هل يسمح مجتمع استخبارات الجيش التركي بهذا المشروع التدخليّ؟!

محمد أحمد الروسان

تعتمد الدولة التركية على نحو كبير وحيوي واستراتيجي وبإدمان مزمن على مصادر الطاقة الخارجية، خاصةً النفط والغاز. وفي المعلومات تستورد أنقرة أكثر من تسعة وسبعين في المئة من حاجاتها من مصادر الطاقة المتنوعة، وتدفع ثمناً لذلك أكثر من خمسة وستين ملياراً من الدولارات الأميركية سنوياً. بعبارة أخرى، ما تدفعه تركيا هو أكثر من ربع فاتورة وارداتها الإجمالية، ويمكن اعتبار ذلك أهم معضلة عميقة ومتفاقمة تواجه تركيا، ولها عقابيلها وامتداداتها في الأمن القومي التركي، وتحت عنوان عريض: أمن الطاقة، ومحاولات الكيان الصهيوني في اللعب بأمن الطاقة التركي كما سنرى لاحقاً.

هذا يشكل في الواقع خاصرة اقتصادية رخوة جداً «أمن الطاقة التركي». ولم يشفع الموقع الاستراتيجي والمحوري لتركيا بحصولها على أمن في الطاقة، وطاقة رخيصة الثمن مستوردة، وحلّت أنقرة بالمركز الثاني بعد الصين في وتيرة ازدياد الطلب على الغاز والكهرباء، فالصين هو الدولة الأكثر عطشاً للطاقة على مستوى العالم، والثانية، أي تركيا، تماثلها في شدّة العطش للطاقة.

تعتمد أنقرة بشكل أساسي على روسيّا في استيراد الغاز وعلى نحو منتظم وبأسعار عادية إلى حد ما، مع استيرادها كميات أخرى من إيران والعراق وأربيل وأذربيجان وقطر والجزائر، وهناك مسارات ضغوط تمارس على النخبة الحاكمة في أنقرة لفتح شراكات مع «إسرائيل» لاستيراد الغاز الطبيعي منها، وعبر إنشاء خط من الأنابيب يمتد من حقول للغاز تقع غرب ميناء حيفا المحتل، وعبر قبرص اليونانية إلى الداخل التركي، ونعتقد أنّ هذه المحاولة «الإسرائيلية» عبر واشنطن تشكل قمّة الخطورة، كونها تدخل طرفاً أساسياً في خطة الأمن القومي التركي عامة وأمن الطاقة Energy security وأمن المجال الحيوي التركي. وللتأثير على المجال الجيوبولتيكي لمجتمع الاستخبارات التركي، إن لجهة الداخل التركي المحتقن أصلاً بفعل الحدث السوري، وإن لجهة الخارج التركي الساخن والمتحفّز أصلاً للهجوم على أنقرة وبفعل الحدث السوري أيضاً.

في المعلومات الحديثة نجد أنّ العاصمة الأميركية واشنطن، تضغط على تركيا للدخول في شراكة حقيقية مع كل من قبرص اليونانية والدولة العبرية، لتشكيل حلف اقتصادي ثلاثي ومواجهة القبضة الفولاذية الروسية على سوق الطاقة في هذه المنطقة تحديداً. وللحد من الطموحات الإيرانية ذات الإمكانات الكبيرة والمتسارعة في النمو، خاصةً بعد جنيف إيران النووي وعقابيله الإيجابية على الدولة الوطنية الإيرانية، والتي لم تقدّم تنازلاً واحداً للغرب والأميركيين منفردين أو مجتمعين، أو حتّى لمجموعة خمسة زائد واحد.

أشارت معلومات استخبارات الطاقة المسرّبة، عن قصد كما نعتقد، إلى أنّه في الشهر ما قبل الماضي، والشهر الماضي، زارت وفود مشتركة من شركات أميركية و«إسرائيلية» تركيا للبحث في التوقيع على عقود «طاقوية» مع أنقرة لغايات إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي «الإسرائيلي» إلى القارة الأوروبية، وعبر قبرص وتركيا تحت سطح البحر بطول يزيد على 500 كيلومتر من حقل «لفيتان» البحري المحتل في فلسطين، والواقع غرب ميناء حيفا على مسافة 135 كيلومتراً، حتى مرفأ جيهان التركي وبسعة 16 مليار متر مكعب، ثم على امتداد الساحل القبرصي وبعمق ألفي متر لاستحالة مروره على الساحل اللبناني والسوري، والأخير هو الممر الأفضل لهذا الأنبوب وبتكلفة أقل ووقت أقل. وتضيف المعلومات أنّ تشغيل هذا الخط سيكون من منصة إنتاج وتخزين وتفريغ عائمة على سطح البحر الأبيض المتوسط، قبل أن يتوجه نحو الشمال الشرقي في اتجاه ساحل قبرص اليونانية كما أسلفنا للتو.

أمام هذا المشروع الاقتصادي «الطاقوي» الخبيث، في اعتقادي، تحديات وعوائق كثيرة وليست محصورة بالأبعاد المالية واللوجستية ووقت التأسيس والبناء والتقنيات الضرورية فحسب، بل التحدي الأمني وما يمكن أن يتعرض له من أخطار وعمليات إرهابية، بفعل الإرهاب المدخل إلى الداخل السوري والمصنّع في لبنان وارتداداته على تركيا و«إسرائيل» ودول الجوار الأخرى، فمن تكلفة مالية تزيد على ثلاثة مليارات من الدولارات، إلى تكلفة الإنتاج المرتفعة، إلى وجود مشاريع أخرى لنقل الغاز من إيران وقطر والسعودية ومصر في إطار منطقة الشرق الأوسط وبجانب سورية ولبنان لاحقاً. بجانب كل هذه التحديات الآنف ذكرها، هناك التحديات السياسية، فانعدام الثقة بين أطراف هذا المشروع الثلاثي، الذي تهدف الولايات المتحدة الأميركية من خلاله إلى تشكيل حلف «نيتوي» اقتصادي في مواجهة سلاح الطاقة الخطير الذي تملكه الفيديرالية الروسية يقف على حدودها الجنوبية مع تركيا.

تحدي الشعور الشعبي: الشعور الشعبوي التركي كاره ومعادٍ بعمق لـ»إسرائيل»، والحكومة التركية الحالية لاذت بصمت أهل القبور، لعلمها أنّ أي تقارب مع «تل أبيب» ليس بورقة شعبوية ناجحة الآن.

التحدي التاريخي: هناك العداء التاريخي بين أنقرة وقبرص اليونانية وزاد عمره الآن على عمر كاتب هذه السطور 41 سنة، إذ يطالب القبارصة اليونانيون من أنقرة الاعتراف بهم وحل مسألة «قبرص التركية»، إذ يُسمح لهذا الخط بالمرور على امتداد الساحل القبرصي وبعمق يزيد على 2000 كيلومتر، وقبرص اليونانية لا تثق كثيراً بـ»تل أبيب»، والأخيرة تعتبر الأولى بمثابة حصان طروادة في مشروع الأنابيب هذا.

قبل التطرق إلى إدراكات مجتمع الاستخبارات التركي لأمن الطاقة وعلاقته مع فكرة الأمن القومي لتركيا، لا بدّ من الدلالة على ملاحظة غاية في الأهمية تتموضع في الآتي: أميركا دعمت الوهابية المسلّحة كقوّة ضاربة، زرعت بدعم سعودي وسطية إسلامية يقودها فتح الله غولن الداعية التركي الغامض والمقيم في بنسلفانيا في أميركا، والذي عمل على فتح عشرين ألف مدرسة تنفق حتّى على إقامة الطلاّب في مواقع مختارة من العالم، وفي مقدمها تركيا وجمهوريات وسط آسيا، وهنا وقع «الإخوان المسلمون» في فخ أميركي محكم، فأردوغان «الإخواني» الطموح لدور تاريخي، وجد تعاوناً ودعماً بلا حدود من الأميركيين والسعوديين والقطريين ومن فتح الله غولن، الذي أقنعه بأنّ مستقبل «الإخوان» لحكم العالم الإسلامي تحت رايته وعلمه، سيكون بإسقاط المظلة البريطانية ومسك المظلة الأميركية، وبلع أردوغان وأوغلو الطعم وبادرا أولاً إلى تصفية الجنرالات في الجيش التركي، والأخير محسوب على المظلة الإنكليزية، وأقنعا «إخوان» مصر بالتعاون مع غولن والأميركان، فاستجاب «إخوان» مصر لهما وقفزوا هم أيضاً بفخ استغلالهم كجسر لتصفية نفوذ رجال مبارك الرئيس المعزول عبر ثورة، من مدنيين وعسكريين وتجديد حكم العسكر بفتح الطريق للضبّاط الشباب الأكثر ولاءً لواشنطن.

تذهب المعلومات إلى أنّ فتح الله غولن استطاع اختراق «إخوان» الأردن عبر إقناع أحد كوادرهم ومنذ سنوات وقبل ما سمّي بـ»الربيع العربي» بالتقارب مع الأميركيين، فنودي للمرة الأولى بالملكية الدستورية، ومبادرة زمزم الأخيرة لا يمكن بحثها بعيداً عن هذا السياق، وبعد إطاحة مرسي عبر ثورة أخرى صحّحت الخطأ الثوري كما يعتقد البعض، انتبه أردوغان وأوغلوا للخطأ الفادح الذي ارتكباه، فسارعا إلى التصالح مع الجيش التركي والسعي لتصفية نفوذ فتح الله غولن.

تذهب معلومة أخرى لا أدري مدى عمق صحتها إلى أنّ أردوغان شعر أيضاً بالكارثة التي تسبّب بها لدعم ما سمّي بالثورة السورية ضد نظام سوري يحمل مظلة بريطانية إلى حد ما، فذهب في اتجاهات أخرى كارثية، لكن بعدما ورّط «إخوان» سورية بالتحالف مع الأميركيين.

بناء عليه، وتأسيساً على السابق ذكره، أحسب أنّ مجتمع الاستخبارات التركي، وخاصة استخبارات الجيش التركي ذي المظلّة الإنكليزية لجهة قياداته وكوادره، يدرك أن «إسرائيل» تدرك بعمق عطش تركيا للطاقة، وتدرك استخبارات الجيش التركي أنّ «تل أبيب» تسعى إلى استغلال نقطة الضعف التركي هذه، عبر رغبتها في شبك مصالحها الاقتصادية بأمن تركيا القومي من خلال أمن الطاقة، للعب في الداخل التركي لمصلحة الأميركي والغربي و«الإسرائيلي» وبعض العربي المرتهن والتابع والأداة.

ما ذكر منذ بدايات هذا التحليل، يشكل مؤشراً بسيطاً جداً وجزءاً من المؤامرة الكونية على الشرق وقلبه سورية بنسقها السياسي الحالي، والأعظم الحرب الكونية في سورية وعلى ديكتاتورية الجغرافيا السورية، هي حرب بالوكالة عن الغرب «أوروبا وأميركا» بأدوات، من البعض العربي المرتهن و«المتبوصل» على ذات اتجاه البوصلة الغربية – الأميركية، إزاء منطقة الشرق الأوسط الساخن والمتفجر، ونتيجة لذلك حدثت المسألة السورية أو الحدث السوري أيّاً تكن التسمية. المهم هناك مأساة درامية سورية بامتياز، بسبب تآمر بعض ذوي القربى مع الآخر الغربي، ذي الرغبة الشبقة المفعمة إلى الطاقة بأنواعها المختلفة، خاصة الغاز، فجميع رادارات الاستراتيجيات الغربية والأميركية ترصد الأخير للرعشة الغازيّة.

للمأساة السورية هذه بُعد اقتصاديّ عميق أيضاً، يتموضع حول الطاقة وتفرّعاتها، خاصة الغاز، وقود الطاقة الرئيس في القرن الحادي والعشرين، ومسارات جغرافية تعرّجات خطوط نقله من الشرق الأوسط إلى أوروبا وأميركا، من حقول إنتاجه في الشرق الأوسط إلى أسواق استهلاكه وتخزينه في الغرب.

بعبارة أخرى، ولأنّ الغاز الطبيعي تحديداً يفاقم لهيب نيران الصراع المجنون على الطاقة في هذا الشرق الأوسط الساخن المتفجر، فإنّ الصراع الأممي يدور حول خطوط الغاز الطبيعي فيه، هل خطوط نقله ستتجه نحو القارة الأوروبية العجوز والعاصمة الأميركية واشنطن، من الشرق إلى الغرب ضمن خط إيران العراق شواطئ البحر الأبيض المتوسط على الساحل السوري والساحل اللبناني ثم من هناك إلى أوروبا وتفرّعاتها؟ أم سيتجه شمالاً من قطر فالسعودية كلاهما منتج للغاز وداعم لجلّ السفلة الإرهابيين في سورية عبر سورية وتركيا، والأخيرة مفترق طرق الطاقة المتميز بين شرق أكثر إنتاجاً للطاقة، وغرب أكثر استهلاكاً وتخزيناً استراتيجياً لها؟!

هذا ويسعى البعض العربي ذو التيه الفكري، على تمذهب مسار خطوط الغاز من إيران إلى العراق إلى سورية ولبنان، ثم إلى أوروبا بوصفه مشروعاً إسلامياً شيعياً، ووصف مشروع مسار خطوطهم بإسلامي سني في اتجاه تركيا في الشمال فأوروبا.

الغرب المخادع زارع الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وراعي هذا الكيان وداعمه الولايات المتحدة الأميركية، وبالتساوق مع البعض العربي المرتهن والخائن، يسعى إلى إحلال مكنونات الصراع الشيعي السني مكان الصراع العربي «الإسرائيلي» الاستراتيجي، خدمةً لمصالحهم ومصالح ربيبتهم «إسرائيل» وصوناً لأمن أبديّ للكيان الصهيوني لقطع نياط قلوبنا كعرب ومسلمين.

الغرب معظمه كاذب مراوغ، يزوّر الحقائق، مخادع بعمق، يبحث عن مصالحه ومصالحه فحسب، حتّى لو امتزجت الدماء بالذهب الأسود والأبيض الغاز الطبيعي ، لذا فإن أصحاب الأنوف الكبيرة والصغيرة على حد سواء يشمّون روائح الدم والغاز الطبيعي من المأساة السورية.

تآمروا على الدولة الوطنية السورية، تحت عنوان الصراع لأجل الحريّة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومبادرات التمكين الديمقراطي وشعارات الشفافية وما إلى ذلك من سلال الكذب والخداع، كلّها ترسيمات وشعارات زائفة ترمي وتهدف إلى التغطية على الأهداف الحقيقية لما يحصل في المنطقة، ومختلفة تماماً عمّا سبق من عناوين برّاقة.

هذا الغرب الكاذب المخادع، ومعه ذيوله من البعض العربي ذي التيه الفكري والذي يعاني خللاً بيولوجياً، تتموضع و«تتبوصل» مقارباته التكتيكية والاستراتيجية على حد سواء للحدث السوري المأسوي، ضمن متتاليات هندسية لوصف الحدث، ووسم نفس المجموعات البشرية الإرهابية في أوروبا وأميركا، باعتبارهما مناضلة لأجل الحريّة في سورية: إنها مفارقة عجيبة ستعود بالوبال السيئ على الاستقرار في أوروبا وأميركا، ولنا في حوادث أيلول الأسود الأميركي خير دليل، فذكراها المأسوية ما زالت تمثل حتّى اللحظة.

الغرب وذيوله من العربان ذوي الفكر البنطلوني حلف إبليس الرجيم أعلنوا بكل وقاحة ونذالة أنّ هدفهم في منطقة الشرق الأوسط وسورية أمّنا تحديداً، هو حماية القيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وتناست العجوز أوروبا وبعلها الأميركي. البدء في نشر تلك القيم بالحلفاء من البعض العربي ذي الفكر البنطلوني الضيق في مملكات القلق العربي على الخليج، الذين يسعون إلى نتائجه إمّا عبر جهاد في السرير، أو الوصول إليه من دون منغصات وعراقيل من التزام ديني وأخلاقي وعقوبات قانونية، وتحت عناوين إباحية الفكر التي ستقود في النهاية إلى الإباحية في الجسد، بل إلى فوضى إباحية الجسد، بنتائجها الصحيّة المأسوية عبر مرض السيدا منتج حرب بيولوجية غربية وأشقائه من الأمراض الجنسية الأخرى، وأثرها الاقتصادي الخطير في معدلات الإنتاج والنمو عبر إقصاء للمورد البشري المصاب.

محام عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية

www.roussanlegal.0pi.com

mohd ahamd2003 yahoo.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى