مناظرات حول الدين والعلم بلغة العقل والتسامح
نظام مارديني
في السجال والصراع الدائرين بين الإسلاميين والعلمانيين، ثمة ما يبدو منطقة ضبابية تتعلق بالدين، وهي سبب سوء فهم أساسي، فالمشكلة الجوهرية ليست مع الدين. المعركة ضد الدين خاسرة منذ البداية. والمشكلة ليست مع فكر وسياسة وثقافة لا دينية في مجابهة فكر وسياسة وثقافة إيمانية أو دينية، إذ تبقى تجربة اللا يقين الديني، أو الانعتاق من الدين، تجربة نخبوية على الدوام، ولا يمكن أن تغدو ترياقاً شعبياً.
الصراعات الدينية التي تدور اليوم تبدو في جوهرها صراعات لعدم قبول المختلف، وتمزيق عرى التفاعل المشترك معه، ما يشير إلى أن بارانويا الاختلاف، أو الارتياب من المختلف، ستستمر في إفراز هورموناتها السامة في أرواحنا وعقولنا، وستبحث الجماعات داخل هوياتها الذاتية عن المختلفين لتصفيتهم وطردهم، ثم يبحث المتشابهون لاحقاً عن مختلف آخر وهكذا. فالجدال حين يكون موضوعياً يفضي دوماً إلى دخول عوالم الحقيقة وفضاءاتها، ودخول فضاءات الحقيقة يعني ولوج رحاب الفلسفة، فالفلسفة هي أصلاً البحث عن الحقيقة.
هذه الرؤية هي مدخلنا إلى كتاب «المناظرة الدينية بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون» فالهدف الذي توخاه الباحث ميشال جحا بنشره المناظرة التي دارت قبل أكثر من قرن من الزمن كانت المناظرة الأولى التي تنتمي إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وكان بطلاها الإمام أبا حامد الغزالي والفيلسوف إبن رشد ، إعادة الاعتبار إلى لغة العقل في الحوار الذي يدور عادة بين مختلفين، أي السلطة المدنية الـ«مقرونة بالسلطة الدينية بحكم الشرع لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معاً»، في مقابل الدعوة إلى «الفصل بين الدين والدنيا، لأن الجمع بين السلطتين يؤدي إلى ضعف الأمة». وهذا الحوار بين الإمام والمفكر كان «مثالاً ضرورياً لنا اليوم في الرقي الفكري والتسامح الديني» بحسب قول جحا في مقدمة الكتاب الذي صدر في 260 صفحة قطعاً وسطاً في منشورات دار «بيسان للنشر والتوزيع».
يشير جحا في بداية مقدمته ص 5 إلى أن المناظرة جرت في جو من الحوار الحر تناول الإسلام والمسيحية «بينما بات تناول مثل هذا الموضوع اليوم «تابو»، أي من المحرمات والمحظورات»، ويرى في ختام المقدمة ص 8 «إن مشكلة العلاقة بين العلم والدين أو بين العقل والإيمان، كانت وستبقى أُسّ المشاكل التي تواجه الفلسفة الإسلامية، ونحن نعاني منها اليوم وسنظل، بينما استطاع الفكر الغربي أن يتخطاها ويتجاوزها»، متسائلاً: «هل سنجد نحن حلاً لها؟».
حملت فصول الكتاب العناوين الآتية: «مقدمة الدكتور ميشال جحا، الشيخ محمد عبده 1849 ـ 1905 مفتي الديار المصرية، وداع، فرح أنطون 1874 ـ 1924، المناظرة بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده، 1 ـ رد الأستاذ الأول، جواب الجامعة الأول، 2 ـ رد الأستاذ الثاني، تمهيد للجامعة، جواب الجامعة الثاني، 3 ـ رد الأستاذ الثالث والرابع والخامس، جواب الجامعة على ما تقدم، ردّ الأستاذ الأخير، جواب الجامعة الأخير، خاتمة الأجوبة».
قصة المناظرة بدأت عندما كتب فرح أنطون عن فلسفة ابن رشد واضطهاده، وعن الموازنة بين إرهاب المسيحية وإرهاب الإسلام للمفكرين والمبدعين وراح ينشره في مجلة الجامعة واستمرت المناظرة بينه وبين الشيخ محمد عبده على صفحات المنار والجامعة من دون أن يطالب الإمام وكان مفتي الجمهورية في ذلك الوقت بمصادرة رأي فرح بل قارعه الحجة بالحجة والمقال بالدراسة المطولة، في حوار ينطق باحترام الشيخ للمثقف العلماني الذي يبشر بالعلم ويدعو إلى إنسانية جديدة واحترام المفكر لرجل الدين الذي يفتي بعلم ويجادل بالتي هي أحسن ولا يفرق في أداب الحوار بين مسلم وغير مسلم. ونشر فرح الحوار كاملاً في كتابه ابن رشد وفلسفته واحتلّ ثلثي الكتاب. وأهدى فرح أنطون كتابه إلى عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية، مؤكداً في الإهداء أنه يعرف أن الكثير من إخوته المسلمين والمسيحيين لا يوافقون على ما جاء فيه، لكنه لا يقول هنا بحتمية الصراع بين العلم والدين إنما يحترم من يقول إن الاختلاف في الرأي من طبيعة البشر، وإن احترام هذا الاختلاف هو بداية التقدم الذي لا يتحقق إلا عن طريق احترام حرية الفكر.
لم يشأ فرح أنطون بكتابه الوصول في فكره إلى معارضة العلم والعلماء للدين، ولكن في الكتاب فكرتان هما الكشف عن أخطار الاضطهاد الذي يعوق حرية الفكر من خلال دراسة ابن رشد والكشف عن جوانببها التنويرية، والكشف عن أضرار مزج الدين بالسياسة وإقرار مبدأ فصل الدين عن سياسة الدولة المدنية الحديثة.
في إطار هذين الهدفين كتب فرح عن الاضطهاد، وردّ عليه الإمام تفصيلاً. لكن فرح عاد فأوضح الكثير من أفكاره ففيها العلاقة بين العلم والدين، مستبدلاً محاولة ابن رشد القديمة في الوصل بين الحكمة والشريعة محاولته الحديثة في الفصل بين العلم والدين، على أساس أن العلم يجب أن يوضع في دائرة العقل لأن قواعده مبنية على التجربة. أما الدين فإنه في القلب، وقواعده مبنية على التسليم «وهنا يحاول فرح أن يفصل وليس أن يثبت تعارضاً أو محاولة أحد المجالين القضاء على الآخر».
ونشر الإمام تعقيباته وردوده في ستة مقالات متتالية من «المنار»، وتوقف الإمام تفصيلاً عن علاقة الإسلام بالعلم تحديداً، موضحاً أنه لا يقف موقفاً عدائياًٍ منه لأنه يحث عليه ولا يضطهد رجاله أو يحول بينهم وبين التقدم أو يحجر عليهم. ويؤكد الإمام ما طرحه طه حسين من حيث أن العلم والدين لن ينفي أحدهما الآخر إنما لكل منهما مجاله. وعن الضعف في كل منهما يقول إن سببه الجمود، فهو أساس ضعف المسلمين اليوم وأصل اضطهاد العلماء قديماً وحديثاً، وسبب الجمود هو الساسة والساسة فـ«السياسة تخاف خروج فكر واحد من حبس التقليد فينتشر عدواه فينتبه غافل آخر ويتبعه ثالث ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين إلى آخر ما يكون من حرية الفكر». هذه السياسة هي سياسة الظلمة وأهل الأثرة، روّجت ما أدخل على الدين ما لا يعرفه وسلبت المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات.
الاختلاف بين البشر على مستوى الأفكار والتصوّرات ليس حالة سلبية، بل هو جزء من الناموس الكوني العام.
إن الاستقطاب الحاد الذي ينتجه الآن الصراع ذو الصبغة الطائفية في المنطقة يشكل ضغطاً كبيراً على المثقفين المتنورين، وقد يدفع بعض المثقفين الضجرين والمنزعجين من الممارسات السائدة في الحاضنة الاجتماعية لطائفتهم إلى طلب «لجوء فكري» لدى الطائفة الأخرى، تاركين عدّتهم النقدية العقلانية جانباً، ومتبنّين المسلّمات والكليشيهات الجاهزة لدى غلاة الجهة الأخرى.