الصحافة الورقية الأردنية… أزمة سببها ثالوث: الدولة والضمان الاجتماعي وتطوّر الإعلام الإلكتروني
محمد شريف الجيوسي
يتردّد أن عدداً كبيراً من الصحافيين الأردنيين يسعون إلى تنظيم مسيرة في ساحة المسجد الحسيني تحت عنوان «إسقاط حكومة عبد الله النسور»، وهو ما دعا إليه حراك صحيفة «الرأي»، مُوجّهةً انتقادات لاذعة للحكومة على صدر صفحتها في سابقة هي الأولى في تاريخ الصحيفة التي تعتبر لسان حال الحكومات المتعاقبة.
وكانت صحيفة «الرأي» الأردنية، إحدى أهم صحيفتين يوميتين أردنيتين، قد بدأت منذ عدة أيام بالتوقف عن نشر أخبار رئيس الحكومة الأردنية عبد الله النسور، فيما أبرزت أخبار آخرين من رؤساء الحكومات السابقين وانتقاداتهم.
وعقّب مستشار التحرير في صحيفة «الدستور» الأردنية جمال العلوي الصحيفة الأقدم في الأردن، على قرار الحكومة إعفاء مدخلات الإنتاج في الصحف اليومية من الجمارك لمدة سنتين، ورفع ثمن الكلمة الواحدة للإعلانات الحكومية إلى 250 فلساً بدلاً من 100 فلس، والسماح للوزارات والمؤسسات الحكومية برفع سقف اشتراكاتها في الصحف إلى 100 في المئة، بأن هذه القرارات على أهميتها غير كافية لتخليص الصحف الورقية الأردنية من أزمتها، فهي ستوفر على الصحف اليومية فقط ما يعادل 900 ألف دينار سنوياً، فيما أزمتها تفوق ذلك بكثير، وثمة حاجة ملحّة لمعالجات جذرية.
وقال العلوي إن الصحف اليومية تستهلك من الورق ما بين 1 ـ 1.5 مليون دينار سنوياً، وتبلغ قيمة رواتب جريدة «الرأي» نحو 400 ألف دينار شهرياً، فيما تبلغ في «الدستور» نحو 200 ألف دينار شهرياً، وعلى رغم تسريح نحو 40 في المئة من موظفيها واستقالة عدد آخر، لم تتمكن للشهر الخامس على التوالي من صرف رواتب المتبقين.
وفنّد العلوي قول الحكومة بأنها لا تتدخل في الشؤون الداخلية للصحيفتين الأبرز، موضحاً أن الحكومات هي التي تعيّن مندوبي مؤسسة الضمان الاجتماعي في مجالس إدارتيهما، وتمارس من خلالهم تعيين رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير والمدراء العامّين. وبالتالي سياسات التحرير والرأي. ففي «الدستور» حالياً، يمثل الضمان الاجتماعي بخمسة أعضاء في مجلس الإدارة الذي يبلغ عدد أعضائه 9 أعضاء، وبالتالي فإن الحكومة تهيمن على قرارات مجلس الإدارة، وهذا يفاقم الأزمة في الصحيفة، ويجعل منها بوقاً للحكومة، ما ينزع ثقة القارئ بها ويقلص حجم الإعلان بالتالي فيها، وهذه الهيمنة تنطبق أيضاً على مجلس إدارة «الرأي».
وقال العلوي إنّ حلّ مسألة هيمنة الحكومة على مجلسَي إدارة الصحيفتين «الرأي» و«الدستور»، يتعلق ببيع الضمان الاجتماعي حصتيهما في الصحيفتين إلى القطاع الخاص، الذي سيجد الحلول المناسبة للخروج من الأزمة، ومنها ألا تكون الصحيفتان بوقاً لتسويق الحكومات المتعاقبة وبالتالي تستعيد الصحيفتان ثقة القارئ الذي سيُقبل على اقتناء الصحيفتين، ما يعيد ثقة المعلن بأهمية الإعلان فيهما.
وعرض الإعلامي الأردني ماجد القرعان، للدور السلبي لمؤسسة الضمان الاجتماعي والحكومات المتعاقبة على الصحيفتين، قائلاً إنهما شكّلتا «الكعكة طيّبة المذاق»، للإرضاء والتنفيع على حساب تجويد مسيرة الصحيفتين وتطويرها، من حيث تعيين رؤساء مجالس الإدارة وأعضاء مجالسهما وكبار الموظفين فيها، وتصنيع كتّاب المقالات برواتب ومكافأت خيالية، إلى جانب مساهمات بعض الإدارات التي تعاقبت عليها في توسيع «ثوبها» من جهة مستوى الراواتب والامتيازات والتعويضات، حتى أصبح العمل في صحيفة «الرأي» تحديداً مبتغى الكثيرين، ولا أكتم سرّاً هنا ما حصل عليه البعض من تعويضات نهاية الخدمة التي زادت عن ربع مليون دينار لشخص واحد، وحصول العشرات على رواتب تقاعدية عالية من الضمان الاجتماعي تجاوزت بالنسبة إلى البعض مبلغ خمسة آلاف دينار شهرياً، إلى جانب صرف رواتب الـ15 و الـ16 والـ17، وتوزيع الاسهم على العاملين فيها.
وتساءل القرعان عمّا جناه صندوق الضمان الاجتماعي من ذلك، وعن الاسس المعتمدة من قبل مجالس الإدارة المتعاقبة على إدارة مؤسسة الضمان الاجتماعي في تسمية ممثليها بمجلسَي إدارة الصحيفتين وفي مجالس إدارات مؤسساتٍ وشركاتٍ أخرى يساهم فيها الصندوق.
وطالب القرعان بمزيد من الخطوات «عمّا قرّرته الحكومة»، والتي تتمثل بوضع حدٍّ للتدخلات في إدارتها والوصاية عليها إلى جانب معالجة ما تسببت به الحكومات السابقة من إخلال في إدارتَي الصحيفتين، والمسارعة إلى إجراء هيكلة لتتكيف الصحيفتين مع مواردهما وإمكاناتمها إلى جانب تطوير أدوات عملها المهنية لتنسجم مع معطيات العصر الرقمية. وعلى سبيل المثال استثمار الزائد عن حاجتها من المباني والعمل على إنشاء إذاعة أو قناة تلفزيونية، وإجراء تصويب داخلي بالنسبة إلى من يستغلون عملهم فيها لتسيير أعمال وأنشطة خاصة بهم.
يذكر أن الصحيفتين تسابقتا في السنوات الأخيرة في تسويق مواقف الحكومات المتعاقبة، ما أضرّ بهما، فيما كان الأمر قبل ذلك يقتصر على انفراد إحداهما بذلك، فيما اتخذت الأخرى خطاً مختلفاً نسبياً ـ وقد أفقد هذا التسابق الصحيفتين مزاياهما النسبية لدى القارئ والمعلن معاً. إلى جانب جملة أسباب أخرى، منها ما نجم عن تدخل الحكومات من خلال ممثلي الضمان الاجتماعي في مجالس الإدارة.
ومن أسباب الأزمة، أن صحيفة ورقية يقال إنها تتلقى الورق مجاناً، قامت بأعمال المضاربة على أسعار الإعلان المتعارف عليه بين الصحف اليومية، ما اضطر الصحف الأخرى إلى تخفيض الأسعار الإعلان أيضاً، مع وجود صحف أسبوعية بحت إعلانية منافسة، ومواقع الكترونية حازت حصةً هي الأخرى من سوق الإعلان، كل ذلك قد يستوجب توصل الصحف اليومية والأسبوعية والإعلانية المتخصصة إلى «ميثاق إعلاني» ملزم، ينعكس إيجابياً على الجميع، ومن بعد إيجاد صيغة اتفاق مع المواقع الإلكترونية بالتنسيق مع الجهة المرخصة لها «هيئة الإعلام».
لقد شكلت الصحيفتان خصوصاً، والصحف الورقية الأردنية عموماً، على مدى عقود، أحد مصادر الخزينة الأردنية من خلال ما يفرض على مدخلات الإنتاج من ورق وحبر وآلات ومواد أخرى، وما تنفذ من أعمال تجارية بعضها من خارج الأردن، وشغّلت على مدى عقود آلاف الصحافيين والفنيين والإداريين، فساهمت في تخفيف معدلات البطالة، وحملت «رؤية» البلد وصوته في القضايا العامة إلى الخارج. فليس معقولاً أن يجري التخلي عنها في ظرف باتت فيه الصحافة الورقية مستهدفة عموماً، حتى مع وجود ظروف طبيعية لاستمرارها في دول العالم، إذ يجري تغطية احتياجاتها كلياً في غالبية الدول من مدخلات الإنتاج باعتبارها أحد الرموز الوطنية للدول، ولا ينبغي التعامل معها، كمجرد شركات تجارية أو استثمارية بحتة.
وإضافة إلى ما سبق، فإن قرار الحكومة الأردنية إعفاء الصحافة الورقية من مدخلات الإنتاج، حُدّد بسنتين اثنتين فقط، ولا يتيح الطمأنينة مستقبلاً، كما انه تجاهل الصحافة الأسبوعية التي تعاني من ظروف أشد قسوة، خصوصاً ذات التوجهات القومية المعارضة، إذ تحاربها مؤسسات الإعلان ومعها المعلنين، والثغرة الثالثة في قرار الحكومة أنه لا يتضمن الأعمال الفنية والتجارية التي تنفذها المؤسسات الصحافية كطباعة الكتب والدوريات وغير ذلك، وهي الأعمال التي تساعد الصحف في الوقوف على أقدامها.
إن تراجع أهمية الصحافة الورقية عموماً، يتصل بأسباب أخرى أيضاً منها: تطور الإعلام الإلكتروني والفضائي، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وأجهزة الجوال التي يمكن من خلالها تلقي الأخبار أولاً بأول، وبكلفة أقل اشتراكاً ونقلاً، ما جعل المنافسة شديدة ومرهقة بالنسبة إلى وسائل الاعلام الورقي.
لكننا نرى أن هذا التراجع كأي تراجع ناجم عن ظهور موضة أو صرعة ما سرعان ما تخبو أو تتراجع أمام ما هو عريق وراسخ في الذاكرة الوطنية والشعبية. فالانبهار بمستجدات وسائل الإعلام سيتراجع ويتخذ موقعاً طبيعياً ليس أكثر، بعد فترة زمنية متوسطة المدى أو أدنى، وستعود الصحافة الورقية إلى احتلال موقعها الذي لم تفتقده تماماً.
يرى البعض أنّ أزمة الصحافة الورقية الأردنية تبدو وكأنها أزمة «متعمدة» يراد منها «دفن» هذه الصحف وشراء موجوداتها من مقرات ومطابع، ثمّ استخدامها لمشاريع مختلفة أو إعادة خصخصتها ثمّ تأسيس ورقيات جديدة بمقاييس ومواصفات تلائم الدافعين بهذا الاتجاه ممن يمتلكون القرار ربما، والمال.
يذكر أن الصحيفتين الأعرق في الأردن «الدستور» وأُسّست قبيل هزيمة حزيران 1967 من اندماج جريدتَي «المنار» و«فلسطين». وأُسّست الرأي مع مطلع سبعينات القرن الماضي، وكان وراء تأسيسها رئيس الوزراء الأسبق وصفي التلّ، والتي بلغت أرباحها قبل سنوات نحو 80 في المئة، وهما الأبرز معاناة من هذه الأزمة.
وكانت نقابة الصحافيين الأردنيين قد رحّبت بقرار الحكومة المشار إليه في مقدمة هذا التقرير، ودعمت قبل ذلك مطالب منتسبيها في ورقيتَي «الدستور» والرأي»، بحجب أخبار الحكومة، وقبلهما دعمت النقابة منتسبيها في ورقية «العرب اليوم» اليومية، التي توقفت عن الصدور فترة، ثم عادت بطاقم مهنيّ أقل عدداً وأقل صفحات ونسخاً، وما زالت رواتب محرريها قبل التوقف معلقة.
ودعت النقابة باقي الصحف إلى إقرار خطوة مماثلة تضامناً مع صحافيي «الرأي» ومع أنفسهم، مشددةً على الدعم الكامل والمطلق لما يقوم به الزملاء في الصحيفتين من إجراءات تصعيدية.
وجدّد مجلس النقابة مطالبته الحكومة والأطراف ذات العلاقة بالتدخل عاجلاً، لإنقاذ هذا القطاع الإعلامي المهم والحساس.
وطالب مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين بإعادة تشكيل مجلسَي إدارة الصحيفتين، وفق برنامج واضح ومحدد لمعالجة أسباب الأزمة المالية، بعيداً عن المسّ بمصدر الرزق للعاملين، ورفض بالمطلق مشاريع الهيكلة.
ودعا المجلس الزملاء في «الدستور» و«الرأي» إلى التماسك والوحدة خلف هذه المطالب للحفاظ على حقوقهم ومكتسباتهم بكل السبل المشروعة لإنقاذ صحفهم من الأزمة، من دون أن يكون أيّ حلّ على حسابهم.
وأشار المجلس إلى حلول لإنقاذ المؤسستين بعيداً عن استسهال الحل على حساب العاملين.
يذكر أن أزمة الصحافة الورقية الأردنية تعود بداياتها إلى عدة سنوات مضت، تفاقمت في السنوات الأربع المنصرمة، وتعقدت في عهد حكومة عبد الله النسور، التي تجاهلت منذ بداياتها ضرورات الحل، والتي لم تنته تبعاتها وذيولها ونتائجها بعد، ما لم تتخذ إجراءات جذرية أقلها توقف الحكومات المتعاقبة عن التدخل في شؤونها الداخلية، وانسحاب الضمان الاجتماعي من المساهمة بها طالما أن الحكومات هي التي تتولى تعيين مجالس إدارة الضمان وبالتالي مندوبي الضمان في الصحف، وإطلاق فترة الإعفاءات، ورفع أسعار الإعلام الحكومي إلى مستوى أسعار الإعلان العام، ودعم الدولة الصحافة الورقية بالورق أو بنسبة منه على الأقل باعتبارها مؤسسات وطنية.
وعلى صعيد الصحافة ذاتها، الكف عن كون بعضها مؤسسات للترضية، او كونها مؤسسات لتسويق الحكومات والصمت عن أخطائها، وعدم الدخول في مضاربات إعلانية وبالتالي إيجاد ميثاق شرف إعلاني، وعدم تقبل أي دخل من أي جهة أجنبية، وعرض قضايا الوطن والمواطن بصدقية ودقة مهنية عالية، وعدم زج الصحافة في قضايا إقليمية خلافية أو فتنوية أو مذهبية أو تكفيرية أو إرهابية. وتطوير قدرات كوادرها المهنية تحريرياً وحاسوبياً، وتنويع مجالات استثماراتها الإعلامية.