الأسطورة الإغريقيّة رَوَت: من «صندوق باندورا» الذهب خرجت قوى الشرّ

كتب محمد زكريا توفيق ميدل ايست أونلاين : بعد إدانة زيوس لـ «بروميثيوس»، بسبب سرقته النار وإهدائها للجنس البشري، أخذ يفكر في طريقة لمعاقبة الإنسان لقبوله الهدية. وبعدما قدح زناد فكره وجد وسيلة. طلب من الإله الأعرج هيفاستوس أن يضع له تمثالاً من الصلصال، ونصحه باستخدام أفروديت زوجته مدويلاً ليكون التمثال أجمل الممكن. ونفخ زيوس في التمثال فتحول الصلصال إلى غادة رائعة الحسن والجمال تدب فيها الحياة. بعد ذلك جمع الآلهة وطلب أن يقدم كل منهم للمخلوقة الجديدة هدية.

أبولو علمها الغناء والموسيقى والعزف على القيثارة. أثينا علمتها الغزل والنسج. ديميتير علّمها الزراعة والعناية بالأشجار والزهور. أفروديت علمتها الرقص وكيف تعتني بمظهرها وتظهر دلالها وجمالها، وفوق ذلك كيف ترمق الرجال بطرف عينها من دون أن يلاحظها أحد.

بوسيدون، أهداها عقداً من اللؤلؤ، ذي حبّات كبيرة، ووعدها بأنها لن تغرق البتة في الماء أبدا. هيرميس أهداها صندوقاً ذهباً جميلاً وحذرها من محاولة فتحه تحت أي ظرف ونال، منها وعدا بذلك. أما هيرا، فقد أعطتها غريزة حب استطلاع شديدة الوطأة.

أخذها هيرميس من يدها ونزل بها من قمة الأوليمب. ذهب إلى إبيميثيوس شقيق بروميثيوس المغضوب عليه من الآلهة، وأخبره بأن هذه الغادة هي هدية زيوس له، لقاء الغبن الذي وقع على العائلة بسبب ما فعله شقيقه. هي جميلة الجميلات، ولن يجد أجمل منها زوجة. اسمها «باندورا»، أي «هدية الجميع».

تزوج إبيميثيوس من باندورا. وكانت زوجة صالحة تعتني بشؤون البيت وتتولّى الغزل والخبيز والاعتناء بنباتات الحديقة. وحين يعود زوجها تسليه بالرقص والغناء. كانت تعتقد أنها وزوجها أسعد زوجين على وجه الأرض. لكنّ أمراً واحداً كان يعكر مزاجها ويشغل تفكيرها ليل نهار هو الصندوق الذهبي. كانت تضعه على المنضدة وتنظّفه وتلّمعه يوميّاً كي يعجب به كل من يراه. تسقط أشعة الشمس على سطحه يتوهج ويبرق بألوان الطيف المختلفة التي تزيده جمالا على جمال، وتضفي على نقوشه روعة على روعة.

راحت باندورا تتساءل: لماذا أهداها هيرميس الصندوق مغلقاً وطلب منها عدم فتحه وقد أصبح ملكاً لها؟ لا بد أنه يمزح. أنا أعرفه جيداً وأعرف أنه يحب المزاح والفكاهة وتوضيب المقالب. جميع الناس والآلهة تعرف ذلك.

بلى، إنه يمزح. عندما يعطيني هدية، ثم يقول لي لا تفتحيها تحت أي ظرف. هذا كلام غير معقول على الإطلاق. إذا كان الصندوق الذهبي بهذا الجمال والروعة من الخارج فكيف يكون ما بداخله؟

لا بد أن هيرميس جعل ما في داخل الصندوق مفاجأة لي. جواهر وحلى جميلة بالتأكيد لم تر مثلها عين من قبل. لا شك في ذلك. إذا كان الصندوق من الذهب الخالص، غنيّاً بالنقوش ومطعّماً بالجواهر من الخارج، فلا بد من أن يكون ما في داخله شيء رائع أيضاً، وإلا ما كان يصلح لأن يقدم كهدية.

ربما يتوقع هيرميس أن أفتح الصندوق بنفسي، لكي أفاجأ بما فيه من روائع، فأشكره. لكن باندورا كانت تعلم أنها يجب ألاّ تفتح الصندوق. تم تحذيرها، بالإضافة إلى أنها وعدت بذلك.

حملت باندورا الصندوق عن المنضدة أمام النافذة ورمته في غرفة الخزين المظلمة بعيداً عن عينيها وتفكيرها. لكن ذلك لم يفعل شيئاً سوى زيادة نار شعلة حب الاستطلاع الموقدة داخلها. الرغبة في معرفة ما في داخل الصندوق تكاد تقتلها. تسيطر على عقلها وتملك لبها أينما تذهب. كانت تخلق الحجج والأعذار لكي تدخل الغرفة حتى تلمس الصندوق بيديها. لكنها كانت تلقيه وتفر هاربة وتغلق باب الغرفة على الصندوق، أخذت الصندوق الذهبي ووضعته في صندوق خشبي. ومن ثم وضعته في حفرة عميقة وأهالت فوقه التراب.

لدى عودة زوجها أبيميثيوس تلك الليلة، كان شعرها منكوشاً ويداها داميتين وسترتها ممزقة. لكنها لم تقل سوى أنها كانت تعمل في الحديقة.

ليلاً أضاءت أشعة القمر الغرفة. لم تستطع باندورا النوم. جلست على السرير وظلت تتلفت حولها. أرجاء الغرفة كلّها كانت تستحم في ضوء القمر. كل شيء كان مختلفاً. كانت ثمة ظلال عميقة وبقع ضوء فضية. خرجت باندورا من الغرفة ومشت على أطراف أصابعها. ذهبت إلى الحديقة. الزهور والأشجار كانت تتمايل. الدنيا كلها كانت ترقص في ضوء القمر. أخذت باندورا الجاروف وحفرت الأرض لتخرج الصندوق الخشب. أخرجت منه الصندوق الذهبي. كان الصندوق بارداً جداً. كانت باندورا ترتجف خوفاً. لكن الرغبة في معرفة ما في داخل الصندوق كانت أقوى من خوفها. ما في داخل الصندوق، بالنسبة إليها، هو سر الحياة. ستموت حتماً إن لم تعرف ما هو.

تناولت باندورا مفتاح الصندوق الذهب من سترتها، وفتحت به الغطاء ببطء. سمعت صوت احتكاء أجساد محشورة في الصندوق، وشمت رائحة كريهة. ثم خرجت من الصندوق مخلوقات أشبه بالسحالي ذات أجنحة مثل الخفافيش، وعيون تطلق شراراً. طارت تلك المخلوقات وحامت حول رأس باندورا مرفرفة بأجنحتها وصائحة بأصوات حادة. ثم اختفت من المشهد في جنح الليل مصدرة أصوات نقنقة مثل أصوات الدجاج.

كادت باندورا تصاب بالإغماء. وفي تلك الحالة تمكنت آخر لحظة من غلق الصندوق الذهب بكامل قوتها على آخر مخلوق صغير لم يتمكن من الهرب. صرخ وعضها في يدها وخربشها بمخالبه محاولاً الهرب. لكنها تمكنت من إرجاعه إلى الصندوق وإحكام الغطاء عليه. ثم أغمي عليها وسقط الصندوق من يدها.

المخلوقات التي كانت في الصندوق وهربت عندما فتحته باندورا، هي الأمراض التي بُلي بها الإنسان. الأمراض في أشكالها المختلفة وتحصى بالآلاف. هي الشيخوخة والمجاعة والجنون واليأس والفشل والحرب والخيانة والغدر وباقي عائلة الشر.

بعدما طارت تلك المخلوقات من الصندوق انتشرت في البقاع كافة ودخلت كل بيت. عندما يأتـي أوانها تطير وتلدغ وتسبب الآلام الممكنة والأسى والموت.

ربما كان الأمر أسوأ من ذلك لو هرب المخلوق الذي نجحت باندورا في إبقائه محبوساً داخل الصندوق. لو هرب هذا المخلوق لعرف كل منا ما سوف يصيبه من شر ومتى سيموت.

إنه أمر لا يستطيع الإنسان تحمله. أطلقت باندورا قوى الشر كلها من الصندوق الذهب، لكن يا لحسن الحظ، لا تزال تحتفظ بالمخلوق الأخير وهو اليأس. حبس اليأس ونجا الإنسان من شره. من ثم، ظل الأمل وصديقنا الوفي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى