قالت له
قالت له: إذا هبّت رياح عصفك، ارتعشت شبابيكي. وإذا سكن ليلك، أغمضتُ عيوني وأنت على بعد مرمى حجر أو سفر طائرة منّي لا فرق.
فقال لها: عندما يصير النطق بالأحرف الأولى من الكلمات كافياً ليعرف الآخر نصّاً كاملاً واستنتاجاته، يكون موعد الرحيل قد صار قريباً. فقد خُتم كتاب البلاغة أو يكون كتاب جديد وصفّ دراسيّ جديد قيد البدء، لعله للرسم والتلوين أو للموسيقى والغناء، وقد آن أوان افتتاحه… والويل لمن تنتهي صفوفه باكراً قبل أن يُتمّ القراءة في كتاب الحياة، فيصير عليه تعلّم اللغة الجديدة من البدء، وربما لقراءة الكتاب القديم نفسه باللغة الجديدة كلّ مرّة… ويمضي العمر بالتعلّم وقد يصير خبير لغات، لكنه لا يكتشف الفرح، فيكون العمر عنده جمعاً لإعادات، لا تراكم اختبارات.
فقالت وهي تضع رأسها على كتفه: لا تدعني في أمواج عاتية، فأنا قد أبحرت وقرّرت العبور من ضفة البحر إلى ضفة أخرى. لكنني أحتاج سماعك وأنا في قلب المحيط… واصِلِ الكلام ولو ظننتني لا أسمع!
قالت له: أنا على أبواب رحلة طويلة، إنما كن على ثقة لو كنتَ في قطب الشمال وأنا في قطب الجنوب، فما بيننا من تواصل عابر للمسافات.
فقال لها: وما يسميه الناس والعشاق صبراً على صعوبة الوصل، نسمّيه فرح الوصل المختلف. فالروح تأتلف أحياناً حتى تعبر مسام الجسد، ويصير كفراشة تطير من موسم غلال إلى موسم فرح. لا مكان فيه لجوع ولا عنده حساب انتظارات. فيكتفي بالعبور كالنعاس في فكرة تملأ قواريره عطراً، ويرى ضوء الشمعة التي صاغ على ضوئها ديوجين حقيقته، واكتشف معها كوبرنيكوس معادلته، أشدّ إبهاراً من ضوء شمس ساطعة لم تفلح في مساعدة كسول في تمييز البياض من السواد.
فقالت: يرونه قليلاً ونراه كثيراً.
فقال لها قبل أن يتسدير ويمضي: لقد غرفنا من نهر الحياة زاداً يكفي لأجيال، فكيف لا يكفينا ما بقي من العمر القصير؟
قالت له: كليّ آذانٌ صاغية تفضل!
قال لها: ليس إلّا… يمكن أنه…
قالت: تبحث عن أجمل الكلمات لصوغ أقبح ا عذار. قل ما تريده مباشرة، إذ وجود لمعانٍ أقل إيلاماً أو جملٍ أكثر تنميقاً. فالنصلُ متى غُرس في القلب قتله، سواء كان بمقبض مرصّعٍ بالأحجار، أو مكسوّاً بالصدأ.
قال لها: أنت السبب صمتكِ القاتل أمام هفواتي، مسامحتك الدائمة لي بعد عثراتي. وجهك البشوش صباحاً وعيناك المليئتان لهفة مساءً. حاصر إخلاصُك أيامي وضيّق عليّ أنفاسي. أردت مزيداً من الحرية، قليلاً من التغيير، نوعاً من التوقّع… ، أنا السبب. كيف يمكن للإنسان أن يكون عدوّ نفسه ا ول، وا شد قساوة على ذاته؟ يهدم مملكة سعادته يخون نفسه وبيديه يقتل أجمل أحلامه ليطارد أشباحه المتخيَّلة! لمَ وصلنا إلى هنا؟ يغمرني الندم من رأسي إلى القدمين وتقفين كحجر الصوان بريق في العينين و جواب! لم أعرف كيف أحبك، تركتك ترحلين. عذراً لم أعرف كيف أحبك فتركتك ترحلين.
قالت له: اعتقدت أنّ الحبَ كفاحٌ مستمر وحلمت أنك لن تستردّ قلبك عندما يموت قلبي! ما أصعب أن يسرق ا نسان من وليفه إنسانيته. كل البدايات وردية تخيفني نهاية الطريق وألفاظ الوداع. ما أقسى عبارات الوداع. كشجرٍٍ يحترق من الداخل، كهوامش على الطريق نذوب ونُنسى.
رانية الصوص