباحثين وطلاب العلم، وبمشاركة زميله الباحث «ماكس» باول بيتاني ، وبعد انتهاء المحاضرة، وفيما هو خارج يتعرض «ويل» لإطلاق نار برصاصة واحدة يتضح في ما بعد أنها ملوثة بمادة البلوتونيوم المشعة والقاتلة، فلا يبقى له من الحياة سوى شهر واحد، ما يدفع زوجته إلى البحث عن مخرج من هذه المأساة، وتتوصل إلى نتيجة تقترحها على «ويل» بتحميل وعيه وخبراته في النظام المعلوماتي، وبالتعاون مع صديقهما المشترك «ماكس» تجرى العملية التي هي مزيج من الجراحة الدماغية لربط التوصيلات والنظم المعلوماتية الرقمية، ويكتشف كلاهما فجأة نجاح ما قاما به، لكن «ماكس» لا يصدق الأمر ويرفض التسليم به، ما يضطر «إيفلين» إلى طرده نهائياً.
تعترض «ماكس» عصابة من الإرهابيين والمتطرفين المتشددين الرافضين مشاريع الذكاء الصناعي، إذ تعتبره تدخلاً في الخلق الإنساني ومساساً بالدين، ويعذبونه ويسجنونه، وينجحون في تجنيده في حين تصل «إيفلين» إلى مستوى متطور من الحوار اليومي مع زوجها وتشعر به كأنه عاد حياً، رغم أنه لا يظهر إلاّ عبر الشاشات ومن خلال شبكة الإنترنت أو من خلال صوته ورسائله. في المقابل يرعاها «بيل» من غدر تلك المجموعة الإرهابية التي تلاحق المشروع وتقوم بعمليات اغتيال منظمة للعاملين فيه ونسف معاملهم، لذا تبقى «إيفلين» عصية عليهم، بسبب تدارك «ويل» المواقف وتحذيرها من الذهاب إلى هذا المكان أو ذاك.
تنشئ «إيفلين» بإرشاد من «ويل» مدينة فاضلة فريدة، ذكية، ضخمة، مليئة بالأجهزة والمعدات المتطورة في مجالات الذكاء الصناعي والقدرات الفائقة لكائنات مستنسخة وتجارب متطورة على الخلايا الجذعية، وصولاً إلى النجاح في استنساخ كائنات مخبرية تنشئ منظومة للطاقة الشمسية والطاقة المتجددة، بالإضافة إلى إجراء جراحات لا يتدخل فيها الإنسان لإنقاذ حياة البشر. ومع ذلك تجنّد تلك الشخوص وتحوّل إلى نوع من الكائنات المصنّعة ذات القدرات العالية. بعد زيارة للموقع من قبل عميلي «إف بي آي» «دونالد» و«تاغر» سيليان ميرفي ومورغان فيرمان يثبت أن المشروع بات يشكل خطراً قومياً، لعدم القدرة على السيطرة على وظائفه، وبسبب بلوغ مرحلة من السيطرة على القدرات البشرية وإنتاج الكائنات المستنسخة. يحصل اتفاق بين الشبكة الإرهابية، و«أف بي آي» للإجهاز على المشروع ويقصف بالمدفعية، لكن الكائنات المستنسخة تنجح في تفادي الهجوم. فيلجأ «ماكس» إلى زرع فايروس في جسم أحد عمال الموقع بغية التسلل إلى النظام وتخريبه في حدود ما يقوم به «ويل» من تجارب، وتحصل مواجهة عنيفة يضرب فيها كل شيء في الموقع، إلاّ أن القدرات الخارقة التي توصل إليها «ويل» تحول دون الوصول إلى نتائج مؤثرة. يظهر «ويل» في الفيلم ملقياً محاضراته وإنجازاته في قاعة ضخمة مكتظة بالباحثين وطلاَب العلم، وبمشاركة زميله الباحث «ماكس» باول بيتاني . في الآن ذاته تجد «إيفلين» نفسها في حيرة من أمرها، لا سيما بعد اكتشافها أن زوجها يجري فعلاً بإجراء تجارب بالغة الخطورة على البشر، ويتوصّل إلى ابتكارات غير مسبوقة في مجال الاستنساخ، لذا تتفق مع «أف بي آي» ومع صديقها «ماكس» على إقناع «ويل» بتحميلها إلى نظامه. ومن خلال ذلك تبدّل «إيفلين» وظائف النظام كله، لكنها تصاب بجروح خطيرة من جراء القصف، وتجد نفسها للمرة الأولى في مواجهة صورة حقيقية لزوجها، وتخوض معه جدالاً، ونخلص إلى أن الفيروسات تفتك بالنظام المعلوماتي كله وبالتالي تنتقل إلى كامل نظام الكرة الأرضية، فيتعطل الإنترنت من حول العالم. وينشأ عن ذلك توقف المصانع وتجهيزات الكهرباء وحركة الطائرات، وتغرق البشرية في ظلام دامس، فيما يجد «ماكس» صديقيه «ويل» و«إيفلين» متعانقين وقد غابا بعيداً عن العالم الواقعي.
يطرح الفيلم فرضية أن هذا النظام المتكامل المفترض قادر على إنقاذ البشرية من العديد من المشاكل المعقدة، مثل التلوث بمختلف أشكاله وتنقية المياه بشكل طبيعي.