نجلاء أبو جهجه… عين الوطن التي رفضت الاستخفاف بالموت

حاورتها: عبير حمدان

ملكت المقدرة على اختصار التاريخ بدائرة صغيرة. هي العين التي لا تغفو وكأنها الشاهدة الوحيدة على هول العدوان. وكيف لمن يوثّق الحكاية أن يغيب؟ أن تبصر الحياة من رحم الدماء السائلة على الإسفلت، هذه إرادة البقاء في أبهى تجليّاتها. وأن تكتب الخبر بحبر الدمع الخاشع لحظة تصعد روح صغيرة إلى ما فوق الغيم الملبّد بدويّ القنابل هذه بداية نصر… نيسان 1996، كان الحقد يحمل اسم «عناقيد الغضب»، لم تخشه نجلاء أبو جهجه، فكانت الصوت والصورة اللذين أنقذا وطناً وهزّا عروشاً.

بين نجلاء و«إسعاف المنصوري» حكاية لا يمكن أن يطويها النسيان. فالصدى يردّد صوت انفتاح العدسة لتحضن «حنين»، الطفلة المتكئة على هامش الأمل بوطنٍ خالية سماؤه من هدير الطائرات الحربية. وتبقى وحدها سرّ البداية ودليلنا إلى النهاية كما يجب أن تكون. حينذاك، خشعت المراسلة الحربية أمام لحظة ارتحال الروح إلى مكان من دون دخان وطائرات حربية. وعلى رغم أنّ أرضنا خيرٌ من ألف جنة، إلا أن «سحر»، الطفلة التي نادت عمّتها علّها تجد ركناً لجراحها، تنشقت هواء الجنوب للمرّة الأخيرة وتغلّبت على أنين اللحظة. في تلك المساحة الضيقة من الزمن المجبول بالدماء، تأملتها بصمتٍ، ولعلها حبست حريق المقل أمام قداسة الشهادة، فأرخت آلة التصوير من يدها، لتمنح أرواحهم الغضة السلام، أمام رهبة اللقاء مع ملائكة السماء، تسقط كل الاعتبارات. هذه هي أصول مهنة المتاعب كما يجب أن تكون، وهذا هو الرقيّ الذي ميّز «المراسلة الحديدية» التي هزّت ضمير العالم بكاميرا.

عشرون سنة تنقصها واحدة، مرّت على جريمة عصر. «سحر» و«حنين» كبرتا في ذاكرة نجلاء. وإكراماً لهما ولمن سبقهما ومن لحق بهما، كان لا بدّ من لقاء يحثّنا على القراءة.. ولن ننسى!

نفتح دفاتر الذاكرة عند مشارف المنصوري لنسأل نجلاء ـ المراسلة الحربية ـ عن ارتباط الإحساس البشري ببشاعة القتل عن سابق تصوّر وتصميم. وهل يمكن اختصار الحدث ليصبح مجرّد خبر صحافي؟ لتعود بنا إلى قريتها. وما بين «حنين» الطفلة التي أسدلت رأسها من نافذة سيارة الإسعاف، و«حانين» الملتجئة إلى مغارة تسكنها حكايا الجنّ هرباً من طوّافات المحتل، حكاية وطن، تخبرنا إياها نجلاء وتقول: «بحسب تجربتي، أجزم أنه من الصعب اختصار المشهد بكلمات بسيطة. الإنسان ابن بيئته. والواقع الذي يحيط به يساهم في تكوين شخصيته وخياراته. وكَوني ابنة قرية عانت الكثير من جرّاء الاحتلال والتهجير القسري والقتل اليومي، إذ وعيت على هول المجازر الإسرائيلية وبشاعة هذا العدو الذي لم يوفّر البشر والحجر، كان من البديهيّ أن أبحث عن صفة تخوّلني نقل الصورة بواقعيتها إلى العالم. فأصبحت المراسلة الحربية، وفي داخلي تلك الطفلة التي تعلّقت بعين الكاميرا حين زار فريق صحافيّ أجنبيّ قريتي، وسألتنا المراسلة إذا ما كنّا نخشى القصف والطائرات. أذكر أننا حينذاك، أبينا الاعتراف بخوفنا وقلنا لها أننا لا نخاف وقد كذبنا. جميعاً كنّا نخاف الحرب وكنّا نلجأ إلى المغارة هرباً من القذائف. على رغم أنّنا كنا نخشى تلك المغارة وما يدور حولها من قصص عن الجنّ الذي يسكنها. أذكر أنّ الصحافية علّقت الكاميرا في رقبتي، وللحظة شعرت أنني ملكت الدنيا وما فيها. وحين عدت إلى المنزل، لم أتمكن من النوم، لكنني أغضمت عينيّ كي أرى نفسي صحافية».

وتضيف نجلاء أبو جهجه في إطار متصل: «وجود الفدائيين في قريتي زاد من إصراري على امتهان الصحافة على رغم أنني لم أتمكن من دراسة الإعلام في حينه. فدخلت معهد العلوم الاجتماعية لاعتقادي أنه ذو صلة بالموضوع. وفي الجامعة، تابعت نشاطي في الحركة الطلابية، وكذلك نشاطي المسرحي الذي منحني مساحة كبيرة للتعبير عن مشاعري وحقدي إزاء العدو. وعلى رغم أنني نلت شهادة الليسانس في العلوم الاجتماعية، وشهادة الجدارة في علم الاجتماع الاقتصادي، إلا أنّني فضّلت العمل في مجال الإعلام، وبدأت في صوت الفرح، ثم في الراية، ولاحقاً إذاعة القرآن الكريم، ثمّ في جريدة اللواء، وصولاً إلى وكالة رويترز».

حدث لا يتكرّر

وعن إشكالية تعاطي الإعلام الغربي مع واقع الصراع في المنطقة، ونظرته إلى الكيان «الإسرائيلي»، وكيف لوكالة أجنبية أن تقبل بالاعتراف بحقيقة مجزرة «إسعاف المنصوري» تقول أبو جهجه: «رويترز تعاطت مع الحدث بإطار تسويقي، إذ قال لي مدير الوكالة في بيروت إنّ هذا الحدث لا يتكرّر إلّا كلّ مئة سنة. ولذلك، كان لا بدّ من استثماره بشكل تجاريّ ومعنويّ من وجهة نظرهم. وبحسب المعلومات التي وصلتني في حينه، أن إيران دفعت مبلغاً هائلاً للوكالة كي تكون السبّاقة في عرضه، ولاحقاً سُوّق في باقي الدول. عُرض شريط المجزرة في جميع أنحاء العالم وامتنعت إسرائيل وحدها عن بثّه. وقد برّر معلّق الشؤون العربية في التلفزيون الإسرائيلي الأمر بالقول، إنهم يريدون تجنيب مشاهديهم رؤية مشاهد فظيعة. أما في أميركا، فقد طلبت وزارة الإعلام الأميركية من جميع وسائل الإعلام الرسمية والخاصة عندها، ألّا يُعرض شريط المجزرة لأكثر من خمس مرّات يومياً، وبعد الساعة الثامنة مساء، بحيث يكون الأطفال نياماً. وكانت هذه المرة الثانية التي تتدخل فيها وزارة الإعلام في شؤون حرية الوسائل الإعلامية، إذ إنّ المرة الأولى كانت حول مجزرة صبرا وشاتيلا».

وتضيف أبو جهجه: «الوكالات الأجنبية ترى أن صورة الحدث المتحرّكة هي الأقوى تأثيراً على المشاهد. لذلك، هزّت مجزرة إسعاف المنصوري العالم. كوني نقلت صورة حيةً ما قبل انطلاق الصاروخ ولحظة إطلاقه وما بعد الإطلاق. وكانت وجوه الضحايا شاهدة على فظاعة الحدث. وأنا هنا لا أنفي فظاعة مجزرة قانا التي حفرت عميقاً في وجداننا. إنّما من الناحية المهنية، الصورة المتحرّكة تؤثر بشكل أكبر، قانا خرجت إلى العالم على هيئة أشلاء بعددٍ مخيف، لكنّ عين الكاميرا لم ترصد المجرم بشكل مباشر».

ونعود إلى المجزرة، لتخبرنا المراسلة الحربية عن تفاصيلها: «في ذلك اليوم، كنت قد أرسلت المادة إلى الوكالة منذ الصباح، وطلبوا منّي ألّا أخاطر بالتقدّم إلى القرى المستهدفة أكثر. إذ إنّ المادة التي وصلتهم كافية. لكنني أردت أن أصوّر سيارة الإسعاف التي تنقل الناس يومياً في مكان مكشوف وممنوع فيه التحرّك. فكلّ ما هو متحرّك، شكّل هدفاً للعدو. كانت الساعة الواحدة والدقيقة الأربعين تقريباً عندما سمعت بوق سيارة إسعاف تقترب. صوّرتها، واعتقدت أنها تُقل جرحى. عندما اقتربت أكثر، شاهدتها مكتظة بالأطفال والنساء. أعطى سائق سيارة الإسعاف إشارة تحذير من يده لسائق سيارة مرسيدس بيضاء آتية من صور نحو المنصوري، كي يعود أدراجه نتيجة خطورة الوضع. ثم تحدّث السائقان للحظات، فوافق سائق المرسيدس أن يعود من حيث أتى. كنت خلال ذلك قد أوقفت التصوير، وقمت على عجل بتغيير اتجاه سيارتي، بحيث أصبحت سيارة الإسعاف أمامي. للحظة، فكّرت أن أعود أدراجي. لكنني عدت وقرّرت البقاء، رغبةً مني في رصد تلك المروحيات القريبة. نزلت من سيارتي، ورحت أصوّر المكان لاقتناص مشهدٍ للحاجز الدوليّ الخاليّ من عناصره. وبدأت الطائرات المروحية تقترب بسرعة، فرحت أرصدها وقد بدت لي من خلال حركة طيرانها أنها في مرحلة الانقضاض على هدف ما قريب. لم أتصوّر أبداً أن هدفها سيكون قريباً إلى هذا الحدّ. اختبأت قرب حائط، ورحت أصوّرها. وفجأةً، أطلقت صاروخاً ليسقط على مسافة عشرين متراً منّي، فانفجر في وسط الشارع، وأحدث كتلة هائلة من اللهب. ونتيجة كثافة الدخان، لم ألحظ أن سيارة الإسعاف أصيبت، ورحت أشاهد سيارة المرسيدس وقد خرج من فيها أحياء، فيما اختفت سيارة الإسعاف عن الأنظار. أطلقت المروحيات صاروخاً آخر باتجاه المكان لكنّه لم ينفجر، وبينما كنت أجهّز آلة التصوير بفيلمٍ جديد تحسّباً لصواريخ أخرى محتملة، رحت أشكر ربّي على سلامة سيارة الإسعاف لاعتقادي أنها ابتعدت بسلام. بقيت المروحيات تحلّق في المكان. وفجأةً، شاهدت رجلاً يخرج من البستان نحوي، حاملاً بين يديه طفلين أحدهما رضيع، وفتاة أخرى تركض إلى جانبه، ما لبث أن أنضم إليهم رجل آخر أمسك بيد الفتاة. كان الرجل يصرخ: ولادي الأربعة ماتوا… أربع أولاد يا عالم. هذا الرجل كان عبّاس جحا، وكانت الفتاة الأخرى تصرخ بأعلى صوتها: أختي انفجر رأسها… يا ويلي بدّي أختي. إنها منار الخالد. ظننتهم من المنازل القريبة، لم أستوعب الأمر إلى أن صرخ الرجل مجدّداً: أولادي ماتوا يا عالم… خمسة عشر طفلاً وامرأة احترقوا في سيارة الإسعاف. وأشار بيده نحو البستان، فركضت حيث أشار، وقفزت من مكان مرتفع كي أسلك طريقاً جانبياً بين أشجار الليمون كي لا أكون هدفاً مكشوفاً للطائرات. عندما اقتربت، بدأت أسمع أصوات الضحايا تخبرني بالفاجعة. كانت السيارة قد استقرّت بعد استهدافها داخل غرفة صغيرة. وبدا الأمر كأنه قبر جماعي لركابها. رحت أبحث عن باب الغرفة للدخول، لكنّني لم أستطع الدخول لأنّ السيارة كانت ملتصقة بالجدار لجهة الباب. من خلال هذا الباب، رحت أصوّر تفاصيل المجزرة علّني أخبِّئ هؤلاء الأطفال داخل عدسات آلات التصوير. لقد كنت في تلك اللحظة الشاهدة والشهيدة في آن معاً، كنت أشبههم تماماً. لا فرق، أنا مثلهم وهم مثلي. هذه حنين برأسها المتدلية من زجاج نافذة الإسعاف وقد اختلط دمها بكلمة إسعاف المطبوعة باللون الأحمر. بدت ابنة السنوات الخمس وكأنها تغفو على نافذة السيارة التي أضحت مقصلة لزنابقها. إلى جانبها امرأة في عقدها الثالث، ماتت وهي فاتحة عينيها. لقد كانت منى، والدة مريم وحنين ومهدي، وزوجة عباس جحا. وإلى جانبها سيدة في العقد الخامس كشفت الشظايا منديلها، فبان شعرها الأشيب وقد حنّته الدماء. إنها نوخة العقلة، وقد سكنت أحضانَ الشهيدتين ثلاث فتيات صغيرات رحن ينازعن سكرات الموت على عجل، وإحداهن تنادي بصوت مخنوق: يا عمتي… يا عمتي. وتتحسّس جثة جدّتها نوخة لاعتقادها أنّها عمتها. إنها سحر شقيقة منار. طفلة أخرى وضعت يديها فوق ركبيتها، والدماء تغطي وجهها بالكامل. بقيت جالسة في مكانها كأنها ترفض السقوط، وبان لي أن عينيها قد فقئتا، ربما كانت تحاول أن تفهم ما الذي حصل، وتلتفت ناحية الصوت المنادي: يا عمتي. وعند أقدام منى طفلة تقوقعت على جراحها وماتت وهي تحضن أطراف ثوب أزرق. لم يكن أمامها إلا الثوب كي تخبّئ رأسها فيه… كل ما أصفه مرّ في لحظات قليلة. بكيت من دون دموع. لقد تنكّرت لي الدموع. اكتفيت ببضع لقطات اقتنصتها لتكون الدليل، وعندما لفظت الطفلة حنين أنفاسها الأخيرة أمامي، نكّست آلة التصوير أمام رهبة موت الطفولة».

الاستخفاف بالموت

لكن، أين كان عناصر القوات الدولية في هذه الأثناء؟

تقول أبو جهجه: «توجّهت نحو قوات الطوارئ الدولية طالبة منهم إسعاف من تبقى من جرحى، لكنهم لم يحرّكوا ساكناً. حاولت الاتصال بالصليب الأحمر وبثكنة الجيش في صور، لكنني لم أوفّق. ثم اتصلت للمرة الثالثة بوكالة رويترز التي أشارت لاحقاً في تقريرها إلى أن القوات الدولية تلكأت في مساعدة الضحايا. عدت إلى السيارة وفي داخلي حزن وغضب كبيران، ورأيت عباس جحا يندب أطفاله وزوجته وجيرانه. على مدى عشرين دقيقة كنت أركض بين السيارة وحاجز الطوارئ، وكان جحا يحاول وشقيقه إنقاذ من فيه نَفَس أخير، وانتشال الشهداء، ولم يتمكنا من ذلك إلى أن وصلت آلية لقوات الطوارئ، وراح عناصرها ينتشلون الضحايا بعدما قاموا بخلع الأبواب وتحطيمها. برأيي، لو أنهم تحرّكوا بشكل أسرع، لعلهم تمكنوا من إنقاذ روحٍ، لكنهم لم يكترثوا بجراح الأطفال والنساء وأنينهم».

تؤكد أبو جهجه أنها في تلك اللحظات خلعت ثوب المراسلة، وكانت المسعفة التي تعيش الفجيعة، والمتعاطفة وفي داخلها. كانت بركاناً يوشك على الانفجار. لذلك نسألها عن الاستسهال الآني مع مشاهد القتل المتنقل اليوم، من قِبل بعض وسائل الإعلام الساعية إلى التسويق وجذب المشاهد، ولو على حساب الضحايا ومشاعر المتلقي فتجيب: «لا أريد أن أقسو على زملاء المهنة، ولكن اللحظة هي التي تتحكم بنا أحياناً. وبحسب المشهد يكون ردّ الفعل، قد يكون استسهال الموت حالة قائمة اليوم، ربما لكثرة تراكم الجثث أو لأن الإعلام صار عالماً مفتوحاً للجميع. حتى أن وسائل التواصل أصبحت وسيلة ترويج وفي متناول الجميع. لكلّ شخص قناعاته. من جهتي خشعت أمام رهبة الموت وتعاطيت ضمن حدود مهنتي كمراسلة حربية واجبها نقل الصورة كما هي، ولكن ـ في المقابل ـ شرف المهنة يحتم عليّ احترام الضحايا، لذلك أرفض أن تكون صورتي مادة ترويجية كحدث عاديّ وبديهيّ ومقبول ومتداول، كمن يتابع فيلماً بهدف التسلية. أنا مراسلة أنقل الحقيقة ولست باحثة عن شهرة فارغة على حساب دماء الشهداء ومشاعر أحبتهم. لذلك أرفض منطق الاستخفاف بالموت كما نرى اليوم. هذه هي سلبيات التكنولوجيا التي صارت في متناول الجميع. وللأسف، انسحب الأمر على وسائل الإعلام بشكل واضح».

ثمن الحقيقة

أما ثمن الحقيقة، فكان الإقصاء. وعن ذلك تقول نجلاء: «رويترز حقّقت الربح المادي والمعنوي من خلال تفرّدها بنقل الحدث إلى العالم. ولكن في المقابل، كان للحقيقة ثمن دفعته أنا. إذ حاولت الوكالة منعي من إجراء لقاءات تلفزيونية للحديث عن تفاصيل المجزرة كما حصلت. لكنّني لم أرضخ، وكان ظهوري على شاشة المنار الحد الفاصل، خصوصاً أنني تحدّثت عن المقاومة. وصلت إلى مرحلة كنت أدفع فيها للوكالة ثمن الصور التي ألتقطها، إلى أن شعرت أنهم يستعملون معي سياسة الإحراج كي أخرج بإرادتي، ومن دون أن أنال حقوقي المعنوية والمادية. وفعلاً اخترت الخروج».

لاحقاً، تعاونت أبو جهجه مع «آسوشيتد برس»، وواكبت أيام التحرير في أيار 2000. وحين تحقّق الانتصار، بدأت استراحة المحارب كونها لا تجد نفسها إلا في دائرة الإعلام الحربي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى