تحدياتنا الاقتصادية… بين الأمس واليوم
لمياء عاصي
تحدّث الخبراء الاقتصاديون وصانعو القرار الاقتصادي في سياق التحضير للخطة الخمسية الحادية عشرة في بدايات العام 2011، قبل الأزمة التي سبّبتها الحرب القذرة على سورية، عن وجوب وجود نموذج اقتصادي جديد، يستطيع تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والمتوازنة، وكانت الأسئلة تدور حول قاطرة النمو الأكثر فاعلية… والروافع الاقتصادية والاجتماعية للاقتصاد الجديد، وكانت التساؤلات كثيرة، عن الآفاق الواعدة لكلّ من قطاعي الصناعة والزراعة وكذلك السياحة؟ وما هي الأولويات التنموية…؟ هل ستكون بالاستثمار في البنى التحتية… أم في التقانة الحديثة؟ والكلّ مقتنع بأنّ تطوير وتأهيل الكوادر البشرية وقوة العمل تحتلّ أولوية كبرى، وأصبح هناك شبه إجماع على أهمية توسيع القاعدة الصناعية، والارتقاء نحو الصناعات الأكثر استخداماً للتقانات العالية.
أما التحديات التي كانت تواجه الاقتصاد السوري قبل الأزمة، فقد كانت تتلخص بثلاثة محاور رئيسية:
أولاً: تعزيز مستوى الجودة والابتكار والإبداع في المنتج الوطني: حيث كانت المنتجات السورية، تعاني من عدم قدرتها على إثبات حضور متميّز وقويّ في الأسواق الداخلية والخارجية، بسبب ضعف مقاييس ومعايير الجودة، لذلك اعتمد المنتج السوري ولفترات طويلة، على السعر في المنافسة لا على الجودة والابتكار، كما اعتمد التقليد للمنتجات الأخرى، مثلاً، قطاع الألبسة، بالرغم من التاريخ الطويل لسورية في الصناعات النسيجية، بقيت صناعة الألبسة تفتقد إلى الجودة وعناصر الابتكار والتصميم، ما أدّى بها إلى اللجوء لأسواق محدّدة تقبل بمستويات جودة أقلّ مقابل السعر الأكثر انخفاضاً، إذ أنّ المنتجين السوريين، وبدلاً من البحث عن موديلات وتصاميم مبتكرة والعمل على موضوع القيمة المضافة في المنتج، قاموا بتقليد المنتج الأجنبي بجودة أقلّ والتركيز على السعر كعامل أساسي للمنافسة، وهذا كان كارثياً على سمعة المنتج السوري، إذ أنه في عالم الانفتاح التجاري وبعد ظهور المنتجات الصينية العالية الجودة الرخيصة الثمن، أصبح من الصعب جداً الاستمرار في الاعتماد على المنافسة بالسعر فقط.
ثانياً: المشاريع الصغيرة والمتوسطة: برغم وجود استراتيجية وطنية لهذه المشاريع، إلا أنه لم يصدر قانون واحد لتشجيع الشركات والمشاريع الصغيرة أو المتناهية الصغر… كلّ الشركات مهما كان حجمها أو النشاطات التي تقوم بها، تخضع لنفس الشروط، حيث يطلب منها أن تمتلك سجلاً تجارياً… ومكاناً تجارياً، وأن تلتزم بالاشتراطات الضريبية… والنقطة الأكثر صعوبة التي واجهتها تلك الشركات الصغيرة، هي عدم قدرتها على الحصول على أية قروض بسبب الاشتراطات والضمانات الكبيرة المطلوبة، فبقي دور روّاد الأعمال ضعيفاً جداً، ويحتاج إلى معجزة للتمكن من الإقلاع في أيّ عمل، وبقي قطاع الأعمال محتكراً من قبل الأقوياء فقط، مما جعل الشباب يُقبلون على الوظائف الثابتة، التي قد تؤمّن لهم الحدود الدنيا للمستلزمات المعيشية.
ثالثاً: الاندماج في الاقتصاد الدولي، وهو لا يعني الانضمام إلى منظمات دولية مثل منظمة التجارة العالمية، وتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع الدول الأخرى فقط، ولكن الأهمّ هو أن يتمكن المنتجون من بناء القدرة على المنافسة في الأسواق الخارجية والمحلية من خلال القدرة على التكيّف وتبنّي المعايير العالمية، سواء بالنسبة إلى الجودة أو المكوّن التكنولوجي في المنتجات، وقد كان واضحاً، أنّ الاقتصاد السوري لن يتمكن من المنافسة في ظلّ التقاليد التي حافظ عليها لفترات طويلة، وسيبقى يدور في إطار تصدير المنتجات الأولية أو النصف مصنّعة في أحسن الأحوال واستهداف الأسواق الفقيرة… وغنيّ عن القول، إنّ هذا لن يؤدّي إلى زيادة في القيَم المضافة في الاقتصاد، ولن يساهم في رفع المستوى المعيشي للفرد السوري.
إنّ المحاور الثلاثة السابقة، كانت أهمّ ما يشغل بال صنّاع القرار والمخططين الاقتصاديين قبل الأزمة، فماذا عن اليوم؟ وبعد أربع سنوات من الحرب المدمّرة التي أطاحت بالمنشآت الإنتاجية والاقتصادية، والأيدي العاملة والماهرة التي هاجر قسم غير قليل منها، كما سبّبت هجرة الكثير من رؤوس الأموال السورية إلى خارج البلد… وهذا ما يمكن اعتباره الأسوأ على الاقتصاد، الذي بات يعاني شحّاً في رأس المال ويعيق أيّ استثمار لازم وضروري.
إنّ التحديات الاقتصادية التي يواجهها السوريون اليوم، حكومة وشعباً كثيرة ومعقدة، بدءاً من الصعوبات التي تكتنف عملية تأمين حوامل الطاقة اللازمة للإنتاج سواء الكهربائية أو المشتقات النفطية لعمليات الإنتاج، وتأمين المواد الأولية، وضعف مستوى الأمان على خطوط النقل، وصولاً إلى عدم استقرار سعر الصرف وما يسبّبه من اختلالات اقتصادية شديدة، تزيد عدد الفقراء بشكل كبير، وقد أدّت إلى توقف العمليات الإنتاجية في كثير من القطاعات.
ولشرح الفكرة، نأخذ كمثال، صناعة الأدوية التي أثبتت نجاحاً، وكانت معامل الأدوية السورية، تكفي السوق المحلية بنسبة تقارب الـ90 في المئة، وتصدّر قسماً من إنتاجها إلى عدد من الدول، ولكن بعد هبوط سعر الليرة السورية، ارتفع ثمن المواد الأولية المستوردة اللازمة لصناعة الدواء وأصبحت تكلفتها بالليرة السورية أكبر بكثير من السعر القديم، وفي نفس الوقت، امتنعت وزارة الصحة عن رفع سعر الأدوية بما يقابل ارتفاع تكلفتها الحقيقية،رنظراًإلى حساسية الدواء بالنسبة للمواطنين، مما أدّى إلى امتناع المصنّعين عن إنتاجها وتوقف الكثير من خطوط الإنتاج. هناك أوضاع مشابهة تقريباً، في الكثير من القطاعات مثل: صناعة الألبسة، والمواد الغذائية وغيرها، التي وبالإضافة إلى تأثير اختلالات سعر الصرف عليها، أضحت تعاني من صعوبات في تأمين رأس المال اللازم لتجديد خطوط الإنتاج وتشغيلها، في ظلّ توقف شبه كامل للقروض والخطوط الائتمانية من المصارف المحلية.
أمام واقع اقتصادي صعب يشبه الحلقة المفرغة، حيث الفقر يؤدّي إلى إحباط اقتصادي، والأخير يؤدّي إلى المزيد من الفقر. لكسر هذه الحلقة اللامنتهية، لا بدّ من اتخاذ بعض الخطوات الضرورية التي تساعد على الخروج من هذه الحالة، باتجاه التعافي بشكل تدريجي ولكن بثبات.
إنّ أهمّ هذه الخطوات هي كما يلي:
أولاً: محاولة تثبيت سعر الصرف عند سعر معقول ومنع أيّ انخفاض جديد في سعر الليرة.
ثانياً: اتخاذ إجراءات قوية وفعالة لرفد الإيرادات العامة للدولة، وفي هذا الإطار لا بدّ من التصدّي لبعض الملفات الشائكة مثل التهرّب الضريبي، الفساد، أملاك الدولة والتعديات المجانية، وغيرها . للتمكن من زيادة الإنفاق الحكومي في بعض المجالات كطريق وحيد للبدء بالتعافي الاقتصادي.
ثالثاً: لا بدّ من البحث عن شركاء دوليين للإقلاع في عملية إعادة الإعمار ولو بشكل تدريجي في المناطق الآمنة بعيداً عن البيروقراطية القاتلة، إذ أنّ ضخّ الأموال في الاقتصاد، هو السبيل الوحيد لإعادة دفع العجلة الاقتصادية.
رابعاً: إنّ التغيير في أسلوب وطريقة صنع القرار الحكومي الاقتصادي والتنموي هو أكثر من ضروري، والاتجاه أكثر نحو اللامركزية، وجعل السكان المحليين في المناطق والمحافظات، منخرطين أكثر في اجتراح الحلول الاقتصادية والتنموية الأنسب لمناطقهم، وحسب الميزات التنافسية في كلّ منطقة، إذ أنّ الاعتماد على الحلول الآتية من المركز والمثقلة بالبيروقراطية وتضارب المصالح المختلفة، أصبح من مخلفات الماضي بالنسبة إلى معظم الدول.
أخيراً، لا بدّ من القول، إنّ التمنيات والشعارات… والاستعراضات الإعلامية لا تصنع حلولاً لمشاكل بنيوية معقدة وصعبة، بل إنّ الحلول عادة تكون عبارة عن حزمة كبيرة من الإجراءات المتكاملة، يتمّ فيها تعاون كلّ قطاعات المجتمع والحكومة، وتحتاج إلى إرادة وعمل دؤوب… وتغيير دائم في السياسات حسب ما يفرضه الواقع، حيث لا توجد أيّ حلول… بمثابة عصا سحرية.