ألمانيا تريد إنهاء اعتمادها على الغاز الروسي… لكن البديل باهظ جدًا! من يتحمّل التكلفة الاقتصادية للقرار السياسي؟
كشفت الأزمة الأوكرانية مدى اعتماد ألمانيا ودول أوروبية أخرى على الغاز الروسي. ويؤكد خبراء وجود بدائل جدية لإمداد هذه الدول بالغاز، لكنها بدائل تأتي بثمن عال جداً.
يوجد في ألمانيا حقل لاستثمار احتياطات من الغاز الطبيعي على عمق 5000 متر تحت سطح الأرض في شرق مدينة بريمن. ويرتفع على برج الحقل علم ألماني، لكن الشركة المنتجة أصبحت منذ أسابيع ملك الأوليغارش الروسي ميخائيل فريدمان، الذي استحوذ عليها مقابل 5.1 مليارات يورو.
سيطرة روسية
يسيطر الملياردير الروسي الآن على 20 في المئة من إنتاج الغاز الطبيعي في ألمانيا، و25 في المئة من إنتاجها النفطي. كما تضمّ ممتلكاته في ألمانيا منصة ميتل بلايت لاستخراج النفط قبالة ساحل بحر الشمال. وقال فريدمان عن صفقته، عندما وقع العقد في مدينة هامبورغ في نهاية آذار الماضي: «إنها محفظة استثمارية جذابة».
وورد في تقرير أعدّه عبد الاله مجيد ونشره موقع «إيلاف» الالكتروني أنه على الغرار نفسه، يعتبر ألكسندر ميلر، رئيس شركة غازبروم الروسية العملاقة للطاقة، أنّ ألمانيا سوق مغرية. ومن المقرّر أن يوقع خلال هذا الصيف عقد استحواذ غازبروم على شركة فينغاس الألمانية، التي تسيطر على 20 في المئة من سوق الغاز في ألمانيا.
ستمنح الصفقة للشركة الروسية سلطة السيطرة على شبكة أنابيب طولها 2000 كلم، إضافة إلى منشآت عدة لخزن الغاز، بينها أكبر خزان في أوروبا الغربية، والموجود في مدينة ريدين، ويكفي لإمداد نحو مليوني منزل بالغاز طيلة عام كامل.
في غير أوانه
جاء توقيت هذه الصفقات في غير أوانه، إذ كانت أوروبا تتابع بقلق تطورات الأزمة الأوكرانية المتصاعدة. وإذ بجزء كبير من البنية التحتية لقطاع الطاقة في ألمانيا يصبح برسم البيع لمشترين روس، رغم أنّ روسيا تقوم أصلاً بدور أساسي في سدّ حاجة ألمانيا من الطاقة.
ويأتي نحو 39 في المئة من الغاز، الذي تستهلكه ألمانيا، بأنبوب من روسيا. والسؤال الذي كثيراً ما يُطرح هو ماذا سيحدث إذا قرّرت موسكو وقف الضخ؟ وهو هاجس يقضّ مضاجع العديد من السياسيين في برلين.
في هذا الشأن، قال أندريس ماتفيلد، عضو الرايخشتاغ من الحزب الديمقراطي المسيحي بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل، إنّ الصفقات الأخيرة مع روسيا تثير القلق، نظراً إلى اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي. ونقلت مجلة «شبيغل أونلاين» عن ماتفليد قوله «إنّ أمن ألمانيا في مجال الطاقة مهدّد بخطر جسيم».
أشد تعقيداً
يُعتبر سيناريو تقليل الغاز المتدفق إلى المانيا عمداً من جانب موسكو سيناريو مستبعداً، لا سيما أنّ الاتحاد السوفياتي أثبت أنه مجهّز موثوق، في عز الحرب الباردة. وفي السنوات التي سبقت سقوط جدار برلين مباشرة، كانت ألمانيا الغربية تستورد نصف الغاز الذي تستهلكه من روسيا.
بعد ربع قرن، أصبح العالم أشدّ تعقيداً، والسياسة الخارجية أقلّ قدرة على التنبّؤ باتجاهاتها. ويبدو النزاع في شرق أوكرانيا مرشحاً للانفجار في أي لحظة. وحذّرت روسيا من احتمال توقف الإمدادات رداً على تهديدات أوروبا بتشديد العقوبات الاقتصادية ضدها.
وفرضت هذه التطورات على ألمانيا أن تراجع سياستها في مجال الطاقة. وكانت ميركل قادت البلد بعيداً عن الطاقة النووية نحو التعجيل في تطوير مصادر طاقة متجددة. لكن عوامل جيوسياسية نشأت الآن لتصبح فجأة ذات أهمية ملحّة في النقاش الدائر حول إمدادات ألمانيا من الطاقة مستقبلاً، بما ينطوي عليه ذلك من بدائل، مثل التركيز على استغلال مصادر الطاقة المحلية وسبل توسيع شبكة الإمداد إلى ألمانيا، وأخيراً وليس آخراً آثار ذلك على البيئة.
البحث عن غاز سائل
من الحلول الممكنة لخروج أوروبا من مأزقها في مجال الطاقة حلّ يقف على حافة ميناء روتردام الهولندي، حيث تقلع سفن إلى أعالي البحار، إذ أنشأت مجموعة شركات مرفأ لاستقبال السفن التي تحمل الغاز السائل. وترسو في المرفأ سفن آتية من النروج وقطر ونيجيريا لتفريغ حمولتها فيه. وتحمل بعض السفن ما يكفي من الغاز السائل لإمداد 60 ألف بيت لمدة عام.
كلفة بناء هذه المنشأة في روتردام نحو 900 مليون يورو، وهي قادرة على استقبال 200 ناقلة في السنة. لكن سبع سفن فقط وصلت حتى الآن. ومنذ أن قطعت ملكة هولندا بيتاريكس الشريط الأحمر إيذاناً بافتتاح المنشأة في العام 2011 رست في المرفأ 40 سفينة محمّلة بالغاز السائل.
وتعود البداية البطيئة لعمل المرفأ إلى عدم توافر منشآت كافية لتسييل الغاز في البلدان المنتجة. ولكن العمل الجاري على بناء العديد من هذه المنشآت يُنبئ بتحسّن الوضع بحلول نهاية العقد.
وفرة مرافئ
لكن هناك وفرة في مرافئ استقبال السفن المحمّلة بالغاز السائل. في أوروبا، يوجد 22 مرفأ كهذا، وأخرى قيد الإنشاء. ونظرياً، لدى الاتحاد الأوروبي البنية التحتية القادرة على تغطية ثلثي حاجته من الغاز الطبيعي بإمدادات من الغاز السائل.
لكن خبراء يشيرون إلى عامل آخر حال دون قيام الغاز السائل بدور أكبر في تلبية حاجات أوروبا إلى الطاقة، هو السعر. فبيع الغاز السائل للشرق الأقصى مربح لبلدان منتجة، مثل قطر، أكثر من شحنه إلى أوروبا.
ويستطيع المصدّرون أن يتقاضوا سعراً يزيد على 15 دولاراً عن كلّ مليون وحدة حرارية بريطانية في آسيا مقابل نحو 10 دولارات في أوروبا. ومنذ حادثة المفاعل النووي الياباني في يوكوشيما عام 2011 أصبح فرق السعر حتى أكبر نتيجة لتزايد حاجة اليابان إلى الغاز الطبيعي.
بناءً على ذلك، من الجائز أن تزداد مساهمة الغاز السائل في إمداد أوروبا بمصادر الطاقة، ولكن هذا سيعني أسعاراً أعلى. ويبدو بناء مرافئ أخرى لاستقبال السفن المحمّلة بالغاز السائل غير ضروري في الوقت الحاضر.
استغلال الغاز الصخري
ليس هناك تكنولوجيا مثيرة للجدل في ألمانيا مثل تكنولوجيا استخراج الغاز من الصخر بضخ خليط مائي تحت ضغط عال. ولكن يخشى منتقدو هذه التكنولوجيا أضرارها على البيئة، وخصوصاً على مكامن المياه الجوفية، ويردّ المنتجون بالقول إنّ العملية اجتازت الاختبارات البيئية.
الحق أنّ تكنولوجيا تفتيت الصخر لاستخراج ما فيه من غاز مستخدمة في ألمانيا منذ العام 1961، لكن فقط في مكامن تقليدية ذات صخور رملية مسامية من السهل تفتيتها. ويصبح الخلاف على هذه التكنولوجيا أشدّ مرارة حين يتعلق الأمر بتكسير الصخور الغازية أو النفطية. فالوصول إلى ما في هذه الصخور الرسوبية أصعب، والعملية تُعدّ أخطر.
ورغم اقتناع خبراء بأنّ لهذه التكنولوجيا إمكانات كبيرة في ألمانيا، فإنّ تكسير الصخور لاستخراج النفط أو الغاز لم يُستخدم فيها.
ونقلت مجلة «شبيغل أونلاين» عن الخبير الأميركي دانيل يرغين قوله إنّ ألمانيا يمكن بحلول العام 2040 أن تغطي نحو 35 في المئة من احتياجاتها من الغاز، إذا أقدمت على استغلال مكامنه الصخرية بمعدلات عالية. وتساوي هذه النسبة تقريباً ما تستورده ألمانيا حالياً من روسيا.
لكن المعهد الفيدرالي الألماني للعلوم الجيولوجية والموارد الطبيعية توصل في دراسة أخيرة إلى أنه ليس من المتوقع أن يصبح الغاز المستخرج من الصخور في ألمانيا عاملاً يغيّر قواعد اللعبة، كما هو في الولايات المتحدة.
توسيع الأنابيب
تعتبر المنطقة المحيطة ببحر قزوين، الذي يحوي احتياطات ضخمة من الغاز، أول مكان يتعيّن التوجّه إليه منطقياً في أيّ محاولة لتقليل الاعتماد على روسيا. ويجري في هذه المنطقة حالياً تطوير العديد من الحقول الغازية، بينها حقل شاه دنيز الواقع على بعد 70 كلم تقريباً جنوب شرق العاصمة الآذرية باكو. كما أنّ بلداناً، مثل آذربيجان، راغبة في تصدير الغاز إلى أوروبا. والمشكلة الوحيدة في الوقت الحاضر هي أنه ليس هناك أنبوب واحد في المنطقة لا يسيطر عليه الروس، وهي مشكلة تقول مجموعة من شركات الطاقة العالمية إنها تريد معالجتها.
من الشركات المساهمة في هذا الكونسورتيوم شركة إي أون الألمانية وشركة ستات أويل النروجية وشركة بي بي البريطانية. ويهدف المشروع إلى تمديد الأنبوب الحالي من بحر قزوين عبر أراضي آذربيجان وجورجيا وإنشاء أنبوب عبر الأراضي التركية، وآخر يمرّ بألبانيا واليونان إلى إيطاليا.
ومن المقرّر إنجاز الأنبوب العابر للأدرياتيكي كما يُسمّى بحلول العام 2019، ونقل زهاء 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً إلى أوروبا. لكن تردّد البنوك في تمويل المشروع يلقي بظلاله على آفاق تنفيذه.
يهدّد غازبروم
والحق أنّ مشروعاً مماثلاً هو أنبوب نابوكو إنهار في العام 2013، رغم مساهمة شركات طاقة كبرى فيه، وحتى دعم المفوضية الأوروبية له. وفي النهاية، استسلمت مجموعة الشركات المساهمة تحت وطأة الإحباط بعد سنوات من التخطيط.
وكان من أسباب الفشل تدخل ميلر، رئيس غازبروم التنفيذي، الذي رأى أنّ المشروع يهدّد نموذجه المربح في العمل التجاري. فهو يبيع الغاز إلى أوروبا بسعر زهيد نسبياً نتيجة سنوات من الاستثمار في شبكة الأنابيب الممتدة آلاف الكيلومترات. وأنبوب «نورد ستريم»، الذي يربط حقول روسيا مباشرة بألمانيا يتيح لغازبروم أن تلتفّ حول بلدان تُعدّ غير موثوقة سياسياً بنظر ميلر، بينها بولندا وأوكرانيا.
ويمكن لبناء أنبوب من آذربيجان أن يتحدّى شبكته هذه بالكامل. ويعمل ميلرالآن على بناء أنبوب «ساوث ستريم» لنقل غاز بحر قزوين عبر الأراضي البلغارية إلى النمسا.
خيار الغاز الحيوي
هناك بدائل أخرى نظراً إلى أنّ الغاز لا يوجد حصراً في باطن الأرض. وعلى سبيل المثال، فإنّ نباتات مثل الذرة أو السرغوم يمكن أن تُستخدم لإنتاج الغاز الطبيعي. وتدير شركة «كي تي غي إنيرجي» الألمانية في مدينة أورانينبورغ في جنوب غرب برلين واحدة من 21 منشأة تملكها لإنتاج الغاز من النباتات.
ويعادل ما يُنتج من غاز حيوي في ألمانيا حالياً زهاء 20 في المئة مما تستورده من روسيا. ويرى توماس بيرغر، رئيس الشركة التنفيذي، أنّ تكنولوجيا حديثة يمكن أن تُستخدم لمضاعفة هذا الرقم في فترة قصيرة لا تتعدّى بضعة أشهر.
لكنه يشير إلى عقبة تعترض هذا البديل هي خطط وزير الاقتصاد الألماني زيغمار غابريل لإلغاء الدعم الذي تقدمه الدولة إلى الغاز الحيوي على مراحل. ورغم أنّ هذه السياسة تسهم في الحدّ من تكاليف الدعم الذي تقدمه ألمانيا لمصادر الطاقة المتجددة، فإنّ من المستبعد أن تقلل اعتمادها على الغاز الروسي.
ممكنة لكن باهظة
الحدّ من اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي هدف يبقى ممكناً بدفع من جهود متواضعة، بينها زيادة إنتاج الغاز الحيوي، وزيادة استيراد الغاز السائل، واستغلال الاحتياطات المحلية، واستيراد الغاز من منطقة بحر قزوين. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه البدائل لن يتوافر أي منها بين ليلة وضحاها. والأهمّ من ذلك أنّ ارتفاع التكاليف أمر لا مفرّ منه.
هناك بديل آخر يمكن اعتماده في وقت قريب نسبياً. إذ تستطيع ألمانيا أن تبني احتياطاً استراتيجياً من الغاز، لا سيما أنّ منشآت الخزن متوافرة بكثرة فيها، ولدى وزارة الاقتصاد الألمانية خطط تتيح لها أن تفرض على الشركات الاحتفاظ في خزاناتها بحدّ أدنى من احتياطات الغاز. والسؤال هو من سيدفع تكاليف الخزن، الشركات أم ستنقل إلى كاهل المستهلكين أو إلى دافعي الضرائب؟