وليد تليلي: الشعر بديل جماليّ ينتصر للحقّ والإنسان والحياة

كتب محمد ناصر المولهي: تحتاج الكتابة إلى روح شابة مكتشفة ومندفعة، مثل ريح لا هرم فيها أو سكينة، وسط الحشود، فوق الخراب، وبين مفاصل الربيع، تنهل طاقتها من جماليات أخرى تتوغل حتى في أبسط التفاصيل في أجملها وأبشعها، ولعل ذلك جلي في كتابات الشعراء الشبان في تونس، الذين كتبوا ما كانت تحلم به أجيال سابقة مثل الطلائعيين والتسعينيين.

وليد تليلي أحد هؤلاء الشعراء الشبان، الذين حاربتهم المنظومة الثقافية القديمة المتكلسة وحاولت كتم أصواتهم، لكنه ظل مؤمنا بنصه، متشبثاً به رغم تضييقات النشر وغير ذلك من ممارسات جنرالات الثقافة.

«ليس سهلاً في الحقيقة أن نمسك بلحظة دخولنا عالم الكتابة»، بحسب الشاعر وليد تليلي في عملية الولوج إلى الكتابة والنص، مضيفاً: «الأمر كلّه يشبه دخول جنديّ في حرب مجهولة، حين يجد نفسه مجبراً على الدفاع عن نفسه. أنا أيضا أكتب كي أدافع عن نفسي. ما أذكره الآن أنّني ولدت في بيت حزين، ليس فيه جهاز تلفزيون أو راديو، ذلك أنّ العائلة كانت تقيم الحداد في ذلك الوقت على أشقائي الذين ماتوا قبل ولادتي. تلك العزلة دفعتني إلى البحث عن أصدقاء في الكتب المدرسيّة القليلة التي وجدتها في منزلنا، ثمّ إلى إيجادهم عبر الكتابة في ما بعد، كنت أترك رسائل على جذوع الأشجار، وعلى تراب الطرقات الريفيّة، وعلى حائط منزلنا وعلى كلّ شيء، وكنت أتخيّل أطفالاً وسيمين يأتون كلّ يوم أحد لأخذ رسائلي، بل إنّني كنت أتخيّل أنّهم يتركون لي رسائل أيضاً، وكنت أقرأها بصوت عال. أنا الآن أقترب من الثلاثين، بات لي أصدقاء كثيرون، وتلفزيون خاصّ بي وكتب وأوراق وأقلام كثيرة، لكنّني ما زلت مجبراً على العودة إلى ذاك الطفل، لأبحث عن قليل من العزلة وأحاول من خلاله الكتابة».

كثيراً ما يتحدث النقاد والكتاب أيضاً عن مشروع الكتابة والتراكم، وأن النص مدعاة للاشتغال الدائم حتى يكتب، لكن ماذا عن الكتابة المكتفية بذاتها، والتي تأتي دفعة واحدة، مثل الهايكو؟ يؤكد تليلي أنه لا يفكّر في الأمر قائلاً: «كلّ مرّة أكتب نصّاً أعتقد أنّه الأخير. لا أعرف إلى الآن كيف تتسلّل هذه الفكرة السوداء إلى رأسي، أو كيف أتجاوزها لاحقاً. أحسّ دائماً بعد الانتهاء من الكتابة بأنّني أعود مفرغاً من كلّ شيء، مثل قوقعة جوفاء، إلى حدّ أنّني أصير عاجزاً حتّى عن كتابة إرساليّة قصيرة على هاتفي، أو عن صوغ تغريدة على صفحتي في «فيسبوك». إنّها أوقات صعبة يمرّ بها كلّ شاعر على ما أظنّ، لكن في لحظة أخال أنّني اعتدت الأمر تلمع لؤلؤة نصّ جديد فأكتبه… وهكذا. أحيانا أقف لأنظر خلفي فأرى خطّ نصوصي يمتدّ متموّجاً مثل مسار رحلة بحريّة على خريطة في يد قرصان مغامر. لا أخفيك أن يشعرني ذلك ببعض السعادة، لأنّني لا أحبّ الخطوط المستقيمة التي تذهب إلى الهدف مباشرة مثل رصاصة. تلك المشاريع تقتل أصحابها في نهاية الأمر دائماً».

الشاعر وليد تليلي من قلّة تقيم داخل نصوصها على نحو لافت، حيث القرية والمدينة، وحيث الحب والحيرة، وحيث البسطاء ببشرتهم السمراء، وحيث عوالم رطبة تتنفس من النصوص هواءها وتشمّ تربتها. يحاول الشاعر أن يكون صادقاً حين يكتب، لكنه يؤكد أنه يفشل دوماً عندما يكون خارج النص، لذا يفضّل أن يكتب كذبه اليوميّ بصدق، على أن يكون كذّاباً تتعرّى حقيقته في كلّ نص. لكنه لا يخفي قلقه العميق من اعتبار الشعر نخبويّا وحكراً على مجموعة من البشر دون سواهم، أو أن يتمّ تقسيمه إلى حركات وأشكال ومجموعات. لكن الشاعر يعتقد من ناحية أخرى أنّ من المهمّ بالنسبة إلى شاعر أن يلمّ بتاريخ الأدب وجماليّات اللغة وتقنياتها. وما إلى ذلك، لكنّ ذلك ليس الأهمّ عنده، فالشّعر في رأيه هو في المقام الأول نضال دائم ضدّ الموت وضدّ السّلطة أينما كانت، من لأجل بديل جماليّ ينتصر للحقّ والإنسان والحياة. النص حركة دائمة تستمدّ وقودها من مناهل مختلفة ومتنوعة تنوّع ذوات الكتاب وبيئاتهم». يعتبر وليد تليلي نفسه من الشعراء الذين يسعون إلى إقامة العدل داخل نصوصهم أوّلا، لذا لا يبتعد كثيراً لأجل البحث عن نصّه، ولا يتكبّر على العناصر المحيطة به مهما كانت صغيرة. يتعامل معها بالقدر نفسه من الحبّ ويقول مؤكداً: «عامة، أكتب مثل مخترع مجنون، أستمتع بالنفخ في أشيائي الصغيرة من خلال قصبة قلمي، وأنتظر ما سيحدث. لا أخجل من الاعتراف بأنّ الأمر لا ينجح معظم الأحيان، لكنّني مستعدّ لتكرار المحاولة باستمرار، على أن أكتب نصوصاً مشوّهة».

تسمية الشعراء الشبّان في العالم العربي، وفي تونس خاصة، تحمل دلالات مبطنة لدونية ما، علماً أن النص نص، سواء كتبه شاب أو كهل او شيخ، فرهانه في النهاية جدّته وجودته بعيداً عمّا تستبطنه التسمية، يواجه الشعراء الشبّان اليوم مشاكل وعوائق عديدة يعتبرها وليد تليلي متماهية، بل هي نفسها مشاكل الشبّان التونسيّ عامة، مثل البطالة وانعدام الفرص والإقصاء القسريّ الذي تمارسه مؤسسات الثقافة الرّسمية بمختلف دوائرها البيروقراطيّة المقيتة، ويمارسه مثقفوها الانتهازيون، فضلاً عن دور الثقافة المشبوهة. هذه الممارسات يلفت الشاعر إلى أنها في خارج النص أو داخله، لذا يدعو جميع أصدقائه الشّعراء أوّلا إلى تجنّب اليأس، فذاك ما تراهن عليه المنظومات الهرمة اليوم، ثمّ إلى إعلان ثورتهم من داخل نصوصهم، وذلك بتفجير جميع الأصنام الشكليّة للكتابة وإقامة أشكال جماليّة جديدة متجاوزة للسائد.

حول رؤيته لواقع الشعر اليوم في ظل تناقص قرائه وتحوّله إلى بضاعة كاسدة، يقول وليد تليلي: « بقي الشعر طوال عصور طويلة وسيبقى دوماً لأنّ الإنسان في حاجة إليه. أنا متأكّد من أن القرّاء يبحثون عن القصائد الجميلة في كلّ مكان لكنّهم لا يعثرون عليها. لن أتحدّث هنا عن الدّور المشوّه الذي تلعبه المؤسّسات الثقافيّة في التعتيم على التجارب الإبداعيّة الجديدة، بل سأتحدّث عن الشعراء الشبّان الذي يكتبون نصوصا رائعة. أعتقد أنّهم مطالبون بالخروج أكثر إلى الضوء، وبالبحث عن وسائط جديدة لتقديم كتاباتهم إلى العالم. قد يفي التطوّر الرقميّ بذلك لو أحسنوا استغلاله».

ربما نجحت قصيدة النثر في تهشيم الأصنام الشكليّة للكتابة وإقامة أشكال جماليّة متجاوزة ومفتوحة. تلك القصيدة التي يرى وليد تليلي أنها تراهن على أن يقرأها ويفهمها ويحبّها الجميع، من دون أن يشار إليها على أنّها قصيدة نثر أو قصيدة شاعر شابّ.

ويختم قائلاً: «ثمّة ديناميّة حقيقيّة يشهدها الشعر التونسيّ في السنين الأخيرة، يقودها جيل مميز من الشعراء الباحثين عن شعريّة مغايرة ونصوص متفرّدة. كلّ ما علينا الآن هو التمتّع بالإثارة وانتظار ما ستؤول إليه الأمور. أنا متفائل جدّاً بمستقبل الشعر في تونس وفي العالم، هذا الموت، ورغم التوحّش الذي بات يعيش معنا الآن مثل حيوان أليف، بل إنّني على يقين من أنّ الشّعر هو الذي سينقذ العالم».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى