اتجاهات محاكم الذاكرة… لا ترحم أحداً أبداً!
فاديا مطر
بعد إثارة البابا فرانسيس حفيظة تركيا أول من أمس أثناء حضوره الذكرى المئوية لمذبحة الأرمن في كنيسة «سان بطرس باسيليكا» في الفاتيكان، في إشارة إلى القتل الذي تعرض له الأرمن خلال القرن الماضي تحت حكم الإمبراطوية العثمانية، قائلاً إن عائلاتنا الإنسانية عاشت ثلاثة مآسي كبرى غير مسبوقة، وأن المأساة الأولى الواسعة النطاق هي أول إبادة جماعية في القرن العشرين، مذكراً بإعلان البابا يوحنا بولص الثاني ورئيس الكنيسة الأرمنية عام 2001، لكن استخدام تعبير»الإبادة الجماعية» حتى ولو كان مقتبساً من إعلان سابق أزعج الأتراك للذين اتهمتهم جماعات أرمنية وباحثون أتراك بالتخطيط لـ«إبادة جماعية» بحق الآرمن منذ عام 1915، حين قُتل أكثر من مليون أرمني في السنوات الأخيرة لحكم الإمبراطورية العثمانية، في مقابل تنكر تركي رسمي لهذا الحدث تحت حجة أن مئات الآلاف من الأرمن والمسيحيين والأتراك المسلمين ماتوا في أحداث العنف الطائفي على ميادين القتال الدامي في الحرب العالمية الأولى، في محاولة تركية لممارسة الضغط على هذه التحركات التي تُظهر دور العثمانيين في عمليات «الإبادة الجماعية»، فالأمر بحد ذاته يُعتبر مجازفة أثارت غضب تركيا بعد اعتراف دول عدة من بينها فرنسا وإيطاليا وروسيا بهذه المجازر «كإبادة»، على وقع إحياء أرمينيا الذكرى المئوية للإبادة في 24 نيسان، وهو اليوم الذي جرى فيه عام 1915 اعتقال المئات من الأرمن قبل ذبحهم لاحقاً في اسطنبول، الأمر الذي شكل بداية المجازر، لكن أرمينيا رفضت تعازي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العام الماضي عندما كان رئيساً للوزراء بعد إرسال بلاده برقية تعزية إلى «أحفاد الأرمن» الذين قتلوا عام 1915 «لكن أرمينيا طلبت من تركيا في حينها الاعتراف بهذه المجازر لا «الندم عليها»، وما يجدر ذكره أن أرمينيا كانت جزءاً من الإمبراطويرية العثمانية التي تحكم من اسطنبول في تلك الفترة، فالحلم الإمبراطوري العثماني لم تتراجع أوهامه في الخليج التركي، وهذا ماجعل رئيس وزرائها أحمد داوود أوغلو يرد أول من أمس على تصريحات البابا فرنسيس بأنها «متحيزة وغير لائقة» على إثر استدعاء تركيا لسفيرها في الفاتيكان بحجة التشاور معه بشأن التصريحات «البابوية» التي أثارت أيضاً تأثيراً لافتاً في المجتمع الدولي عموماً والأوروبي خصوصاً بعد اعتراف دول أوروبية عدة بمسؤولية «العثمانية» عن هذه المجازر، في تنبيه يستدعي من تركيا الانتباه إلى أن الرأي العام الأوروبي وفي غالبية لا يمكن إهمالها، بات على قناعة بأن مثل هذه المجازر لا يمكن محوها من خزائن الذاكرة المسيحية الأوروبية، التي تسعى تركيا إلى دخول عالم المشاركة فيها كعضو في الاتحاد الأوروبي الذي لم يمنح تركيا هذه الفرصة حتى الآن، والذي لا يمكن أن تنجح معه «مقالب السياسة» على خلفية النسيان، فالشارع الأوروبي صاحب ذاكرة لا ترحم، وهي تحاكم مجرميها بجدية وحزم، لكن المراوغة التركية وعدم القدرة على إخفاء إيديولوجية العنف والقتل والإبادة هي من تحضرها كمتهم في هذه المحاكم، وهذا شيء يعرفه جيداً الداخل التركي الذي يعتبر نفسه من أنصار المجتمع الأوروبي بصفة «الوصيف»، لكن الداخل «الإعلام» التركي بمتفرعاته يحاول الدفاع عن موقف حكومته تحت ردود فعل عكستها الصحف التركية حين علقت صحيفة «أنترنت جانس» الصادرة أمس على تصريحات البابا فرنسيس بأنها «إهانة كبيرة للأمة التركية»، فقد أوجع هذا التصريح النفوس، وأن تركيا لن تقبل بهذا الوصف، وسيكون هناك رد شديد اللهجة. فيما قالت صحيفة «بوجون» في تعليق أمس إن التصريح كان «صدمة بالنسبة للأمة التركية»، لتلحق بها أختها التركية الأخرى صحيفة «هابرن يوكسا» بالتعليق بأن التصريح «أغضب تركيا كثيراً»، لتترك هذه الصحافة جدالاً شارعياً داخلياً لا يخفي نفسه بين مؤيد لهذا التصريح ومنافٍ، تحت الوقوف فوق منصة الحقيقة مرة والاختباء تحتها مرة أخرى، لكن السنين مهما توالت لن تفرغ الذاكرة الحزينة الصلبة التي أصدرت محاكمها حكماً قطعياً لم يتأخر تنفيذه بشهادة السنين المقبلة… فمحاكم الذاكرة لا ترحم أحداً أبداً.