بسيطة الخير والسماح

كلود عبد المسيح

درج الإنسان منذ فجر الخليقة حتى اليوم على القول إن باطن الأرض هو مواطن الشياطين ومعقل الأرواح الشريرة ومنبت الرعب، حتى سادت هذه الفكرة شعبياً، وعقائدياً، وميثولوجياً، وأصبحت متداولة ومتوارثة من جيل إلى جيل.

بدا هذا يديهياً، فإذا كانت السماء موطن الآلهة والقديسين والملائكة، فأين هو إذن موقع الشياطين؟ من المؤكد أنه في مكان أدنى مرتبة وأسفل موقعاً. لا بد أنه تحت الأرض. تعوّدنا القول «خرج شيطان من تحت الأرض» و»الجنة في السماء والجحيم تحت سابع أرض» أو «خرج له من الأرض عفريت أو مارد شرير» إلخ. وفي معظم قصصنا الخرافية وأفلامنا التي تصب في خانة أفلام الرعب وتتحدث عن قوى الشر الخارقة تصوّر لنا الشيطان والأرواح الشريرة خارجة من باطن الأرض وداخلة إليه كأنه موطنها الأصلي أباً عن جد! حتى بتنا ننظر إلى الأرض بقرف ودونية، مطلقين عليها أبشع النعوت والتهم.

لكن الواقع غير ذلك، وما نراه يُظهر عكس ما نعتقد، فمنذ تكوين الأرض لم تُنبت لنا غير المفيد والنافع والجميل والرابع. فكيف نتهمها بأنها موطن الشياطين وهي تُنبت لنا ما لذّ وطاب من الإجاص والعناب؟ كيف تكون موطن الشيطان وهي تعطينا الفلّ والزنبق والأقحوان؟ لا يعقل أن تكون مخبأ الشياطين وهي تنبت الورد والريحان والياسمين. لا يستطيع الشيطان أن يعيش حيث يتلألأ التفاح وتتدلى ثريات العنب من العريش. لا يُصدّق أن شيطان يقبع حيث تتفتح الغاردينيا ويتعانق الحور مع البيلسان. وليس منطقياً أن المكان الذي يلهم أروع الأفكار هو منبع الشياطين ووكر الأشرار.

إذن، لمَ نظلم هذه الكرة المفعمة بالحياة والمثقلة بالخيرات؟ كيف نلعنها ونحتقرها وهي منبع الخير ومصدر الثروات؟ هل نعي أن هذه الكرة الحيّة لم تقدم إلينا سوى الأطايب ولم تنل منا سوى اللعنات؟

نحفر بطنها بقسوة ونستخرج منه الذهب والألماس، ندفن فيه الجثث والنفايات، نحشوه بما نخجل بإظهاره للعيان فتحلله وتحوّله إلى خيرات.

نمزّق أحشاءها لنسحب سوائل الطاقة التي تعطينا النور وتسير الآلات وتسهّل الحياة.

تخبّئ لنا في جوفها السائل العجيب الذي لا لون له ولا رائحة، كي لا يشبه سائلاً آخر وتبقى قيمته في بساطته ونقائه وقدرته على منح الحياة. وندقّ في صدرها بالأنابيب لنخرجه ينابيع،، فلا تزعل ولا تحقد بل تجود علينا بالزهر والربيع.

نقول لصعلوك جبان «سوف أسوّيك بالأرض أيها الحقير» كأن مستوى الأرض شيء مريع، ونقول لوغد شرير: «سوف أمسح كرامتك بالوحل يا سافل» فهل سفالة الأوغاد وضِعة الصعاليك أسمى من حفنة تراب إن طمرنا في جوفها بزرة أعطتنا أجمل الأزاهير؟

هل نظرنا إلى كرمها حين نوْدِعها حبة قمح، فتُنبت لنا سنبلة مثقلة بعشرات الحبوب؟ أو عندما نزرع فيها بزرة أو شتلة، فتحوّلها إلى شجرة متفرعة الأغصان تجود بالفاكهة والخضار التي تمدّنا بالصحة والعافية؟

في الأرض لا يضيع خير، بينما تضيع المئات من الأعمال الصالحة في النفوس اللئيمة وتذهب هدراً الأعمال الخيّرة والمبادرات الكريمة، وتضيع المحبة عند ضعيفي النفوس والحاقدين والحاسدين وزارعي البغضاء، بينما لو أعطينا الأرض شيئاًُ أعطتنا أشياء، رافعة عطاياها دوماً نحو السماء. ولو أسأنا إليها لا تحقد ولا تنتقم ولا تستاء. ولو لذعتنا حرارة صيفها عوّضت علينا في برد الشتاء. وإن كان خريفها كئيباً يعزف على الأشجار لحناً مريعاً، تعتذر منا وتطرب أنفسنا بزقزقات الربيع. فهل يفعل ذلك بنو البشر ويردون لبعضهم حسن الصنيع؟

ليتنا نتعلّم شيئاً من هذه الكرة البسيطة، ليتنا نحتمل بعضنا مثلما تحتملنا هذه الكرة الكريمة، وتستوعبنا على تنوع ثقافاتنا ولغاتنا وألواننا ومعتقداتنا بصبر وطول أناة، فاتحة صدرها لسمومنا وغازاتنا، وفضاءها لأزيز طائراتنا وبطنها لبقايانا وفضلاتنا، وبحرها لسفننا وسرقة ما اختبأ فيه من ثروات، جامدة أو تدبّ فيها الحياة.

ربما آن لنا أن نخجل من أثيرها الذي يحمل لنا أنوار الشمس الدافئة، والنسائم العليلة، وزغردة العصافير، ورحيق الأزاهير، فيما نخترقه لرصد أخبار الموت وإشارات الدمار، ولمعرفة مكامن الضعف عند إخوتنا البشر للتنكيل بهم وفضح أسرارهم عند أول فرصة، ربما علينا أن نخجل من غضبها الرؤوف، فهي عندما تغضب أحياناً وتسخط من ضجيجنا وتفور براكين ترغي وتزبد بالحمم، سرعان ما تهدأ مثل الأم الرؤوم وتبرد نيرانها مُحوّلة ما خرج منها في لحظة غضب إلى ثروات تعود على البشرية بالخير والثراء.

حتى عندما تترجرج وتتزلزل، محاولة قذفنا إلى الفضاء، لكثرة ما نرتكبه في حقها من أخطاء، سرعان ما تعود إلى رشدها وترتكز في مكانها، نادمة على ما سببته لنا من هلع وضوضاء.

فهل نتعلّم نحن البشر من أمّنا الأرض أن نندم على أخطائنا أو نسامح بعد غضب، أو نُجمّل عيوبنا ونحوّلها إلى خصال حميدة يقتدي بها من يقتدي ويتعلّم من يشاء؟

لم يخطئ من سمّاها «البسيطة» فمهما آذيناها تقول لنا «بسيطة».

ليس مخطئاً من يعتقد أن موطن الشياطين الشريرة والأرواح النجسة هو داخل الإنسان، في روحه وفكره وقلبه وإرادته، إن كان ميّالاً إلى فعل الشر، وتعتريه مشاعر الانتقام والحسد والنميمة والبغضاء، ولا يرتاح لما تصنعه النفوس الكريمة، بل يفرح لدكّ مداميك ما تبنيه الأيدي الخلوقة والمعطاءة والبنّاءة والمتعاونة.

لهؤلاء نقول: رجاء تعلّموا التسامح والمحبة والعطاء والبساطة من الكرة «البسيطة» التي ليس فيها مكان لوجود شيطان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى