تحرير الأسرى بأهمية تحرير الأرض…
د. عصام نعمان
بحضور أكثر من 350 شخصية عربية وأجنبية، وبمشاركة أسرى محررين وقادة سياسيين ونقابيين ومناصرين عالميين لقضايا الحرية والتحرير والعدالة، عقد في بيروت منتصفَ الأسبوع الماضي «المنتدى العربي الدولي لهيئات نصرة الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني».
نظّم المنتدى ورشَ عملٍ قانونية وسياسية وإعلامية واجتماعية وتواصلية ناقشت أفكاراً ومبادرات ومشروعات عملية في حقول اختصاصاتها، كما قام عدد من المشاركين بإحياء «يوم قانا» في جنوب لبنان حيث ارتكبت «إسرائيل» واحدة من أفظع مجازرها الوحشية بقصفها معسكراً لقوات الأمم المتحدة «يونيفيل» كان لجأ إليه، هرباً من أتون الحرب، الألوف من نساء وأطفال وشيوخ القرى المجاورة.
قيل في المنتدى، كالعادة، كلام كثير. لكن استوقفتني، أكثر ما يكون، كلمةُ كلٍ من الأسيرين المحررين الشيخ عبد الكريم عبيد والسيد موسى دودين . فقد ركّز الأسيران المحرران اللبناني والفلسطيني في كلمتيهما على ما عاناه ويعانيه الأسرى، رجالاً ونساءً، في سجون العدو الصهيوني، كما ركّزا على مهمة جليلة هي تحرير الأسرى وضرورة إعطائها أولوية مطلقة في الجهاد الموصول الذي تشنه قوى المقاومة العربية والإسلامية في سبيل تحرير فلسطين.
عبيد ودونين أوردا عيّنات وأمثلة عما يعانيه الأسرى في سجون العدو. لكن ما لفتني حقاً قول أحدهما إن قائد «الشاباك» الأمن العام آفي ديختر كان يدخل على زنازين الأسرى، وبعضهم مضرب عن الطعام، ويسألهم عن مدة عقوبتهم حتى إذا أجابوا إنها السجن المؤبد، ردّ قائلاً: «حكومتنا ومحاكمنا تترفق بكم. كان يجب الحكم عليكم بالإعدام». وقد نفّذ هذا المسؤول الإرهابي نياته الوحشية مراراً بأن أوعز إلى رجاله بإطلاق النار على بعض الأسرى وقتلهم في غرفهم الانفرادية.
عيّنة أخرى من فظاعات العدو: الحوامل من النساء الأسيرات كن يُتركن في غرفهن الانفرادية مقيدات الأرجل أثناء عملية الوضع…
ذكّرتني هذه الفظاعات بقولةٍ لمؤسس علم الاجتماع ابن خلدون حول المظلوم والمضطَهَد الذي يقلّد ظالمه ومضطهِدَه بعد انعتاقه. لكن، مضطهد اليهود كان هتلر وزمرته من النازيين الألمان، واني أفهم أن يقوم اليهود بالانتقام من مضطهديهم، ولعلهم فعلوا ذلك حيث واتتهم الفرصة، لكن ما ذنب الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره تحت وطأة الاستعمار البريطاني عندما كان النازيون ينفذون في أوروبا الـ «هولوكوست» بحق يهود أبرياء؟!
الحقيقة العارية تتجاوز في أبعادها قولة ابن خلدون. ذلك أن مجازر دير ياسين وقبية وغيرهما التي ارتكبها اليهود الصهاينة عشية انسحاب القوات البريطانية من فلسطين منتصفَ شهر أيار/مايو 1948 إن تدل على شيء فعلى أن القتل والإجرام وسفك الدماء في صلب تربية النازيين الصهاينة، وأن هذه التربية الوحشية والعنصرية من شأنها قتل كل قيمة وشعور إنساني لدى المحارب الصهيوني الأمر الذي يدفعه إلى سحق كل ما تصوره له قيادته بأنه عدو.
تبقى العبرة التي استخلصها الأسيران المحرران عبيد ودودين من تجربتهما المرّة وهي أن المهمة ذات الأولوية المطلقة لدى فصائل المقاومة يجب أن تكون تحرير الأسرى. أجل، إنها المهمة الجليلة الأكثر مشروعية وإلحاحاً. فالحرية هي أغلى قيم الإنسان. إنها تساوي الحياة نفسها، فلا يجوز أن تتقدم عليها أي قيمة أو مهمة أخرى. صحيح أن تحرير الأرض مهمة جليلة وعظيمة، لكن الأرض ليست أغلى من الإنسان. ثم إن تحرير الأرض هو من أجل الإنسان، من أجل ناسها الأحرار. وهل يمكن تحرير الأرض أصلاً إلاّ بعقول وقلوب وسواعد رجال ونساء أحرار؟
أجل، تحرير الأسرى يجب أن يتقدّم على غيره من المطالب والمهام. إنه عمل جهادي بامتياز، يستمد أهميته وإلحاحه ومشروعيته من قلب قضية المقاومة. بل هو معيار لجدّية المقاومة. ذلك أن المقاومة الجدّية والجادة لا تترك أسراها. وكيف يمكن لمقاتليها الأحرار أن يكونوا جادين في الجهاد والنضال والبذل إذا ما خامرهم شك في أن قيادتهم ستتركهم لمصيرهم؟
الأسرى أعظم ورقة ضغط تملكها المقاومة في وجه عدوها، وأفعل حجة تعبوية في دعوتها ورسالتها.
بإمكان قيادة المقاومة أن تزاوج، أحياناً، بين مطلب تحرير الأسرى ومطلب تحرير الأرض، لكنها لا يجوز البتة أن تقدّم أي مطلب على تحرير الأسرى.
إلى ذلك، يجب أن يمتد مفهوم الحرية والتحرير إلى تحرير الإنسان، كل الإنسان، من قيوده ولا سيما السياسية والاجتماعية منها. فالإنسان المقموع والمقهور والمسكون بالأوهام والأساطير، والفقير والمريض والأمـي والمهّمش غير صالح وبالتالــي غيـر قادر على تحرير الأسرى والأرض والشعب.
من هنا تستبين لنا حقيقة ساطعة وهي أن قضيتنا الأساس هي النهضة. والنهضة يواجهها تحديان: سياسي أمني، واجتماعي اقتصادي. التحدي الأول، السياسي- الأمني، يتمثّل بالعدو الصهيوني وهو تحدٍّ مصيري. لذا تكون لمقاومته أولوية أولى في برنامج عملنا الوطني المتكامل. التحدي الثاني، الاجتماعي- الاقتصادي، يتمثّل بالفقر والمرض والأمية والجهل. لذا تكون لمقاومته أهمية بالغة، وقد تكون أحياناً في مرتبة موازية لأهمية مقاومة العدو الصهيوني. ذلك أن تنمية مواردنا وقدراتنا تصبّ، أو يقتضي أن تصبّ، في الجهاد والجهود المبذولة لتحرير الإنسان والأسرى والأرض والأمة.