اليمن… جرس الإنذار الأخير
د. سلوى خليل الأمين ـ واشنطن
عاصفة من الحزم وأيّ حزم، هو قرار الحرب على اليمن، هذا القرار الحازم المشنف آذان الشعوب العربية بعد سبعة وستين عاماً من نكبة فلسطين، بات اليوم القرار الحدث والإنذار المتأخر عن أوان صدوره، حين طريق فلسطين والقدس لا تمرّ بسدّ مأرب، وديار اليمن السعيد، ومملكة سبأ، وجنة عدن، والسفوح الخضراء، وتلك الحضارات التي فعلت فعلها في التاريخ القديم، لأنّ مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسه السعودية، حاد عن الهدف القضية، وقرّر الحرب على اليمن، وضرب شعبه الآمن من حوثيين وشافعيين وصوفيين، والغاية تأديب كلّ وعدم رفع صوتهم عاليا بالمجابهة المحقة والمطالب العادلة، التي تحرّر هذا الشعب اليمني المغلوب على أمره، من رئاسات أكل الدهر عليها وشرب، وفسدت وأفسدت، ولم تمدّ الخير على بطون جاعت وأجساد هزلت، حيث لتاريخه لم يعرف اليمني سوى شظف العيش وقلة الزاد. لهذا كان تحرّك اليمنيين المحق، الذي دفعهم إلى توجيه الإنذار الأخير لأولي الأمر بالتنحّي عن السلطة، لتعميم العدالة الاجتماعية، وكان تحرّكهم منذ البدء سلمياً لم يزهق نقطة دماء، بالرغم من الجوع الكافر، والأمراض العصية على الشفاء في وطن أهلوه أصحاب كرامات وعزة نفس وشموخ عربي أصيل، لهذا ارتضوا السلام ملجأ، والأخوة مطلباً، في الوقت الذي صمّت فيه الآذان عن تلبية ما يطمحون إليه من رخاء وإنماء وتطوّر، أرادوه لوطنهم الذي كان في ما مضى سيد حضارة ومجد وسؤدد بين الأوطان.
هذا الوطن الذي رذله مجلس التعاون الخليجي برفض انضمامه إليه، لأنه البلد الفقير المتعب، الذي يجب أن يبقى تحت السيطرة، تماشياً مع السياسة الخليجية المتعالية والمتغطرسة، التي تنظر من عل إلى باقي الدول العربية، التي لا تملك الثراء الناتج عن تفجّر ينابيع النفط والغاز، التي جعلت دول هذا الخليج العربي مبتلياً بحكام يبدّدون ثروات شعوبهم بأمر من الدواوين الأميركية والصهيونية على حدّ سواء، بل جعلوها وسيلة الضغط على الشعوب العربية المستضعفة، وعلى قوى الصمود والتصدّي، وعلى كلّ من يتلفّظ بمحاربة «إسرائيل»، وبدعم القضية الفلسطينية وعودة أبناء شعبنا الفلسطيني إلى بيوتهم وأرضهم، التي جعلت الرئيس الأميركي باراك أوباما مؤخراً يدلي بتصريحه الموجه إلى نتنياهو رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بالقول: «كفى منذ خمسين عاماً تحتلون أراضي الفلسطينيين، أعيدوهم إلى ديارهم».
هذا التصريح المفعم بالمفاجآت، منها: المباحثات الأميركية الإيرانية التي تسجل تقدماً ملحوظاً، إلى صمود سورية مدة أربع سنوات خلال حرب كونية إرهابية لم يتحقق خلالها ما خطط له وما رسم، وأيضاً عدم تمكن «إسرائيل» من جعل أميركا تشنّ حرباً مباشرة على إيران لإخضاعها، وعلى سورية لامتلاك قرارها بعد إسقاط رئيسها، إضافة إلى ما تفعله العصابات الداعشية في سورية والعراق من أعمال ذبح وقتل وتهجير للمسيحيين والايزيديين والآشوريين، وتدمير للمتاحف التراثية والتاريخية وللأديرة والكنائس وكلّ بيوت العبادة، لهذا كان الاتفاق الخليجي ـ «الإسرائيلي» من أجل تطويع اليمن هو الإنذار الأخير للرئيس باراك أوباما الذي يبدي ليونة حسب زعمهم في التعاطي مع كلّ هذه الأحداث التي تحاصر «إسرائيل» وتشكل خطراً عليها، خصوصاً، حسب زعمهم، امتداد النفوذ الإيراني من سورية إلى لبنان فالعراق والبحرين، وأخيراً لا آخراً اليمن، لهذا كان على «إسرائيل» الإيعاز لحلفائها من حكام الخليج بشنّ الحرب التأديبية على اليمن، ومن خلالها ضرب مشروع الصمود والتصدّي الذي تمثله سورية والمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق ومن خلفهم إيران، بغاية تفكيك هذا المشروع الذي تتبيّن منه الهيمنة الإيرانية حسب زعمهم.
لكن ما يؤسف له أنّ حكام الخليج الذين أقدموا على هذا الفعل الشيطاني المدمّر، لم يقرأوا التاريخ ولم يرجعوا سنوات إلى الوراء، ليلحظوا أنه حين قامت ثورة اليمن على الملكيّين، وأعني الإمام بدر الذي ناشد الحكم السعودي طالباً مساعدته على كبح ثورة الضباط الأحرار في المهد، الذين بدورهم ناشدوا الرئيس جمال عبد الناصر من أجل مساعدتهم على التخلص من الملكية الظالمة وإعلان جمهورية العدالة والتنمية التي سرقت مضامينها في ما بعد، من حكم طال واستمرّ، وفسد وأفسد، وكانت النتيجة ما هو حاصل حالياً في اليمن.
التاريخ اليوم يعيد نفسه، فإذا عدنا إلى هذا الماضي، نجد أنّ المملكة السعودية تعاونت حينها مع «إسرائيل» لضرب ثورة الضباط في اليمن، إذ قامت الطائرات «الإسرائيلية» بالتحليق على طول السواحل السعودية وأقامت جسراً جوياً من أجل تزويد الإمام بدر بالأسلحة المطلوبة لقمع حركة الثورة، وكانت تلك الطائرات تتزوّد بالوقود في طريق العودة من الصومال وجيبوتي، كما أرسلت أميركا الأعتدة الحربية التي حملتها طائراتهم، كي يتم تسليمها للطيارين السعوديين الذين سيقودونها إلى اليمن، لكن ما لم يكن في الحسبان هو فرار أولئك الطيارين السعوديين إلى مصر رفضاً لضرب إخوتهم في اليمن، والقصة ذكرها الكاتب والصحافي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه «سنوات الغليان»، الذي يؤكد أيضاً قيام قائد الطيران الملكي الأردني حينها باللجوء إلى القاهرة، وكشف تفاصيل اشتراك النظام الأردني في العمل ضدّ ثورة اليمن.
ومما وثقه أيضاً الصحافي الكبير هيكل في كتابه عن ثورة اليمن الأولى التي بدأت في 26 أيلول 1962 واستمرّت 7 سنوات ويجب قراءته من جديد، هو أنّ الرئيس جمال عبد الناصر تلقّى رسالة من الرئيس الأميركي جون كنيدي قال له فيها: «إنني شديد القلق من أن يؤدّي الصراع في اليمن إلى تعريض استقرار المنطقة للخطر، وإنني بصورة شخصية وسرية اقترح عليكم تنفيذ الخطة الآيلة إلى فضّ الاشتباك بشكل متبادل على أن يبدأ من قبلكم، وأنا موجه رسالة بهذا المعنى إلى كلّ من ملك السعودية وإلى الملك الأردني وإلى قائد الثورة اليمنية الضابط عبدالله السلال، وبمجرّد صدور البيانات المناسبة تبادر الولايات المتحدة الأميركية إلى إعلان اعترافها بالجمهورية العربية المتحدة». نفذت الخطة، طبعاً، بعد مشاورات ومباحثات وإرسال مندوبين من الأمم المتحدة، أدّى في النهاية إلى تنفيذ الإدارة الأميركية وعدها بالاعتراف بحكم عبدالله السلال رئيساً للجمهورية العربية اليمنية، وفي المساء نفسه اعترفت أوستراليا وكندا، وأثار هذا الموقف غضب كلّ من الرياض وعمان ولندن و«تل أبيب»، لكن لم يلق الاعتراض آذاناً صاغية وصوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 73 صوتاً لصالح النظام الجمهوري في اليمن، وتمّ طرد مندوب العهد اليمني البائد.
هذا التاريخ يطلّ علينا بكلّ فصوله، فباب المندب هو مربض الحدث، و«إسرائيل» تخاف على قواعدها العسكرية في أريتريا، وحكام الخليج خائفون من سيطرة إيران على منافذ البحار المحيطة بالمنطقة وصولاً إلى ساحل المتوسط، لكن ما يجري على الأرض اليمنية سيخضعهم إلى الإنذار الأميركي الأخير القاضي بضرورة الحلّ السلمي في سورية وصولاً إلى تهدئة المنطقة، فالقادم من الأيام سيحمل ربما تطورات تذكرنا بما سلف… خصوصاً ونحن نسمع الرئيس بشار الأسد يصرّح إلى إحدى وكالات الإعلام الأميركية CBS بعدم رفض الحوار السوري مع الإدارة الأميركية… معطوف عليها تراجع أميركا عن تصريحاتها السابقة بشأن إسقاط الرئيس الأسد وبداية تمرير الحلّ السلمي في سورية الذي لن يصحّ إلا بوجود الأسد، أضف إلى ذلك أنّ أميركا أصبحت على قناعة تامة بأنه لا يمكن القضاء على الإرهاب الذي يقلقها كما يقلق أوروبا إلا بتضافر جهود سورية والعراق وإيران، بعد أن أثبت حكام الخليج حلفاء أميركا الدائمين فشل سياساتهم التي ولّدت «القاعدة» و«داعش» ومثيلاتهما.