الخروج في طريق العودة… من آسيا إلى أفريقيا
ناصر قنديل
– لن ينتهي التاريخ، هذه هي الحقيقة التي صفعت نظرية فرانسيس فوكوياما، حول انتصار الأحادية الأميركية في العالم ورسم مسار مسيطر عليه بقوة التفوق التكنولوجي، فالتاريخ هو مجموع السيرة الفعلية للشعوب، في صراعاتها وتفاهماتها وقدرتها على امتصاص أزماتها، لتؤكد قدرتها مجتمعة على الصعود في سلم القيم نحو الأسمى، وفي الرفاه نحو الأعلى، وفي إعلاء قيمة الإنسان نحو الأكثر عدلاً، وهي سلالم لا نهايات لصعودها، فلا نهاية للتاريخ بمواصلتها كاتجاه حاكم لمسار التاريخ البشري، لكل الشعوب وكل الحضارات، ولن تصطدم الحضارات، رغماً عن أنف صموئيل هنتنغتون، بل ستظل تتلاقح وتتناسل منها حضارة إنسانية لا تزال تتجدد كل يوم، وتصادم الهويات الثقافية والدينية والعرقية، ليس تعبيراً عن الحضارات وتصادمها، ولا عن مسار حكمي في تاريخ البشرية، بل هو علامة مرور البشرية بلحظة وهن حضاري، وتغلب الهويات الفتاكة على الهوية الخاصة المفعمة بقيم البناء التي يملكها كل مكون بشري جماعي، يسهم عبرها في الحضارة الإنسانية الجامعة.
– الصعود الأحادي الأميركي رافقته حالة هذيان فلسفي، من نوع جنون العظمة الذي يعيشه المصابون بعقد النقص عندما يشعرون بدنو لحظة الانتقام من مصدر عقدتهم، كحال الذي أدمن على الفقر ودنت لحظة بلوغه المليون الأول، ويقول إن المال هو علامة الفصل بين الناجحين والفاشلين، ويقول زميل له في العقدة ودنو اللحظة، المال يصنع كل شيء، هكذا وجدت أميركا نفسها تصب جام غضب فلاسفة صعودها، على الحضارة بما هي تراكم في سلم البناء الإنساني لآلاف السنين، التي تفتقدها أميركا، فيضيع عندها معنى المفردة، وتعلن حربها على التاريخ، الذي ليس مجرد مستقبل سيمتد لآلاف السنين، بقدر ما هو ماض ممتد أصلاً لمثلها.
– الآن وقد هدأت موجات الهذيان الفلسفي، وتمت العودة الآمنة إلى الاعتراف بحقائق البشرية، وموقع التاريخ والجغرافيا، والحضارة فيها كعلامة حضور، لتراكم معرفي عميق للإنسان لمفهوم الوجود والهوية بما يتخطى العلم والتكنولوجيا كاختزال سطحي للمعارف، وبالمقابل موقع هذا الإنسان المجبول بالمعارف والثقافات والقيم ولو بكفاءة تكنولوجية متدنية، في المواجهة مع ألعاب التكنولوجيا في الحرب، وقدرته على تسخيرها وفقاً لمعادلة تمكن الأعلى بالأدنى في سلم الخلق، فيتفوق الإنسان الحضاري المؤسس على فطرة الجماعة وقيم الكرامة الإنسانية على جشع المال وإغواء التكنولوجيا أو تحديها، وينتصر بذلك على الإنسان التائه بلا حضارة ولا تاريخ، بكم وافر من المال والتكنولوجيا، ليصير خادم التكنولوجيا وعبد المال لا سيدهما، وها هي عندما تتواضع أميركا، وتذعن لحقائق العالم القديم، الذي قامت نظرياتها الحديثة على احتقار جزئه الأوروبي، واستعداء جزئه الآسيوي، تنحني للحقائق لكن بخبث فقط.
– أميركا الجديدة لن تستسلم، تحرف مسار شراعها مع ريح جديدة، تهدئ جبهات نيران أوروبا تحت رماد أوكرانيا، وتتجه لتسويات وتفاهمات الحد من الخسائر في آسيا، ويقودها حس القراصنة وتجار الذهب والجياع من مهاجري أوروبا التائهين في البحار وجنونها، لإدراك مكانة أفريقيا في حروبها الجديدة، ففي أفريقيا كل شيء ينبئ بالموت الرهيب، الأمراض المتفشية تصير سوقاً لابتكارات تحت السيطرة لسوق الدواء، وحروب الأعراق والأديان والقبليات سوق سلاح نموذجية، والمجاعات القاتلة والجفاف سوقاً للاستثمارات في أشد بقع الأرض خصوبة، وتقديم أحدث ابتكارات منظومات الري والتخزين، والشعوب التي لم تكتشف بعد الجيل الأول من التكنولوجيا ستلتهم بنهم كل جديد حتى بلوغ الجيل العاشر، تتجه أميركا للقارة التي تشكل خزائن الغذاء العالمية، وركود الأسواق الصناعية شفاؤه في مخزون الأرض من الثروات المعدنية البكر، وفي أفريقيا يتقرر مصير القوة الصينية، ووراثة الشيخوخة الأوروبية، والإمساك بخطوط النقل البحري بين أوروبا والهند والصين وشرق آسيا، والممرات المائية الحساسة في باب المندب وجبل طارق وقناة السويس.
– من ليبيا إلى مالي إلى الكونغو ونيجيريا والصومال والسودان وتشاد وصولاً للغابون وأنغولا وغيرها تموج أفريقيا بنيران تلتهم الأخضر واليابس، تحت نظر أميركا، وبتشجيع منها في كثير من الأحيان، لتبدو جولة المواجهة الجديدة فلسفياً تحت عنوان جديد، الانتقام من الجذور التي تشكل عقدة الذنب بدلاً من عقدة النقص هذه المرة، فكم من الألوف من الأفارقة قضوا وهم يجلبون في صناديق الخشب مقيدين بالسلاسل لتنهض أميركا برفاهها، وتصير كما نعرفها، وتعترف بعد قرنين من ولادتها بذوي الأصول الأفريقية مواطنين ينتخبون، ويستنخب من بينهم رئيس للولايات الأميركية المتحدة.
– تموضع أميركي نحو أفريقيا، تبشر به السياسات الأميركية نحو ليبيا، وتبدو تركيا شريكاً أفريقياً لأميركا فتحظى بالدلال، بعدما فشل المشروع الأميركي في آسيا، وفشلت تركيا في استحقاق الشراكة، ومثلما ستسعى واشنطن لحصار بكين وقطع الطريق على تنامي قوة إيران من بوابة أفريقيا لتضمن عودة قوية نحو آسيا، سيسعى الأتراك لإعادة إنتاج دورهم الآسيوي من دورهم الأفريقي تأسيساً على دورهم الليبي، ومن ينتبه لن يفوته أن يرى الأسبقية «الإسرائيلية» في التنبه لأفريقيا، والحظوة التي ستفرضها المهام الأفريقية لمكانة «إسرائيل».
– التسويات والتفاهمات ستعيش لعقد قادم يكون الصراع فيه مستتراً، في أفريقيا، حتى يجيء وقت تظهير المعادلات الجديدة، وهذه المرة أمام تحالف الصين وروسيا وإيران ودول البريكس تحد اسمه أفريقيا، لحماية التوازنات التي كلفت تضحيات جساماً، وتكريس معادلات إنسانية جديدة، تقودها جنوب أفريقيا التي ترمز بعضويتها في البريكس وبتاريخ نضالها الإنساني للصورة التي نحب أن نراها لأفريقيا.