في ذكرى الشهداء… خالدون في الذاكرة
واصف شرارة
الشهادة قيمة القيم وذمّة الذمم و»الشهداء أكرم مَن في الدنيا وأنبل بني البشر»… فالشهادة عزّ شامخ وإباء وكبرياء، صون للوطن وإبداع للحياة في صفحتها الرحبة وتجسيد للشرف والسموّ المطلق الذي يرتقي إلى سموّ العقيدة وشرف الوطن… بكلمة أخرى تبقى الشهادة هي ذلك الشيء السامي الذي لا يعلو عليه شيء آخر في مراتب التضحية والفداء. صحيح أن النفس البشرية لا تقدّر بثمن لكنها ترخص في سبيل الذود عن ثرى الوطن والدفاع عن كرامته كي لا يدنسها غاصب أو معتدٍ.
هكذا هم الرجال الميامين الذي امتطوا صهوات الريح ليعانقوا قمم العلياء بأرواحهم الطاهرة الزكية حبّاً للوطن الغالي، معمّدين هواء الوطن وترابه وماءه بعبق الشهادة الذي هو نسغ الحياة للأجيال المقبلة.
كم هو جميل أن يعيش الإنسان لأجل وطنه ويساهم في إعماره، لكن الأجمل أن يفتدي الإنسان ذلك الوطن بروحه الغالية للحفاظ عليه حراً كريماً سيداً مصاناً.
إن ميزة الاستشهاد عام 1916 هو تأسيس لعصر الشهادة في التاريخ الحديث الذي تحوّل إلى قوّة دفع ثورية سمتْ بمفهوم الموت إلى مستوى قداسة الهدف، ورسّخ هذا الاستشهاد في النفوس العربية حتمية انتصار الأمّة في شرق الوطن ومغربه، فعبأت دروس السادس من أيار النفوس بالنضال الفاعل الذي ألهب الساحة العربية ولم يترك المحتلين ينعمون بالراحة يوماً واحداً.
ففي آب 1915 أعدم جمال باشا السفاح أحد عشر وطنياً بارزاً أتبعها في السادس من أيار 1916 بإعدام كوكبة أخرى من خيرة المناضلين المثقفين وكان تعدادهم واحداً وعشرين وطنياً، ولم يدرك جمال باشا السفاح عندما ارتكب هذه الجريمة المروعة بأن شهادتهم كانت الشرارة التي أشعلت لهيب الثورة العربية وانتقالها إلى مستوى أعلى وأرقى إلى مستوى الكفاح المسلح.
كان السادس من أيار مقدّمة لسلسلة طويلة من أعمال الشهادة خلدتها ذاكرة الأجيال في السنوات والحوادث اللاحقة، وإذا كان شهداء أيار مقدّمة للتحرر من الاحتلال العثماني فإن الذاكرة خلّدت الشهداء الذين خاضوا معارك الشرف ضد الاستعمار على مدى عقود.
كانت قيم الشهادة عميقة الجذور في وجدان شعبنا العظيم، رسّخها شهداء السادس من أيار وتابع تقاليدها بشجاعة كاملة الشهيد القائد البطل يوسف العظمة الذي خرج في الرابع والعشرين من تموز عام 1920 إلى روابي ميسلون لملاقاة جيش غورو المدجج بالسلاح الثقيل، رغم عدم التناسب في موازين القوى، فقد أبى يوسف العظمة أن يدخل الجيش الفرنسي إلى دمشق هكذا من دون مقاومة، وبشهادته أثبت ما هو أقوى وأشدّ فاعلية من مصفحات المستعمر ودباباته، وهي إرادة الشعب الذي قرّر أن يصنع مجد البطولة.
ولم تقف قوافل الشهداء في المعارك المتلاحقة مع الكيان الصهيوني منذ ولادة هذا الكيان المصطنع على أرض فلسطين قبل نحو سبعة عقود وحتى وقتنا هذا، فمن حرب 1948 مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وحرب 1967 إلى حرب تشرين التحريرية 1973 ثم شهداء المقاومة الوطنية اللبنانية إلى شهداء غزّة وكل أرض عربية، أضحت الشهادة قيمة مقدّسة لجميع المقاومين، المناضلين على امتداد ساحة الأمة.
إن شهداء سورية وفلسطين والعراق ولبنان والجزائر ومصر، أمس وعلى الدوام، هم النبراس الذي ينير لأمّتنا طريق خلاصها، والكنز الذي تستمدّ منه أجيال هذه الأمة الحيّة صفات الشجاعة والإباء، فهم من جادوا بأغلى ما يملك الإنسان في هذه الحياة ليعيش أبناء وطنهم أحراراً كراماً.
إذا كان شهداء السادس من أيار هم أحد كواكب النضال الذي أضاء الدرب أمام هذه الأمة فإنهم لم ولن يكونوا أول تلك الكواكب ولا آخرها، فلطالما قدّمت أمتنا آلاف الشهداء لمقاومة ومواجهة حملات الاستعمار والغزو ومواجهتها، وما التضحيات الكبيرة التي قدمتها هذه الأمة إلا دليل قاطع على عطاءات شهدائنا الأبرار.
إن أعراس الدم التي لم تتوقف أزهرت وأثمرت. كان دمنا لأجل فلسطين وسورية ولبنان وكل بقعة جغرافية على امتداد الوطن العربي. وعرسها الأنقى والأزهى هنا في ساحة الوطن. أزهر اللوز والجوز والياسمين وشمخ الأرز والسنديان وبدت أعراس دمنا مثلما هي وليست حقول شوك ولا براميل نفط وأسطوانات غاز ولا سيارات خليجيّة فاخرة، فرقابنا لا تهاب رقصة السيوف.
المقاومة والشهادة متلازمتان، لا انفصال بينهما، هما الوعد الصادق والصارخ. تحية لك يد مزروعة في تراب الوطن، وتحية للمقاومين حماة الديار الذين يعيدون كتابة تاريخ الأمة، وتحية لصنّاع المجد الذين رووا بدمائهم تراب الوطن والأمة.