أزمة ديبلوماسية…!

عصام الحسيني

شهدت الامبراطوريات القديمة قيام أشكال من العلاقات في ما بينها، وإنْ كانت علاقات بدائية، قامت بحكم الضرورة، في الاقتصاد والأمن، وما رافقها من مفاوضات لفضّ النزاعات، وإبرام المعاهدات.

وظلت هذه العلاقات بمعظمها محكومة لمنطق القوة، وسقف العادات والتقاليد والمعتقدات الدينية، حتى بزوغ فجر ما يُعرف بعصر التنظيم الدولي، القائم على تنظيم العلاقات الدولية.

وتعتبر معاهدة وستفاليا عام 1648 أول منعطف تاريخي في العلاقات الدولية، والتي أنهت معها السلطة الدينية العالمية للبابا، وأظهرت الدولة القومية، القائمة على مفهوم السيادة والمصلحة الوطنية.

لقد جاءت هذه المعاهدة بمبدأ التوازن الأوروبي، ومبدأ البعثات الديبلوماسية الدائمة لمراقبة هذا التوازن.

ثم أتى مؤتمر فيينا عام 1815، الذي انبثقت عنه اتفاقية فيينا لنفس العام، وبرتوكول لاشبيل عام 1818، حيث بحث مسألة السلم بين الدول، ومسألة الأسبقية والتقدّم التي كانت تشكل بعض الأحيان سبباً من أسباب النزاعات الدولية.

وكانت اتفاقية هافانا عام 1928، آخر اتفاقية دولية لتنظيم قواعد العمل الديبلوماسي، قبل ظهور هيئة الأمم المتحدة، وما تمّ إبرامه من معاهدات واتفاقيات دولية، شكل المصدر الأساسي للقانون الديبلوماسي.

وتعتبر اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية، الصادرة عام 1961، المصدر الأساسي لمعظم الاتفاقيات الديبلوماسية، والتي أقرها مجلس النواب اللبناني بقانون رقم 17/70 تاريخ 1964/4/26.

وترتكز هذه الاتفاقية على مبادئ عامة، وعلى مفاهيم وأسس نظرية، خاصة في مجال مصدر الحصانات والامتيازات الديبلوماسية.

وقد اعتمدت هذه الاتفاقية على نظرية ضرورات الوظيفة، في تبرير منح الحصانات والامتيازات للمبعوثين الديبلوماسيين، أي للبعثة الديبلوماسية بوصفها ممثلة للدولة، وليس لشخص الحاكم.

ومن أبرز مواد هذه الاتفاقية:

المادة 9 الفقرة 1:

«يجوز للدولة المعتمد لديها، في جميع الأوقات ودون بيان أسباب قرارها، أن تعلن للدولة المعتمدة، أنّ رئيس البعثة أو أيّ موظف ديبلوماسي فيها، شخص غير مرغوب فيه، أو أنّ أيّ موظف آخر غير مقبول. وفي هذه الحالة تقوم الدولة المعتمدة حسب الاقتضاء، إما باستدعاء الشخص المعني، أو بإنهاء خدمته في البعثة. ويجوز إعلان شخص ما غير مرغوب فيه أو غير مقبول، قبل وصوله إلى إقليم الدولة المعتمد لديها».

المادة 22:

الفقرة 1: «انّ حرمة دار البعثة مصونة، ولا يجوز لمأموري الدولة المعتمد لديها دخولها إلا برضى رئيس البعثة».

الفقرة 2: «يترتب على الدولة المعتمد لديها التزام خاص باتخاذ جميع التدابير المناسبة لحماية دار البعثة من أي اقتحام أو ضرر ومنع أيّ إخلال بأمن البعثة أو مساس بكرامتها».

الفقرة 3: «تعفى دار البعثة وأثاثها وأموالها الأخرى الموجودة فيها ووسائل النقل التابعة لها، من إجراءات التفتيش أو الاستيلاء أو الحجز أو التنفيذ».

المادة 29:

«انّ حرمة شخص المبعوث الديبلوماسي مصونة، ولا يجوز إخضاعها لأية صورة من صور القبض أو الاعتقال، ويجب على الدولة المعتمد لديها معاملته بالاحترام اللائق، واتخاذ جميع التدابير المناسبة، لمنع أيّ اعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته».

المادة 31 الفقرة 4: «تمتع المبعوث الديبلوماسي بالحصانة القضائية في الدولة المعتمد لديها، لا يعفيه من قضاء الدولة المعتمِدة».

المادة 41 الفقرة 1: يجب على جميع المتمتعين بالامتيازات والحصانات، مع عدم الإخلال بها، احترام قوانين الدولة المعتمد لديها وأنظمتها. ويجب عليهم كذلك عدم التدخل في شؤونها الداخلية».

نرى مما تقدّم، أنّ الحصانة الديبلوماسية للمبعوث الديبلوماسي، هي حصانة شخصية مطلقة، ترتبط بمفهوم حصانة البعثة الشخصية المطلقة، التي تعتبر الركن الأساسي الذي تتفرّع منه جميع أشكال الحصانات الأخرى بما فيها الحصانة القضائية.

أما عندما يرتكب المبعوث الديبلوماسي أعمالاً غير مشروعة، تهدّد أمن الدولة، فقد أعطت المادة 9 من الاتفاقية، الحق في اعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، وبالتالي يُعمل على إنهاء خدماته.

وفي الوقائع، لما أدلى به سفير المملكة العربية السعودية، علي عواض عسيري، بتاريخ 30/3/2015، في معرض ردّه على خطاب السيد حسن نصرالله.

وبغضّ النظر عما احتواه هذا التصريح من حيث المضمون، فهو من حيث الشكل قد خرج عن الإطار الديبلوماسي لسفير دولة، وتخطى ما أعطته اتفاقية فيينا من صلاحيات، وخاصة لتجاوزه إطار المادة 41 الفقرة 1، لجهة عدم التدخل في شؤون الدولة المعتمد لديها.

ولو أراد السفير السعودي الاعتراض على أيّ انتقاد يطاول بلاده، وهذا حقه، فإنّ القنوات الرسمية عبر وزارة الخارجية متاحة لذلك، وهي قنوات يعمل بها دائماً في حالات مشابهة، ومتعارف عليها في السلك الديبلوماسي.

أما ما قاله السفير السعودي بتاريخ 3/4/2015، بحق جريدة «الأخبار» اللبنانية، فقد تجاوز حدّ التدخل في الشؤون الداخلية للدولة المعتمد لديها، إلى حدّ تهديد الصحافة، بشكل غير مسبوق في تاريخ التمثيل الديبلوماسي.

لقد هدّد الصحيفة عندما صرّح بالتالي: إنّ «الأخبار» قد اعتادت الترويج لأكاذيب واتهامات للمملكة وقياداتها، وجاء الوقت أن تقف عند حدّها».

إنّ خروج السفير السعودي عن نصّ المادة 41 من معاهدة فيينا، عبر تناوله لشؤون داخلية لدولة معتمد لديها ذات سيادة، ومع تكرار هذا التدخل، يعطي الدافع والصلاحية للديبلوماسية اللبنانية، بتطبيق مضمون المادة 9 الفقرة 1، من نفس الاتفاقية عليه، وهي اعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، حيث أنّ الاتفاقية أعطت للمبعوث الديبلوماسي حصانة مطلقة لا يمكن المساس بها.

وبالتالي تكون الاتفاقية قد أعطت للطرفين، الحق المتبادل في السيادة، عبر عدم إمكانية محاكمة المبعوث الديبلوماسي، وعبر رفض تمثيله والطلب بإبعاده.

والاتفاقية، وإنْ أعطت للمبعوث الدبلوماسي حصانة قضائية، في ما يتعلق بالقضاء الجنائي للدولة المعتمد لديها، بحسب المادة 31 الفقرة 1، غير أنّ هذه الحصانة تسقط عنه في دولته، وذلك بحسب الفقرة 4 من نفس المادة، وبالتالي يمكن محاكمته فيها.

وفي حالة تهديد جريدة «الأخبار» فمن الممكن بحسب المادة 31 من اتفاقية فيينا، أن تتوجه الصحيفة الى القضاء السعودي، وان ترفع قضية تهديد بحق السفير السعودي، وهي الآلية الوحيدة القانونية المتاحة.

غير أنّ الخروج عن روحية اتفاقية فيينا، حالة لا تخصّ السفير عسيري بشخصه، بل هي حالة سعودية معمّمة.

فبتاريخ 5/4/2015، تناول السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير حزب الله اللبناني، خلال ندوة عُقدت في مقرّ الكونغرس الأميركي بالقول:

«يوجد في لبنان ميليشيا حزب الله تسيطر على الدولة، ولا نريد أن يحدث مثل هذا الأمر في اليمن عن طريق الحوثيين».

يقول نابولون: «إنّ الحرب دون سياسة أمر مستحيل، ولكن السياسة دون حرب أمر مطلوب لبقاء البشرية».

فلماذا تحوّل الديبلوماسية السعودية، حالة السياسة الى حالة حرب، ومن هو المستفيد الفعلي منها على الصعيدين الوطني والقومي.

قد تكون إمكانية الإجابة متاحة، لكن الخوف من قولها، لأنها تذكرنا بمأساتنا المتكرّرة عبر التاريخ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى