الانتداب الثاني
نسيب أبو ضرغم
ما ارتكب في حقّ تلفزيون «الجديد» وجريدة «الأخبار» من جانب «المحكمة الدوليّة الخاصّة بلبنان» يطرح سؤالاً ملحّاً هو: هل أننا رفعنا عنا فعلاً الانتداب الأجنبي الذي فرضته علينا المؤامرة الصهيوـ غربية عبر عصبة الأمم في 24 تموز 1922 والذي استمر حتى 21 تشرين الثاني 1949؟
من المستغرب أن تصبح حريّة الإعلام في لبنان، وهي إحدى ركائز هذا البلد، خاضعة لمحكمة أجنبية، أيّاً تكن، وهي المحكمة عينها التي شهدت استقالة عشرات من أركانها، والمحكمة ذاتها التي أنشئت خلافاً للدستور اللبناني، وتفتقر بالتالي إلى شرعيّتها الدستوريّة… هي ذاتها تنصّب نفسها وصيّة على بلد بأسره، تُجرّم صحافته، وترهب أقلامه، بعبارات قضائيّة، ولكنها ذات أبعاد سياسية بامتياز.
السؤال الأول يستولد سؤالاً ثانياً هو: هل يوجد دولة في العالم تتنازل عن سيادة قضائها لجهة أجنبية مثلما حصل عندنا؟! أليس القضاء اللبناني من الكفاءة العلمية والتقنية والنزاهة بحيث يقدر على الإمساك بملف اغتيال الرئيس الحريري؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فلماذا انتداب قضاء أجنبي ليحلّ مكانه، أما إذا كان بالسلب فإنّ ثمّة مأزقاً خطيراً يتمثل في قصور القضاء اللبناني كفاءة وتقنية.
المحزن في الموضوع أن هذا الانتداب القضائي الأجنبي تم على يد من يدّعون أنّهم أبطال الاستقلال الثاني، وأنّهم رموز الحرية والسيادة والاستقلال، فإذا بالاستقلال الثاني يستولد الانتداب الثاني، والانتداب الثاني يتحفّز للإمساك بعنق حرية الكلمة في لبنان.
ما أقدمت عليه «الجديد» و»الأخبار» بعض من واجب، ينبغي أن تستكمله المواقع الإعلامية كافة في لبنان، ذلك أنّ المحكمة المفتقرة إلى غطاء دستوري، والتي هُرِّبت تهريباً، لتصبح المرجعيّة الدوليّة التي تقرّر مَنْ من اللبنانيين مرتكب ومجرم، وفق خلفية باتت معروفة وليست في حاجة إلى براهين هي محكمة باتت تمارس انتداباً سياسيّاً على البلد بمفردات قضائية.
هل جرّمت المحكمة الدولية «إسرائيل» والولايات المتحدة حين تمنّعت عن التعاون معها، ومنعت عنها أيّ معلومات تملكها؟ ألا تعتقد المحكمة أنّ ما في حوزة «إسرائيل» والولايات المتحدة من معلومات كفيل بكشف حقيقة اغتيال الرئيس الحريري؟ ألا تسأل المحكمة المبجلة نفسها لماذا تتهم سورية وحزب الله باغتيال الرئيس الحريري في حين ترفض «إسرائيل» والولايات المتحدة مدّها بأيّ معلومة؟! ألا تسأل نفسها قبل أن تُجرّم الصحافة والإعلام اللبنانيين.
ألا يحقّ للبنانيين الذين يموّلون القسم الأكبر من مصاريف هذه المحكمة أن يسألوا وأن يشيروا بإصبع الاتهام؟ نحن مَنْ يموّل ونحن من له حق رفع الصوت والاعتراض وكشف المستور.
لقد أدخل «أبطال الاستقلال الثاني» البلد تحت نير انتداب مقنّع، ناعم الملمس، حاد الأذى، هو كابوس مسلط، ينهّد على كل من تسول له نفسه انتقاد ما يجري، حتى لو كان ما يجري تأسيساً لصراع مذهبي مدمّر لا يبقي ولا يذر، ولا تفيد منه إلاّ «إسرائيل».
تستطيع هذه المحكمة أن تستدعي مَن تشاء، وتُجرّم من تشاء، تنتدب علينا بأموالنا وعلى أنقاض سيادتنا وكرامتنا، وِفق رغبات منها ما هو مجهول ومنها ما هو معلوم، فلا يجوز أن يُحاكم اللبناني إلاّ أمام قضائه، وإلاّ فإننا واحدة من جمهوريات الموز التي تنتابها نوبة الحرية والسيادة والاستقلال من دون أن تكون على شيء من ذلك.
ماذا يعني إرهاب منبرين إعلاميين؟ ألا يعني تطبيق نهج مُعَدّ يقضي بترك المسار الدولي يتحرك دونما أن يكون ثمّة قلم أو منبر أو مرجعية إعلامية تستطيع أن تقول لا؟
في عصر الانتداب الثاني، ممنوعٌ التمرّد، والمواجهة، والدفاع عن الحق. في عصر الانتداب الثاني، التهمة جاهزة، وسكّين التمزيف في النسيج الاجتماعي اللبناني ينبغي أن يكمل طريقه وعمله، أما رفض ذلك فجريمة يعاقب عليها ما يسمى بـ»المجتمع الدولي».
والله لو أعطي الرئيس الحريري قدرة النطق من قبره، لقال:
اسحبوني من تلك المحكمة.
هنئياً لـ«أبطال الاستقلال الثاني» بالانتداب الثاني.
وهنيئاً لنا بصحافة وإعلام ما زالا يقولان الحقّ في وجه أعتى السلاطين.