حتى تبقى القاهرة قاطرة لا مقطورة

خضر سعاده خرّوبي

تنطوي الحرب الدائرة في اليمن على مؤشرات مهمة لا تخلو من الخطورة، وحول الدوافع كلام كثير، ونقطة التركيز الأهم هي تلك المتعلقة بتطورات التفاوض مع إيران على خلفية ملفها النووي. يساق هنا، دعم النظام السعودي المباشر للحلّ العسكري في سورية لتوجيه رسائل إلى من يعنيهم الأمر، إضافة إلى «مزاجيته السوقية» ومضيه في خفض أسعار النفط للتسبب بهزة اقتصادية لإيران وللاعبين دوليين آخرين، لا تنظر الرياض إليهم بعين الرضى، وصولاً إلى ما يجري حالياً ضدّ من يعتبرهم السعوديون حلفاء إيران «الهوويين» وليس السياسيين، والتدخل العسكري في اليمن في إطار «قوة عربية مشتركة» يمكن اعتبارها نواة أولية لتلك التي أقرّ مبدأ إنشائها في القمة العربية الأخيرة في مدينة شرم الشيخ المصرية، وفقاً لمحللين، كأنه يراد من خلاله نزع أو أقله التشكيك بعروبة من لا يقفون في صفّ السياسة السعودية من اليمنيين حالياً، ومن العرب الآخرين في المستقبل حتى يكونوا هدفاً لـ «القوة العربية» المنشودة.

قبل أيام قليلة، وفي كلمة أمام «مجلس الشورى» في الرياض، كرّر وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل مقاربة بلاده حول العلاقة مع إيران بقوله إنّ الملف النووي الإيراني يظلّ أحد الهواجس الأمنية الشديدة الخطورة على أمن المنطقة وسلامتها. وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال عشرات التقارير والتصريحات التي تتحدث عن وقوف «إسرائيل» ودول خليجية عدة في خندق واحد حيال موضوع «الاتفاق النووي» بين طهران و«المجتمع الدولي»، وهو ما أقرّ به نتنياهو المتجه نحو ولاية رابعة في رئاسة حكومة «إسرائيل» إبان عدوان «الجرف الصلب»، وما تكشفه مشاريع «المناطق العازلة» على الأراضي السورية المدعومة من دول عربية و«إسرائيل» التي بصمت طائراتها على مسرح الأزمة هناك في غير مناسبة.

«النووي» الذي، مع الأسف، «لمّ شمل» «الإسرائيلي» على الخليجي ومن يدور في فلكه عربياً، كالنظام الأردني المتهم بأنه يتجه نحو «مأسسة» حالة تطبيع عربية ـ «إسرائيلية» من بوابة الاقتصاد، في حين يندرج مشروع قناة البحرين الميت والأحمر بين الأردن و«إسرائيل» في خانة «تمتين مكانة الدولة العبرية» في المنطقة وتحويلها إلى «دولة طبيعية»، من قبل نظام رسمي عربي لطالما راعى أمنها في أولوياته، أكثر من مراعاة أمنيات شعوبه التي لم تطو اتفاقات «السلام الهشّ» صفحة عدائها مع دولة الاحتلال «الإسرائيلي». فما ينظر إليه على أنه «تمرد مذهبي»، «لمّ» السعودي على المغربي والمصري على القطري والتركي على «القاعدة المذهبية» طبعاً. فاحتراق ورقة «داعش»، وملاحقة «جبهة النصرة» من قبل التحالف الدولي، قلصا من الهامش المتاح أمام السعوديين للحركة في اليمن المجاور لهم ما دفعهم إلى معاودة التفكير في «طبعة جديدة» للعلاقة مع «التنظيمات الإخوانية» في المنطقة، وخصوصاً على الساحة اليمنية غير المستثناة من موجة التآكل الحاصل في نفوذ السعودية مع تضعضع مبادرتها «الخليجية» التي يشكل الرئيس هادي المتنازع حول شرعيته، آخر حصونها السياسية.

هذا ما يفسر «حزم» المملكة العاجل المسبق بإعداد عسكري وتنسيق سياسي غير مسبوق، كما يُروّج من داخل الرياض، بدليل تقارب التوقيتات بين أحداث كبرى مختلفة في مصر والإقليم، كمؤتمر «دعم الاقتصاد المصري» في شرم الشيخ، والقمة العربية في المدينة ذاتها، و«عاصفة الحزم» التي هبت على اليمن، وانتهاء الموعد الزمني المحدّد في نهاية آذار المنصرم للتوصل إلى «صيغة أولية» للاتفاق حول الملف النووي لطهران مع المجموعة الدولية «5+1»، بالإضافة إلى تطورات خليجية وتركية على أكثر من صعيد، وظهور نتائج الانتخابات «الإسرائيلية» التي عزّزت مكانة نتنياهو، الشريك في ما هو أكثر من وجهات نظر متقاربة مع أنظمة عربية من «خطأ تاريخي» ترتكبه إدارة أوباما في مقاربة الموقف من إيران.

بدا مفاجئاً لكثيرين، «تليين اللهجة» الأميركية تجاه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعد تبلغه عبر اتصال هاتفي من نظيره الأميركي أوباما عزم واشنطن إنهاء الحظر الجزئي المفروض على المساعدات العسكرية للقاهرة منذ عزل الرئيس مرسي، والكلام الأميركي عن «تحفيز دور مصر» و«إعادة التزام الإطار الاستراتيجي» للعلاقة المصرية ـ الأميركية في ضوء التحديات الإقليمية و«الأهداف المشتركة في الحرب على الإرهاب» في أعقاب زيارة وزير الخارجية الأميركي ومسؤولين أميركيين آخرين لمصر خلال الشهرين الماضيين، فضلاً عن استضافة واشنطن لرئيس أركان الجيش المصري وتأكيد مصادر مصرية حدوث «اختراق» في هذا المجال، مع اتجاه لربط إعادة المساعدات الأميركية بما يحدث في اليمن، وهو ما يحظى بتأييد الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

إنّ ما يستوقف بعض المحللين، وفي ظلّ وضع يعكس نفسه عربياً في توجهات إيديولوجية وسياسية مغايرة لمرحلة «المدّ الثوري العروبي» في الستينات الذي جابهته السعودية، هو تصاعد بخار «الحماس القومي» إلى رأس الرياض على هذا النحو «الحازم»، يضاف إلى ما يلحظه هؤلاء من اختصار لمفهوم «الأمن القومي العربي» بأمن دولة عربية أو إقليم جغرافي معين من العالم العربي.

في حديثه عن الدور الذي لعبه سلاح المال لدى النظام السعودي في صناعة القرار العربي، يقول الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل في كتاب له بعنوان «حرب الخليج: أوهام القوة والنصر»: «نتيجة لهذا الوضع، انتقل الثقل في مركز صناعة القرار، في القضايا القومية، من المركز إلى الأطراف، حيث ينتج النفط».

ينتظر من مصر، وفي وقت تحاول جهات دولية وإقليمية عدة إثارة الانقسامات الطائفية في المجتمعات العربية وفرزها إلى هويات إثنية ومذهبية فرعية، أن تضطلع بدور شبيه بدور بريطانيا كـ «حامية للتوازن» في إقليمها الأوروبي بعد مؤتمر «وستفاليا» الذي أنهى الحروب الدينية فيه، حيث كانت كلما استشعرت خللاً في التوازنات الأوروبية لمصلحة حلف أو بلد أوروبي ما، كانت تقف في الحلف المقابل له للحفاظ على نظام توازن القوى في «القارة العجوز» حينذاك. هكذا دور يجنب مصر الانزلاق في لعبة المحاور الإقليمية والدولية الجامدة، وهو ما تحتاجه للتركيز على عملية البناء والتحديث الداخليين، ولكي تبقى قاطرة «النظام الإقليمي العربي» وليس مقطورته.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى