«ما ودّعك صاحبك»… طرقٌ لأبواب المدن… قليل من ألم فراقها وكثير من حبّ عوالمها

هبة جناد

شجرة متشعبة الأغصان طويلة الأوراق، تتدلى على الغلاف ذي اللونين الأبيض والأسود، توحي بألم صامت لا تنطوي عليه صفحات «ما ودَّعَكَ صاحِبُك» رواية صادرة عن دار النهضة العربية للكاتبة لينا كريدية .

يطالعنا في بداية كلّ فصل نصّ مقتبس من أحد الكتب المقدّسة لدى طوائف وأديان مختلفة، من أناجيل بوذا وبطرس ولوقا والقرآن، إلى مصحف رشّ وكتاب الجلوة الكتابان المقدّسان لدى الأيزيديين والريجفدا والبهاغافاد لدى الهندوس وكذلك مزامير داود. إضافة إلى نصوص لشعراء عرب وأكراد، جاعلةً إياها بمثابة عناوين قد لا تتوافق مضامينها مع ما تحتويه الفصول.

هي رواية سردية بامتياز، تخلو تقريباً من الحوار، وتعجّ بشخصيات تدرسها الكاتبة سيكولوجياً متناولةً الجانب الاجتماعي في حيواتها أيضاً، لتضعنا في مسبّبات سلوكها الذي يرويه أوس بطل الرواية ، ذاكرة إياها كحوادث عابرة تارة، أو إيغالاً في وصف الشخصيات لإضفاء الواقعية عليها تارة أخرى، وجاعلة منها في بعض الأحيان مبرّراً لسلوكها المستكين أو الشرس.

لا تترك كريدية تساؤلات لدى القارئ. هي تروي على لسان بطلها رحلاته من لندن إلى السعودية إلى أربيل مروراً بلبنان. ولا يبدو أنه في النهاية سيستقرّ في إندونيسيا. إذ ودّعتنا الرواية في غفلة منّا حيث انتهى به المقام، في ما يشبه أدب الرحلات، من دون أن تنتمي الرواية إليه. إذ إن الوقائع ليست حقيقية أو على الأقل ليس جلّها كذلك. كمٌّ من المعلومات الخاصة بأعراف منطقة ما وعادات أخرى، تقاليد طائفة معيّنة وعقائد شعوب مختلفة تنثر في جميع أرجاء الرواية، ينمّ بعضها عن رسائل تحاول الكاتبة من خلالها تحريض ذهن القارئ على التفكّر، كتلك التي يشير إليها حسن الأيزيدي صديق أوس في معرض حديثه عن معتقدات طائفته: «الأيزيديون مقتنعون بأنهم من سلالة آدم منفرداً لذلك هم أنقى البشر وبالتالي يحرّم عليهم الامتزاج بالسلالات الأخرى أي باقي البشر الذين هم سلالة آدم وحواء مجتمعَين بعد اتصالهما وتناسلهما وإنجابهما قابيل وهابيل». فيما يفكر «أوس كريدية»: «أنا لا تقنعني فكرة المفاضلة، فكم من عبارة أعرفها توهم بالتعالي، كشعب الله المختار أي اليهود وخير أمة أخرجت للناس ومقولات هتلر بحق الألمان بأنهم أفضل عرق آري وغيرها». وفي ما خلا ذلك، لا مفاهيم جدلية ولا أسئلة وجودية تؤرّق القارئ ولا عقدة ولا حلَّ. فهي ليست رواية درامية أيضاً، هي فقط توالي «مذكّرات» إن صح القول نعيشها مع أوس…

أوس، الشخصية المتردّدة والجريئة في آونة واحدة، والقوية والعاطفية كذلك، المغامرة والباحثة عن هدف لم نتعرّف ـ وكذلك هو ـ إليه. هو المسكون بالهواجس والكوابيس التي لا تفارقه في معظم لياليه. نراه مولعاً بالقراءة ويهوى فنّ الطبخ، متقناً وصف الخضار، مُسقطاً عليها صفات بشرية، جاعلاً منها معادلاً موضوعياً لشخصيات كثيرة صادفتها كريدية على أرض الواقع، ودرستها ولم تتّسع صفحات الرواية لتفرد لكلّ منها دوراً ووظيفة يؤديهما في النصّ. فاهتمام البطل بأنسنة الخضار لا يبرز إلا مزيداً من رغبة الكاتبة في إقحام كل أنواع البشر في نصّها من دون الخوض في علاقات عميقة مع كل منها، مكتفية بإبراز صفاتها وسلوكها المسبّبات والنتائج .

علاقات أوس بأصدقائه الذين يتعرّف إليهم في حلّه وترحاله، تبدو سطحية مقتصرة على جلسات ومناقشات وردود فعل. هي علاقات تحكمها الظروف. فهو في بيروت صديق عائش ومحمود وابراهيم، وتحكم حياتهم الرتابة، لا يغيّر منها سوى تقلّب الأحداث الأمنية والسياسية، أو الرجوع بالذاكرة إلى أيام الطفولة من دون أن تغفل الحرب الأهلية عن تشكيل جزء من ذاكرتها. وكذلك بدء الثورات العربية والحماسة الكبيرة لها، لا سيما من قبل البطل الشاب الحالم بالحرّية والكرامة. أحاديث الأصدقاء هنا تحاكي تماماً مناقشات الشباب في العالم العربي، خصوصاً في الدول التي اشتعلت فيها ثورات. فبين مؤيّد للحلم الكبير ومتروٍّ في الحكم وخائف من مستقبل ثوار أطغاهم حبّ السلطة فسرقتهم الفوضى، وبين من لا يأبه للأمر أصلاً. الكاتبة تصوّر بدقّة تراكم الصور وتراكبها وتغيّر المفاهيم في العقل الجمعي للشباب متابع الأحداث بدءاً بإرادة الإصلاح، ثم الشعور بالغبن نتيجة كبحها، وصولاً إلى تبرير العنف بل الاستمتاع به. لولا أن بطلنا مثقف يساعده وعيه في مراجعة النفس، فنراه يقول بداية: «كانت سعادتنا لا توصف ونحن نستمتع بمشاهد التعذيب والإعدام السريع، وحملنا التفاعل والانفعال بعيداً جداً، إلى أبعد من الفرح بالانتصار بكثير، فَرُحنا نحاول الحصول على المقطع لحظة تصويب المسدس إلى رأس القذّافي وإطلاق النار عليه… ما إن خمدت الحماسة وهدأت النفوس حتى واجهت نفسي، هل هذه هي حقيقتي؟ هل هذه هي ثقافتي التي أتغنى بها أنا؟… أحزن على نفسي، فلقد انجررت خلفها أو جررتها حيث لا طائل». ثم يعود ليخلص إلى أن: «تسونامي الدماء أفقدني حماستي القديمة للثورات… ثورة سورية هي الأكثر دموية، حصلت على عرش الوحشية بامتياز». الحرب تؤرّق أوس حتى السطور الأخيرة في الرواية، هو مثل كل مواطن يصل إلى قناعة بأن «الآلهة نفسها تخسر في الحروب».

أوس «اللاطائفي واللاعرقي واللاإثني»، لا يسافر إلى مدينة إلا ويذكر الطائفة الغالبة فيها، وعلى رغم حبّه الكبير لأصدقائه وذكره تفاصيل لحظات عاشها معهم وتأثر بها، إلا أنه لا ينسى أن يذكر طائفة كل منهم أو أن يلمح إليها. إذا كان النصّ مجموعة من إشارات تتعلق ببنيويته، فهل نفهم من الفكرة آنفة الذكر أن أوس أحب أصحابه ومواطنيه بغضّ النظر عن انتماءاتهم؟ وإذا غضّ النظر حقاً فلم ذَكَرها؟ أم أنّ في ذلك دلالة على تغلغل هذه المفاهيم اللامجتمعية في أبناء «مجتمعنا»؟ على أن أوس لا يبدي أيّ تأييد لأيّ مظهر من مظاهر الطائفية أو العرقية أو العنصرية، فهو أحب ليزا الإندونيسية، وشعر بالخجل عندما لفت نظره عصام الكردي صديقه في أربيل، إلى أن العرب يستعملون في لغتهم العربية المحكية كلمة «استكراد» للدلالة على الوضاعة والدونية وهذه عنصرية لفظية. وهو يعرض برضى أو ربما فخر أن لِاسم عائلته ثلاث روايات حول أصل نسبها: «تقول الرواية الأولى، إنهم قد أتوا من شبه الجزيرة العربية من قبيلة الكريدين، فهم عرب أقحاح. وفي رواية ثانية إن الأصل منحدر من سلالة صلاح الدين الأيوبي من ابنه المظفر، أي أنهم أكراد لا عرباً. أما الرواية الثالثة فتقول إن رجلاً بحاراً في الزمن الغابر قد أتى من جزيرة كريت اليونانية، وحين استقر به الأمر وعمل في مرفأ بيروت صار الناس ينادونه بالكريتي… ومن هنا جاء اسم العائلة»، وهو يشعر بالسعادة حقاً في أربيل عندما ينادونه بـ«كريدية»، وتعني «الكردي الصغير» في اللغة الكردية. وهنا يراودنا السؤال نفسه: هل للرجل اللاعرقي أن يبتهج بادّعاء أصل ليس متأكداً منه أمام أصدقائه الأكراد ليكون أقرب إليهم؟ أم أن ذلك إشارة من الكاتبة إلى عدم انسلاخ المرء في بلادنا عن هذه المفاهيم المهترئة مهما أعرض عنها؟

النساء في حياة أوس للّذة والجنس، حتى دانية وليزا لا نجد ما يدفعه إلى عشقهما والاستمرار معهما، هما فقط لتمضية الوقت بحكم إعجابه بكل منهما، وبفعل الشفقة أحياناً من دون أن تتطوّر إلى مشاعر عشق وولَه. ويبقى هو بانتظار حدث ما أو معجزة يغيّران واقعه ويلبيان طموحه، بانتظار حبّ «يهز كياني، ويغير خرائطي الجغرافية».

فضول البطل إلى المعرفة وغوصه في العقائد والمفاهيم الدينية والتشابهات والاختلافات، يخلصان به إلى نتيجة منطقية مفادها: «هو الفعل نفسه برؤى ونتائج مختلفة».

ما يميّز الرواية، سلاسة الانتقال بين الأماكن، فمن حرّ السعودية إلى برد أربيل إلى أجواء الصيف المرحة في إندونيسيا، وكذلك عدم تخييم جوّ من الملل على رغم عدم وجود محور جوهري يمثّل لبّ نصّ لا ينتمي على أيّ حال إلى الأدب العبثي أيضاً. إضافة إلى خلوّ الرواية من التشويق، ومع ذلك لا يشعر القارئ بالسأم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى