العقوبات… ومصير المحادثات النووية

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

أوباما ماضٍ في سياسته الرامية إلى اجتراح حلّ سلميّ للملف النووي الإيراني، و«السداسية الدولية» يروقها هذا الحلّ، فيما تبدي دول أخرى خشيتها من الاتفاق الذي وُقّع عليه في لوزان، والذي يمهّد لاتفاقات مستقبلية أخرى. ومن هذه الدول طبعاً «إسرائيل»، التي تدّعي يومياً أنّ امتلاك طهران نشاطاً نووياً، من شأنه أن يهدّد وجودها. وهناك أيضاً المملكة العربية السعودية وغيرها من مشيخات الخليج.

تقريرنا التالي يتضمن ترجمة لثلاثة مواضيع. الأول تحليل شيّق كتبه غاريث بورتر عن المفاوضات حول النووي الإيراني. وكان محقاً في المسائل المالية المرتبطة بهذه المسألة إلى أبعد الحدود. ويقول: «الحلول السياسية ممكنة في الأيام المقبلة، ربما بصيغة مبادئ متوافقٌ عليها ضمن الإمكانيات والقدرات المتوفرة للتخصيب ولرفع العقوبات. لكن إدارة أوباما لن توقع الاتفاقية التي تسعى إليها في ظلّ قيود كميّة توافق عليها إيران ما لم يتوصل الفريقان إلى اتفاقية تفصيلية ونهائية لرفع العقوبات. وهذا لن يحصل ما لم تحقق دول الـ5+1 قفزة استثنائية نوعية من أسفل نقطة انطلاق هذه القضية».

أما التقرير الثاني، فيتناول ازدياد حدّة النقاش مع قادة دول الخليج العربية حول الاتفاق النووي مع إيران وتبعاته. والتقرير مأخوذٌ من صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، ويتطرّق إلى ما بدر من الخبير في شؤون المنطقة فالي نصر، الذي يعتبر أن ليس لدى إيران ما تخسره في حال استهدافها دول الخليج، فهي أنفقت معظم مدّخراتها على تطوير قدراتها العسكرية. أما «نيويورك تايمز» فتتساءل: «كيف بقرار الرئيس أوباما ونيته تحرير إيران من القفص؟ هل ستضع الدول الخليجية ثقتها المطلقة في ما سيتضمنه هذا الاتفاق وتنام على وسادة من حرير؟».

التقرير الثالث كتبه محمد سحيمي لموقع «Anti War»، وحلّل فيه تصاريح صحافيين أميركيين من أمثال دايفيد سانجر. ويقول سحيمي: « يتبجح كلّ من سانجر وبرود بأنهما وكيلان للاستخبارات الإسرائيلية في الولايات المتحدة الأميركية، متغافلين عن حقيقة عدم شرعية وقانونية تخريب برنامج إيران النووي وكذلك الحرب ضدّها، فضلاً عن إمكانية التسبب بخسارة الكثير من الأرواح البشرية في حال نشوب مثل تلك الحرب».

كتب غاريث بورتر:

مع التوصل إلى موعدٍ نهائيّ لحلّ سياسيّ للتوافق النووي النهائي الشامل والذي يبعد أياماً قليلةً فقط، فإن مصير المحادثات يعتمد الآن على سدّ فجوة بين دول مجموعة «5+1» الغربية وإيران لإلغاء العقوبات.

أضحت القضايا المرتبطة ببرنامج إيران النووي الآن أقرب إلى الحلّ، في ما عدا بعض القضايا المرتبطة بالبحث والتطوير. أما بالنسبة إلى تخفيف العقوبات، فإن كلّ الدلائل تشير إلى أن الفريقين لم يحرزا تقدّماً يُذكر منذ تشرين الثاني الماضي حيث كانت وجهات النظر متباعدة للغاية

يكمن جزء كبير من هذه المشكلة في مقاربة الغرب قصيرة النظر لهذه القضايا. إذ تتمسّك إدارة أوباما بالاعتقاد بأن السبب الوحيد الذي يدفع إيران نحو التفاوض هو ذلك العبء الذي ترزح تحته بسبب العقوبات المفروضة عليها، في الوقت الذي فشلت فيه في فهم عمق الالتزام الإيراني لإزالة العقوبات والذي يشكل مصدر فخرٍ واعتزازٍ وطنيّ، وقدرة على تحقيق مستوى أعلى من التنمية الاقتصادية.

وفي الواقع، فإن استراتيجيي الأمن القومي الإيراني، عملوا على مدى عقدين من الزمن على مراكمة كميات كافية من أوراق المساومات بهدف حثّ الولايات المتحدة للتفاوض على إنهاء العقوبات المفروضة ضدّهم منذ عهد إدارة كلنتون. وقد أخبرني محلّل إيراني مستقلّ منذ عدّة سنوات أن كبار مسؤولي الأمن القومي تداولوا في محادثاتهم الخاصة بين عامي 2003 و2005 أن إيران كانت تنظر إلى مخزون اليورانيوم المخصّب لديها، على أنه ورقة ضغط ومساومة على المفاوضات النهائية مع الإدارة الأميركية.

لن يتخلّى المفاوضون الإيرانيون الآن عن ورقة المساومة هذه من دون أن يحرّروا أنفسهم من عبء العقوبات. غير أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يبذلوا أيّ جهدٍ لإخفاء حقيقة أنهم ينوون الحفاظ على «هندسة العقوبات» تلك لسنوات عدّة قائمة بعد بدء تنفيذ الاتفاق. وفي تشرين الثاني الماضي، شرح مسؤولون في الإدراة الأميركية، أن العقوبات يمكن أن تُلغى فقط إذا تحققت الوكالة الدولية للطاقة الذريّة من أن طهران تلتزم تطبيق بنود الصفقة على مدى فترة طويلة من الزمن، وذلك من أجل الإبقاء على هيبة هذا الاتفاق.

وفي تبنّي هذه السياسة، تتبع إدارة أوباما بدقة الأقسام التي حدّدها المدير التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات FDD مارك ديوبويتز، إذ يسير المحافظون الجدد في تفكيرهم جنباً إلى جنب مع المصالح «الإسرائيلية». فديوبويتز هو المهندس الحقيقي للعقوبات ضدّ إيران والتي مرّرها الكونغرس أواخر عام 2011، وكان قد دعا في دراسة نشرت في حزيران 2014 إلى التسلسل الدقيق في تخفيف العقوبات المرتبطة بتطبيق إيران التزاماتها بموجب الاتفاق.

بدا أن عدداً من المسؤولين، متفقون مع ديوبويتز في شرح موقف الدول «5+1» الغربية، أي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إضافة إلى ألمانيا، من الجولة الحالية للمحادثات بإصرارهم على إمكانية تعليق العقوبات فقط لا رفعها، كي يستطيعوا العودة إلى الخلف في حال وقوع انتهاكات إيرانية، وشكوك قد تستمرّ على مدى سنوات.

يبرّر المسؤولون الأميركيون نشر مسألة رفع العقوبات على مدى سنوات مضت، بالاتفاق على بعض المعالم التي يفترض بهم ربطها بتفكيك منشآت نووية معيّنة، وهذا سيتطلّب منهم وقتاً طويلاً للتنفيذ والتحقيق. ومع ذلك، فإن المشكلة هي في عدم موافقة إيران على تفكيك أيّ منشأة نووية، أو خفض عدد أجهزة الطرد المركزي لديها، فضلاً عن أن معظم الالتزامات الأخرى التي سيقومون بتنفيذها قد تستغرق أشهراً إن لم يكن سنوات. ومن شأن هذ الواقع أن يؤكد أن حجم رفع العقوبات المقبلة قد يحتّم تنفيذ الاتفاق أسرع مما كان متوقّعاً.

يقترح التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تعليق العقوبات بدلاً من إنهائها. وستكون عملية إعادة فرض عقوبات الغاز والنفط التي تبنّاها الاتحاد الأوروبي، والتي قيل يوماً أنها عُلّقت، أكثر صعوبة. لكن عندما يتعلّق الأمر برفض إنهاء العقوبات في اتفاق مع إيران يُطرح للمرة الأولى من قبل المسؤولين في إدارة أوباما عام 2012، يجادل كلٌّ من بول بيلار، ضابط الاستخبارات القومي الأميركي السابق للشرق الأدنى وجنوب آسيا، وبيتر جينكيز الممثل البريطاني الدائم لوكالة الطاقة الذريّة، أن إعادة فرض العقوبات ستكون أسهل من الحصول على اتفاق متعدّد الأطراف في المقام الأول.

ووفقاً لمصدر أوروبي دبلوماسي مطّلع ومشارك في المناقشات مع دول «5+1» حول هذه المسألة، فقد أوضح منذ بضعة أسابيع، أن هذه المجموعة كانت تخطط لكسر الجمود الذي يعتري بعض الأسس الخارجية بقيمة 100 مليار دولار لم تكن متوفرة لدى إيران بسبب العقوبات المصرفية المفروضة ضدها، تماماً كما حصل أثناء رفع العقوبات الأولية، ولتنفيذ بذلك بأسرع ما يمكن. يبدو هذا عرضاً مغرياً جداً، غير أن كلفة قبول إيران به ستكون مرتفعة للغاية. سيعني ذلك أن إيران سترضى بالإبقاء على «هندسة العقوبات» في مقابل ذلك.

لكن، ما تخشاه إيران من قبول مثل هذه الصفقة؟ مع استمرار نظام العقوبات ستبقى الاستثمارات الأجنبية المحتملة بعيداً عن إيران بسبب خوفها من الولايات المتحدة الاميركية. هذا ما أوضحه مسؤول إيراني سابق في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات، علي فايز في كانون الأول الماضي، «طالما أن قرار العقوبات هذا يبقى ساري المفعول، سيبقى هروب الاستثمارات الأجنبية من البلاد على حاله». وبعبارة أخرى، فإن إيران لن تتحرّر من ضغط الولايات المتحدة على الشركات الأجنبية حتى تنتهي مدّة قانون العقوبات المفروضة عليها.

مزيد من الشك، يتمحور حول موقف «السداسية الدولية» من العقوبات، باقتراحها أن تخفيف العقوبات يعتمد على الأحكام حول ما إذا كانت إيران قد امتثلت لالتزاماتها بموجب الاتفاق الذي ستُدلي به الوكالة الدولية للطاقة الذريّة. وهذه الوكالة التي كانت فريقاً مستقلاً وسياسياً محايداً في سياسة الانتشار النووي تتصرّف على أنها إحدى الأذرع العسكرية للسياسة الأميركية منذ سنوات مضت. وهذا يُبقي إيران عرضةً للاشتباه وفقاً للوثائق الاستخباراتية التي تقدّمها «إسرائيل» منذ البداية والتي لم يتمّ التأكد من صحتها، بل قد ثبت في كثير من الأحيان أنها ملفقة.

والأسوأ من ذلك، أن إدارة أوباما وحلفاءها يقولون أن هناك آلية لتخفيف العقوبات إلى حين استيفاء إيران لشروط الوكالة المستندة إلى تلك المعلومات الواردة في تلك الوثائق المشكوك بصحتها، وإلى حين اقتناعها بعدم وجود مواقع غير معلنة أو مواد نووية في إيران. وقد ذكرت الوكالة الدولية للطاقة الذريّة في إشارة منها إلى المجموعة الدولية لإدارة الأزمات، أن الأخيرة قد تستغرق أكثر من عشرة سنوات. وبمعنى آخر، فإنه قد يتمّ تجاهل رفع العقوبات على أساس تحقيقات مسيّسة من الواضح أنها صمّمت خصيصاً ضدّ إيران.

تدرك إيران جيداً الخلفية الكامنة وراء هذا العرض المغري، الذي لن يحلّ مشكلاتها مع العقوبات. علماً أن الإيرانيين لا يرفضون فكرة تعليق العقوبات في ظل ظروف معينة، لكنهم يصرّون على أن أي امتيازات تنازلية من قبل إيران، لا بدّ أن تأتي في مقابل إنهاء العقوبات عليها.

إذاً، الحلول السياسية ممكنة في الأيام المقبلة، ربما بصيغة مبادئ متوافقٌ عليها ضمن الإمكانيات والقدرات المتوفرة للتخصيب ولرفع العقوبات. لكن إدارة أوباما لن توقع الاتفاقية التي تسعى إليها في ظلّ قيود كميّة توافق عليها إيران ما لم يتوصل الفريقان إلى اتفاقية تفصيلية ونهائية لرفع العقوبات. وهذا لن يحصل ما لم تحقق دول الـ«5+1» قفزة استثنائية نوعية من أسفل نقطة انطلاق هذه القضية.

الاتفاق غامض

كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية:

لهذه الأسباب على السعوديين الترحيب بالصفقة مع إيران. نحن في وسط جدل كبير بسبب الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني مع الغرب، واستباقاً لقمة «كامب ديفيد»، التي قرر الرئيس الأميركي باراك أوباما عقدها، يزداد النقاش حدّةً مع قادة دول الخليج العربية حول الاتفاق وتبعاته.

آخر المبشرين بهذا النقاش، هو فالي نصر، خبير في شؤون المنطقة، كاتب، وأستاذ علوم سياسية، ومستشار لعدد من الدوائر الرسمية في واشنطن. وكان قد كتب في «نيويورك تايمز» مستغرباً لماذا لا يرضى العرب على الاتفاق الإيراني – الغربي الذي يَصبّ في مصلحتهم؟

يؤمن فالي بأن اتفاق لوزان سيساهم في دمج إيران في الاقتصاد العالمي، ما يكفل تقييد سياسة حكومة طهران في المنطقة وسلوكها. وينتقد نصر المنطق المعاكس الذي تعمل الدول العربية من خلاله التي تعتقد أن إيران هي المسؤولة الرئيسية عن عدم استقرار بلدانهم، وأن عدوانيتها غير قابلة للعلاج. ويرى أن الدول العربية تلوح أمامها فرصة عظيمة للتفرغ لتنمية اقتصاداتها، التي تمثل التحدي الحقيقي لها، مستفيدة من التزام الإيرانيين بالاتفاق.

يتوافق رأي نصر تماماً مع ما أدلى به الرئيس الأميركي باراك أوباما في مقابلته مع توماس فريدمان من أن العرب يلقون بالملامة على جارتهم إيران، فيما الخطر عليهم داخلي.

إذاً، هل نحن مصابون بمرض الارتياب من إيران، أم أن السيد نصر مجرد بائع سيارات مستعملة، يظن أنه قادر على إقناعنا بما فشلت الإدارة الأميركية في تسويقه؟

أولاً، لسنا في حالة جزع من الاتفاق المقبل، بل في حالٍ من الغضب. تمنّى العرب ألا يهتم أوباما فقط بتعطيل قدرات إيران النووية والسكوت عن سياستها وسلوكها العدواني. إيران ليست كوبا، ذلك البلد الشيوعي العجوز، الذي تنحصر طموحاته في بيع السيجار والسياحة للأميركيين، والذي زال خطره بانهيار الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينات. فإيران في الواقع – تشبه كوريا الشمالية، تلك الدولة المؤمنة بالقوة والمواجهة واعتماد المراوغة. إنه ليس مرض ارتياب، بل سجلٌّ طويل من تبني إيران ورعايتها للعنف في المنطقة.

يفاخر المسؤولون الإيرانيون علانية بقوة ميليشياتهم، ورجالها المشاركين في القتال في سورية والعراق، وهي من رعى ودعم المتمردين الحوثيين في اليمن طيلة سنوات، وهذا ما أكده ذلك وزير الخارجية الأميركي جون كيري نفسه. فاليمن لم يُعانِ أصلاً من حروب إثنية اليمن يختلف اختلافاً جذرياً عن الصومال أو لبنان، فهو بقي بلدٌ يتعايش فيه سنّته وزيديته في سلام، أما نزاعاته القبلية فلطالما كانت محدودة، واقتصرت على الحوثيين مع الحكومة المركزية، أما السنّة والزيديين فلم يدخلوا طرفاً إلا منذ السنة الماضية!

وهكذا نستنتج أن المشكلة مع إيران ليست طائفية، وإن كانت تتبنى علانية ـ وتموّل ـ التطرف الشيعي مثل «حزب الله» اللبناني، غير أنها تموّل أيضاً جماعات مسلحة سنيّة كـ«حماس» و«الجهاد الإسلامي». لكننا ـ في الوقت عينه ـ نمتلك بين أيدينا سجلاً إيرانياً مدّته ثلاثين سنة من رعاية الفوضى في منطقة الشرق الأوسط، والمفارقة أن هذا النشاط العدواني تضاعف خلال مفاوضاتها الأخيرة مع مجموعة «5+1» الغربية.

ويتابع نصر مقترحاً أن تستفيد دول الخليج من سنوات التجميد النووية الإيرانية للالتفات إلى تطوير اقتصاداتها بدلا من الانخراط في مكافحة إيران، ويُبيّن لنا ذلك من خلال دراسة جيوسياسية قام بها إلى ضفتي الخليج والتي تظهر بوضوح طبيعة النظامين الجغرافية والتي تشبه تماماً معالم الحدود الفاصلة بين الكوريتين الشمالية والجنوبية فعلى الضفة الشرقية، حيث إيران، تطالعنا شواطئ مهجورة، وجبال مقفرة، ومعسكرات حربية كبيرة. بينما تقابلها على الضفة الشرقية، ست دول خليجية، حديثة مزدهرة، فيها مجمّعات صناعية بتروكيماوية عملاقة، ومصافي بترول، ومدن صناعية متعددة.

يخلص فالي نصر إلى القول أنه ليس لدى إيران ما تخسره في حال استهدافها دول الخليج، فهي أنفقت معظم مدّخراتها على تطوير قدراتها العسكرية. فكيف بقرار الرئيس أوباما ونيته تحرير إيران من القفص؟ هل ستضع الدول الخليجية ثقتها المطلقة في ما سيتضمنه هذا الاتفاق وتنام على وسادة من حرير؟

ينحصر الاتفاق محصور في منعها من التسلّح النووي لعشر سنوات على الأقل، غير أنه لا يتطرّق إلى نشاطاتها العدوانية الأخرى التي هي أخطر بالنسبة إلى العرب فالتحديات مع إيران ليست فقط عسكرية إنما أمنية أيضاً. وهذا يشبه تماماً توقيع دول الغرب لاتفاق نوويّ مع كوريا الشمالية التي ستسحب قواتها من منطقة الحدود العازلة منزوعة السلاح، لكن هل يمكن أن نثق بأن كوريا الشمالية لن تزحف على سيؤول في ظلّ عدم وجود اتفاقية دولية تمنعها من القيام بذلك؟

كان لا بدّ لذلك الاتفاق أن يتضمن شروطاً تعالج جميع هذه التوترات وتستأصلها. كمثل طمأنة إيران أنه لن يحدث عدوان عليها من قبل «إسرائيل»، التي تدّعي دوماً أن تطوير إيران قدراتها العسكرية التقليدية وكذلك النووية هو هاجسها، وكذلك منح هذا الضمان لدول المنطقة العربية المحاذية لإيران، والتي تعتقد بدورها تعتقد أن التسلّح الإيراني هدفه دولها.

عندما تفاوضت الولايات المتحدة مع حكومة بيونغ يانغ على برنامجها النووي عمدت إلى إشراك دول المنطقة المعنية هناك، بِمَا فيها اليابان وكوريا الجنوبية، أما في الملف الإيراني، فقد وُضعت كل دول المنطقة في الظلام، فلم تكن تعرف شيئاً عن بنود هذا الاتفاق سوى أنباء مسربة في الصحافتين «الإسرائيلية» والأميركية!

برنامج إيران النووي و«نيويورك تايمز»

كتب محمد سحيمي لموقع «Anti War»:

عندما بدأت إدارة جورج دبليو بوش التحضير لاجتياح العراق من خلال بيع أكاذيبها ومبالغاتها وترويجها، وجدت دعماً كبيراً لها في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. دافع طوماس فريدمان بشدّة عن هذا الغزو، واعداً بدحر نظام صدّام حسين، وازدهار الديمقراطية في العراق. كذلك ادّعى فريدمان أن الديمقراطية العراقية ستشكل نموذجاً يُحتذى لكامل العالم العربي في الشرق الأوسط. وبعد مرور اثنتي عشر سنة على ذلك الاجتياح ومقتل المئات والآلاف من الناس، ندرك الآن كم كانت تنبؤات فريدمان «دقيقة»!

وبالمثل، فإن تصريحات كثيرة، ومبالغات وتلميحات ومضاربات، تتفشى حالياً في خصوص برنامج إيران النووي، ومرة أخرى أيضاً، عبر «نيويورك تايمز»، التي تلعب دوراً قيادياً في نشر كلّ هذا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر الصحافي مايكل غوردن الذي لم يتلقَّ أيّ أجرٍ مقابل مساهماته الهستيرية والكاذبة المرتبطة بالعراق، وكذلك دايفيد سانجر، صحافي سابق في الصحيفة ذاتها. وسانجر ـ على وجه الخصوص ـ كتب تقارير خاصة في شأن برنامج إيران النووي، أو في شأن المحادثات بينها وبين دول الـ«5+1» الغربية، أظهر فيها أكاذيبه تلك على أنها حقائق ثابتة لا مجال للشك في صحتها، وقد عاونه في مهامه تلك كلّ من ويليام برود وستيفن إيرلانغر إلى جانب غوردون بطبيعة الحال.

وفي المقابل، يدعم موقفَ إيران اثنان من المدراء السابقين العاملين لدى الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، وهما هانس بليكس، الذي عبّر عن إيمانه الراسخ أن هناك «الكثير من المعلومات المغلوطة» حول جهود تسلّح إيران النووي. وكذلك خلفه محمد البرادعي، الذي شكّك أيضاً في صحة بعض الوثائق التي سُرّبت حول النشاط النووي الإيراني. غير أن برود وسانجر لم يلقيا آذاناً صاغية لكلّ هذه الشكوك، بل تشبثا بمواقفهما التصعيدية.

وفي تقريرهم الصادر في 14 آذار 2015، لم يعمل كلّ من برود وسانجر فقط على تكرير ادّعاءاتهما المزعومة حول معارضة بعض القادة العسكريين الإيرانيين للمفاوضات، بل ذكرا مزاعم أخرى حول برنامج إيران النووي. أما تقريرهما الأخير الذي نُشر في 21 آذار 2015، فقد أوضحا فيه: «سيبقى الضغط الإيراني الداخلي لأجل الاستمرار بإحراز تقدّم بطيء على البرنامج النووي أساساً ومرتكزاً لطموحات فيلق الحرس الثوري الإيراني».

يتبجح كلّ من سانجر وبرود بأنهما وكيلان للاستخبارات «الإسرائيلية» في الولايات المتحدة الأميركية، متغافلين عن حقيقة عدم شرعية وقانونية تخريب برنامج إيران النووي وكذلك الحرب ضدّها، فضلاً عن إمكانية التسبب بخسارة الكثير من الأرواح البشرية في حال نشوب مثل تلك الحرب.

من أكثر الأسباب التي تجعل سانجر وزملاءه متعطشين للحرب ضدّ إيران، قربهم من «صقور واشنطن» الذين يتمتعون بسجلّ طويل وحافل من العدائية لإيران ومعارضة برنامجها النووي. أحد هؤلاء هو غاري ساموري ـ رئيس الجمعية المعادية لإيران والمؤيدة لـ«إسرائيل» ـ والذي رفع دعوى بتهمة التشهير ضدّ رجل الأعمال اليوناني فيكتور ريستيس. وقد تدخلت إدارة أوباما مباشرةً باعتبار هذه الحالة تساهم في الكشف عن عدد من الحالات السريّة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.

«صقرٌ» آخر من واشنطن يُدعى مارك دوبويتز ـ كاتب المقال أعلاه ـ هو المدير التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، مؤيدٌ لـ«إسرائيل»، ومعادٍ لإيران، ومن ضمن المجموعة الهادفة إلى بثّ الدعاية المناهضة لإيران في جميع وسائل الإعلام العالمية.

إن الطريقة الوحيدة التي أستطيع فيها تفسير ما يقوم به هؤلاء الصحافيين، القول أنهم لا يريدون الخوض في أي اتفاقية نووية مع إيران، ما لم تستلم هذه الأخيرة وتتخلى كلياً عن بنية تحتية نووية. غير أن هذا يستحيل أن يحصل، لذلك على هؤلاء الصحافيين ألا يكتبوا وألا ينشروا فهم يسيرون وفق أجندة خاصة بهم، فإذا كانوا يريدون حرباً غير شرعية ودماراً شاملاً في الشرق الأوسط، ومن إيران هذه المرة، فلْيعلنوا عن ذلك صراحة.

غاريث بورتر هو محلّل تاريخي وصحافي متخصص بسياسة الأمن القومي الأميركية، حائزٌ على جائزة غيلهورن البريطانية للصحافة عام 2011 عن عدد من المقالات حول الولايات المتحدة والحرب على أفغانستان. صدر كتابه الجديد بعنوان:« الأزمة المصطنعة: القصة غير المرويّة حول المخاوف النووية الإيرانية».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى