مختصر مفيد فيلمان دفعة واحدة
التسارع في أحداث اليمن لن يسمح للذين سيقارنون المشهد اليمني بالمشهد السوري. ملاحقة عناوين ومصادر الشبه، ذلك أنّ ما استهلك أربع سنوات في سورية قد يفرض حضوره في أسابيع أو أشهر يمنية، لأن اللحظة التاريخية لسياق كل منهما، يتبادل بين الدور التحضيري للأزمة في سورية لرسم خرائط المنطقة الجديدة، أي الافتتاحية، ودور الاختتام الذي يراد للأزمة اليمنية أداءه. وهذا يعني أنّ السقف المفتوح زمنياً لإنضاج عناصر الرهانات في الأزمة السورية كان له سقف بعيد محدد بنهاية عام 2014، يجري قبل حلوله وضع كل الفرضيات موضع التطبيق أملاً بتغيير المعادلات، بينما تبدأ الحسابات للأزمة اليمنية مع استنفاد المشهد السوري وظيفته، بالفشل، والدخول برسم الخرائط، وتولّي الملف اليمني دور ترسيم الأحجام النهائية للمشاركين في الحرب السورية، خصوصاً حجم السعودية.
التمعّن في المشهدين سيكشف أنّ راسم السيناريوات واحد، وراسم الديكورات واحد، والمُخرج واحد، والمشكلة أن ليس لديه إلا الأبطال أنفسهم، الذين أنتج معهم فيلمه الأول ويستخدمهم في الفيلم الثاني، مع قليل من التعديلات، التي يحتاجها تغيير أماكن التصوير.
لم يُوفّق صنّاع المشهد اليمني، وهم يتّخذون له عنواناً مغايراً عن المشهد السوري، بأن يغيّروا ما يكفي لتصديق التغيير. فعنوان حرب سعودية سمّوها «عاصفة الحزم»، واستخدام الطيران الحربي والناطق العسكري بلسان «غزوة سلمان»، ودخول التحالف الإقليمي ـ العربي واجهة الأحداث، عناصر لا تكفي لتمرير الخدعة البصرية على المشاهد. فاسم الفيلم ومشاهده التمهيدية لا تخفي حقيقة السيناريو والأبطال، فعلى رغم السعي إلى قلب المعادلة وعكسها من فوق إلى تحت بين حالة سورية وحالة اليمن، بقي التشابه والتكرار هو الأساس، فعنوان دعم شرعية نظام في وجه محاولة قلبه، بدلاً من دعم ثوار لتغيير نظام حاكم، وحشد أسراب الطائرات، وبيانات الناطق العسكري، لا يغيّران إلا ما يعادلا ماكياج الممثلين، وملابسهم وأسماءهم، بما يناسب تغيير أماكن التصوير والسيناريو.
كاتب السيناريو واحد، لكن التغيير في السيناريو واضح أنه ركيك يفضح استناد الكاتب إلى السيناريو السابق وتعديله بدلاً من كتابة سيناريو جديد. إما بسبب إفلاس المنتج الذي يريد استخدام الممثلين أنفسهم بأدوار جديدة، وتركيب سيناريو متمّم، نصفه أو أكثر معاد، بالأسماء والأماكن الجديدة، أو لأن الكاتب كسول وغشّاش ومخادع، يقبض ثمن أتعاب سيناريو لم يضع فيه جهداً يناسب السعر المتفق عليه، لأنه يعرف أنّ المموّل جاهل لا يقرأ، ولن يعرف التمييز بين السيناريوين، طالما تغيّرت المشاهد، والبدايات، وحشدت الطائرات، والقمم الملكية والرئاسية، وطالما المموّل تعرّض للرشوة والضحك عليه، فهو يحب الظهور وسيظهر في لقطات عدّة في الفيلم الجديد، وهو يستعرض حرّاسه، ويتكلم في القمة، فسيدفع من دون أن يناقش.
الفيلم الأول اسمه: إسقاط الأسد، والثاني: غزوة سلمان، والفشل نتيجة الفيلمين، نتيجة مشتركة موحّدة، لكنّ المشترَكات هي في الأبعد من ذلك بكثير. في الفيلمين، اللاعب الذي يضعه المخرج في الواجهة لتحقيق الهدف من ورائه، هو أقرب لديكور لا حضور له، كومبارس، لا يثق به أحد، أقرب إلى نزيل فندق، يستخدم الآخرون اسمه بلا معرفته، وعلى رغم تصويره في الفيلم بالبطل الممثل إرادة شعبه، يعجز المخرج عن تقديم حشود بشرية أو عسكرية تُظهر هذا التأييد، وتُبرّر هذا الادّعاء. فهذه هي حال «الائتلاف السوري المعارض» ومن قبله المجلس المقيم في اسطنبول، كرمزين لـ«المعارضة السورية»، التي يفترض أنها تقود «ثورة شعبها على النظام الظالم والاستبدادي». وهذه هي حال الرئيس اليمني المستقيل منصور عبد ربه هادي الذي يعاني ـ وفقاً للفيلم الجديد ـ أمراض البطل الأول في الفيلم القديم ذاتها. يكاد المشاهد يتخيّل برهان غليون أو جورج صبرا أو أحمد الخطيب أو أيٍّ من قادة «الائتلاف» وهو يشاهد منصور هادي ووزير خارجيته، كليهما، شرعية هادي و«ثورية الائتلاف» بلا ناس، مع فارق أنّ أيام السخاء مع مجلس اسطنبول و«الائتلاف» باستئجار فنادق كاملة لحسابهما، وحياة النجوم الخمس، قد حلّ مكانها البخل والتقشف في الفيلم الجديد، فيسجن منصور هادي ووزير خارجيته في الرياض، في أحد قصور الضيافة، بما يشبه الإقامة الجبرية، بعدما توسّل هادي ووزير خارجيته البقاء في فنادق شرم الشيخ، وخدمة «خمس نجوم»، والانفتاح الاجتماعي، وحرّية التنقل والتسلية والترفيه، بداعي فرص التواصل الدبلوماسي والإعلامي، فرُفض الطلب لعدم وجود موازنة كافية، وقيل لهما: إنها الضرورات الإخراجية.
البطل الخفيّ يظهر هذه المرة في الفيلم الجديد على طريقة بصمة آلفرِد هتشكوك في أفلامه، بمنح بصمة في مشهد هامشيّ، حيث يلقي الملك في القمة العربية كلمة عن «الأمن القوميّ العربيّ» على بعد أمتار من الاحتلال «الإسرائيلي»، والقصد بالخطر: متظاهرون يهتفون الموت لأميركا، والموت لـ«إسرائيل» في اليمن، وتصير الكلمة جزءاً من الفيلم، كما تحدّث شقيقه الملك الراحل عن الشعب السوري وحقه بالديمقراطية، ويضحك المشاهد من سخافة الكلام في الفيلمين. لكن يسهل على المشاهد أن يتابع دور البطل الخفيّ من خلال تتبّع حجم التكاليف في الثورة والحرب، الثورة البِلا أبطال في سورية، والحرب على الأبطال في اليمن، فكيس المال في «غزوة سلمان» وفي «إسقاط الأسد» هو نفسه، من عند خادم الحرمين، الذي كانت تسميته أيام الجدّين «أبي لهب» و«أبي جهل» بمال السدانة والسقاية، كما سظهر من مشهد مصر وعظمتها الذليلة في الفيلمين، أنّ المال جاء من الكيس.
في كلّ مرة يُراد قتال الثوار الحقيقيين في الفيلم الثاني، وهم الحوثيون، لا يظهر مناصرو منصور هادي، كما لا يظهر مناصرو «الائتلاف» في الفيلم الأول. بل يظهر في الفيلمين مقاتلو «القاعدة»، في حمص كما في عدن، وفي ريف دمشق كما في ريف حلب، وريف لحّج والضالع، ويتمركزون في حضرموت، كما تمركزوا في الرقة، وحيث يجب القول أن ثمة مواقع تسقط من يد الجيش السوري أو الحوثيين، لا يمكن الاستعانة إلا بـ«القاعدة». وحيث تجب معاقبة الناس على تأييدهم الرئيس بشار الأسد في سورية أو السيد عبد الملك الحوثي في اليمن، يفخّخ المخرج رجلاً من رجال «القاعدة» ويرسله إلى سوق شعبية، ليقتل العشرات ويجرح المئات. وحيث يجب أن يقدّم الملك الراحل أو الحالي، أوراق اعتماده لسيد البيت الأبيض بما يرضيه ويقول ما زلنا قادرين على فعل المزيد فلا توقّع مع إيران، يقوم مقاتلو «القاعدة» بالتقدّم نحو مواقع جديدة في سورية كما في اليمن.
«إسرائيل» بطل خفيّ يظهر في الفيلمين، سواء مباشرة أو بصورة غير مباشرة، عبر استحضار حزب الله، عدوّاً يجب قتله في الفيلمين. أما مباشرة، فتبدو التصريحات «الإسرائيلية» أيضاً في الفيلمين، معادة ومكرّرة، «إسرائيل تبدي خشيتها من تفوق الجيش السوري، أو المقاتلين الحوثيين»، فقط تغيير كلمتين في نهاية السطر، والباقي كما هو، أو: «إسرائيل مهتمة بإبعاد مواقع الصواريخ عن مدى كافٍ لأمنها»، في الحالين والبلدين، وحزب الله في الحالين والفيلمين، تُجرى محاولات لحجب صورته، ونجاحاته، وحساباته، فقط ليظهر كقوة جبارة بلا قصد، لكن تقديمه يتم بطريقة تقول إنها تقاتل في كل مكان وتحسم الحرب حيث تدخل، فكي لا يعترف المخرج للجيش السوري والحوثيين بأيّ قيمة وقدرة قتالية، يقول: تدخّل حزب الله فتغيّر المشهد.
المخرج في الخلاصة يبدو للناقد الخبير، مخرجاً فاشلاً ومفلساً حتى بالقدرة على التخيّل والإبداع. وربما نصّاباً أيضاً، أو أنه كسول، أو أنه فاشل وكسول ونصّاب معاً.
فيلم جدير بالمشاهدة على رغم الوقت الطويل، على رغم الدم والدموع والمرارات، ففي الفيلم الناس يموتون فعلاً، والخراب يقع فعلاً، والذين يموتون لا يعودون إلى الحياة بعد نهاية التصوير، لكن ثمة من سيضحك في نهاية الفيلمين معاً، ويصير اسم الفيلم المدمج منهما: «كِش ملك».
مَن يضحك أخيراً سيضحك كثيراً.