الثالث عشر من نيسان: الحريق الذي لم ينطفئ بعد
د. نسيب أبوضرغم
أربعون عاماً مرّت على شرارة الحريق اللبناني أو قل الحريق في لبنان، ذلك أنّ الشرارة الأم كانت في أحراج عجلون في الأردن، تلك الشرارة التي أسّست لمستقبل مشتعل في أيلول عام 1970.
عادة، يقرأ الكثيرون الأحداث، على أنها وقائع متقاطعة منقطعة عن بعضها بعضاً، فيما هي في حقيقة الأمر، تداعيات مترابطة، وفق سياق واحد وخلفية واحدة، وإن اتخذت أشكالاً مختلفة، وشعارات مختلفة. وبناءً عليه، سنقوم بعملية ربط لوقائع بدأت في أيلول 1970 في الأردن مروراً بالثالث عشر من نيسان في لبنان وانتهاءً بما يحصل اليوم، سواء على الساحة اللبنانية أو سواها.
عام 1970 كانت المقاومة الفلسطينية قد حققت عدداً من العمليات النوعية، على مجمل الساحة العربية وبخاصة في الأردن، وكانت قد أسست لكل ذلك معركة الكرامة التي وقعت في أغوار الأردن وأثبتت نجاعة أسلوب المقاومة في مواجهة «إسرائيل». استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تراكم مخزوناً هائلاً في الوجدان العربي نتيجة نجاحها في عدد من العمليات التي هزت صورة «إسرائيل»، حيث بدت الساحة الأردنية، ساحة مهيأة لتكون أرض الثورة الواعدة.
إزاء ذلك، تحرك التحالف الصهيو-أميركي لضرب الثورة في مهدها، قبل أن تنجح في أن تكون المثال المحتذى على كامل الساحات العربية، فكانت أحداث عجلون في أيلول من عام 1970 وثم ذبح المقاومة الفلسطينية وشطبها وتهجيرها إلى خارج الجغرافيا الأردنية.
انسحب المقاومون الفلسطينيون باتجاه الجنوب اللبناني وبخاصة في الجانب الشرقي منه، الجانب الذي أطلقوا عليه في ما بعد اسم «فتح لاند»، وانسحبت المقاومة الفلسطينية من الأردن بكل مؤسساتها، وأخذت تتحرك على الساحة اللبنانية كساحة وحيدة يمكن التحرك فيها بالنظر إلى مجموعة من الأسباب. لم يكن انتقال الثورة الفلسطينية إلى لبنان سوى فصل من فصول خطة تصفية الثورة الفلسطينية، وبالتالي فقد كان من أساسيات هذه الخطة تلك البروبغندا التي رسخها الإعلام الصهيو-أميركي بمشاركة بعض الإعلام العربي واللبناني، بأن الفلسطينيين يخططون لجعل لبنان وطناً بديلاً من فلسطين، وقد صاحب ذلك أيضاً تحريض مبرمج ومكثف على الوجود الفلسطيني، وقد تم في سبيل ذلك استغلال الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الثورة الفلسطينية، الأخطاء التي صبت في طاحونة المؤامرة على الثورة الفلسطينية.
أخذت العلاقة بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية تزداد توتراً، وليس دور أجهزة المخابرات الغربية و«الإسرائيلية» وبعض الدول العربية بعيداً من زيادة هذا التوتر مقدمةً لتوظيفه في إشعال الشرارة الثانية على الأرض اللبنانية.
كانت الخطة الموضوعة في أقبية الاستخبارات الأجنبية تقضي بأن يكون عام 1973 عام بداية تصفية الثورة الفلسطينية في لبنان، إلا أن حرب تشرين المجيدة وما ترتب عليها من تعزيز للقدرات العربية، أجّلا الموعد إلى وقت آخر، فكان 13 نيسان 1975 إثر استغلال مقتل جوزيف أبو عاصي في عين الرمانة، وثمة واقعة لم تأخذ حقها في التحليل وكذلك وضعها في السياق المطلوب، وهي اغتيال الشهيد معروف سعد في آذار 1975. انفجرت الحرب على الثورة الفلسطينية، تحت مسميات لبنانية وباللبنانيين أنفسهم، وكان مخطط هذه الحرب هنري كيسنجر قد أراد أن تشتعل النار على أرض لبنان ليحترق حطب المقاومة الفلسطنية بكامله.
كانت البروباغندا الصهيو-أميركية-عربية-لبنانية، تحاول إقناع الرأي العام اللبناني، بأن المسألة هي في أن الجبهة اللبنانية التي كانت آنذاك ذراع هذا المشروع السياسي والعسكري إنما تحارب من أجل منع الفلسطيني من أخذ لبنان وطناً بديلاً من فلسطين.
لقد أخذ كل فريق من فريقي الصراع الأساسيين في لبنان، يقارب النار الصهيو-أميركية من زاوية محاولة توظيفها في مشروعه السياسي، ولم يكن ذلك ليضير الأمريكيين، بدليل أن دين براون الموفد الرئاسي الأميركي كان يشجع الفريقين على الثبات على مواقفهما. إن الخطر الحقيقي على الثورة الفلسطنية آنذاك كان استمرار الحريق. راهن الأميركي واليهودي على أن ما أشعلاه من نار على الساحة اللبنانية كافٍ لحرق الحطب الثوري الفلسطيني بالكامل، ولما تبين لهما أن ما احترق من حطب الثورة لم يكن أساسياً، إضافة إلى عجز الوكيل المحلي القوات اللبنانية والجبهة اللبنانية عن الإجهاز الكامل على جسم الثورة، كان اجتياح عام 1982، حيث أتى الأصيل ليكمل ما عجز عنه الوكيل، وكان ثمرة هذا الاجتياح من الوجهة السياسية انتخاب بشير الجميل لرئاسة الجمهورية. رحلت الثورة الفلسطينية إلى أربع جهات الأرض، واستمرت النار بين اللبنانيين لترجمة الجهد «الإسرائيلي» ـ الأميركي سياسياً عبر اتفاق 17 أيار. وسقط 17 أيار وبقيت المجموعات اللبنانية تتقاتل حتى وافق العرب على استبدال الثمن «الإسرائيلي» المطلوب على الساحة اللبنانية وهو تدمير المقاومة وقد حصل، إضافة إلى تقسيم لبنان. عندما وافق العرب على إعطاء «إسرائيل» ثمناً يفوق التقسيم، عبر طرح مبادرة الأمير فهد بن عبد العزيز وإجراء قمة كازبلانكا في المغرب، جرى بما يشبه السحر، نقل النواب اللبنانيين إلى الطائف، وفرض اتفاق الطائف، الذي أسس لمناخ تصالحي مع «إسرائيل» كان يعبر عنه بالسلام.
لم تنطفئ النار، فثمة حطب آخر ينبغي حرقه، وهو المقاومة اللبنانية، التي جرت محاولات عديدة لخنقها، لنراجع تصريحات العماد لحود ومنذ عام 1993 ، وحيث أنها باءت بالفشل، تقدم اليهودي مباشرة وقام بعدواني 1993 و1996 ولم يستطع سحق المقاومة.
استمرت المقاومة، وزادت حاجة اليهودي لإشعال النار أكثر، وكانت محاولته المباشرة عام 2006 وأيضاً فشل، فراح يعد العدة لإشعال حريق من نوع آخر، هو الحريق السني- الشيعي، وقد أعد له العدة بخاصة على مستوى الإعلام، ولتتذكر ما قاله جيفري فيلتمان أمام مجلس الشيوخ الأميركي، أن أميركا دفعت خمسمئة مليون دولار لشيطنة حزب الله.
لم تتوقف أميركا و«إسرائيل» والدول العربية الدائرة بفلكهما عن النفخ بنار الفتنة السنية-الشيعية، ليس لأي سبب آخر، كما يتوهم السذج بل لإشعال الحريق الذي بدأوا به في عجلون عام 1970 مروراً بلبنان عام 1975 وحتى الآن.
إنها النار ذاتها، وإنهم الوافدون أنفسهم، وهو الحطب ذاته، والغاية ذاتها، «مرتا مرتا تقولين أشياء كثيرة والمطلوب واحد»، رأس المقاومة، مصدر القوة.
مشتبه من يظن أن النار ستنطفئ، ستبقى ناراً ملعونة تأكل أبناءنا واقتصادنا ومستقبلنا وتاريخنا وحضارتنا إلى أن تأكلها النار المقدسة، والنار المقدسة تستطيب أكثر ما تستطيب رأس الأفعى. فمن يشوي رأس الأفعى، وتسود نارنا المقدسة في هذا الوجود؟!