الزمن المتغيّر والمتبدّل باستمرار
د. سلوى خليل الأمين
عرفتهم منذ صغري أهل جدّ ومثابرة ومصداقية ما عرفت الكلل ولا الملل، فحين كنت صغيرة، كنت أرافق أمي إلى سوق المعرض في بيروت من أجل شراء حاجياتنا من شنط مدرسية وأحذية وخلافه، لفتني يومها أنّ من تتكلم معه أمي ويستقبلها بحفاوة لا يتقن اللغة العربية جيداً، سألتها باستغراب: هذا غير لبناني هو لا يتقن اللهجة اللبنانية، أجابتني أمي: بلى هو أرمني لبناني… بقيت القضية تتفاعل في عقلي الطفولي حتى شببت وقرأت ودخلت في عمق الصحائف التاريخية، التي من خلالها عرفت الأسباب التي جعلت هذا الشعب الأرمني من سكان لبنان، بل من حاملي هويته، بسبب ما تعرّضوا له من ظلم وقهر وإبادة خلال فترة الخلافة العثمانية التركية.
لهذا لا عجب إنْ لامست وجوه هذا الشعب وعقولهم مواجع الزمن المرّ ومشهدياته المؤلمة، المتخمة بظلامية الوجود، الذي جعل شعاع الضوء ينحسر من حقولهم وبيوتهم وحاراتهم وأماكنهم الآمنه ظلماً وعدواناً، جراء زلزال العقم العقلي والإنساني الذي ضرب نهارات الألفة والمودّة في الزمن العثماني الغابر المبرمج على استعباد الشعوب وسلبها حريتها وحقها الإنساني في الحياة.
فلا غرو بعد ذلك، وهذا الشعب يشهد حوليات الزمن الصعب المطلي بتلاوين الغدر والقهر والقتل المتعمّد، ألا يصيبه الخوف والهلع مما يخبّئه المستقبل من أيام حالكة سوداء، وألا يصبح الدمع أنهار غضب تجرف الأحلام الوردية التي هرمت قبل أن تجفّ ماء الحياة، وتتلوّى بصبر على ما أصابها من تلاوين الدهر المسكوبة علقماً منسرحاً على بيانات متوحشة وقاتلة، مرسومة بالحقد المبطن بالمكر الذي أنهى في ما بعد أمبراطورية بني عثمان التركية الظالمة، التي لفت الشرق والغرب تحت راياتها، بواسطة سيوفها المسنونة التي لا تعرف الرحمة ولا الشفقة ولا الشعور الإنساني الذي سقط من أجنداتهم المكتوبة بالدم المسفوح مدراراً عبر مدارات الكرة الأرضية، التي حملت في طياتها مرارات الشعوب، الذين ابتلوا بمواطئ أقدام جنودها الإنكشاريين الأصلاف، ومنهم الشعب الأرمني، الذي تعرّض خلال حكمهم في 24 نيسان من العام 1915 لأفظع إبادة جماعية جهنمية، لمجرّد تعاونهم مع الروس من أجل الخلاص من المستعمر الاستبدادي الذي أهلكهم وصادر حريتهم وقضى على سيادة بلدهم أرمينيا، تلك الإبادة التي قضت على أناس عزل أبرياء حفزهم الغضب من الظلم الواقع عليهم وعدم الإيمان بإنسانية الإنسان في بلدهم وحقه في الحرية والمعتقد بأن يثوروا طلباً للعدالة المرجوة التي لم ترد في قاموس من استعبدهم وحطم آمالهم في العيش الكريم وطلب الأمن والأمان، انطلاقا مما يؤكده رب العالمين على أنّ قتل النفس الحرة إجرام وشرّ لا تبيحه الشرائع السماوية، لا بل هو محرّم شرعاً وقانوناً حسب ما ورد في القرآن الكريم في سورة المائدة / الآية 32: «… من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً».
لكن بالرغم من كلّ ما حدث للشعب الأرمني من إبادة جماعية ما زالت محفورة بعمق في جداريات الذاكرة والتاريخ، استنهض هذا الشعب طاقاته وإبداعاته مسجلاً في لبنان، الذي استقبلهم حانياً ومؤانساً وحامياً، نجاحات تبدو جلية للعيان حين تجدهم على مقربة منك في أيام الشدّة كما في أيام الرخاء. فكلمة حق تقال، إنّ الشعب الأرمني أثبت قدرة فائقة وكفاءة عالية في التعالي على الجراح وخدمة لبنان الذي أصبح الوطن الثاني لهم بصدق ووفاء في زمن قلّ فيه الوفاء وانعدم فيه الصدق.
لقد استطاع الشعب الأرمني التغلب على المأساة التي حلت به جراء الإبادة الهمجية الشهيرة، منطلقاً في الحياة بعزيمة لا تقهر، مخترقاً الأسوار الصعبة والمرهقة، معانقاً بشغف استمرارية الحياة للأجيال التي لم تشهد الجريمة النكراء، لكنها سجلت في طيات ذاكرتها صحائفها السوداء التي لا تمحى بسهولة.
أخيرا لا بدّ أن أشهد أنّ الشعب الأرمني الذي عرفته عن قرب في لبنان من خلال صداقات عديدة لي بينهم، أنه الشعب العقلاني المتصالح مع الحياة، الواثق من حكمة الله في خلقه، خصوصاً أنّ القول الكريم يؤكد في سورة النساء الآية 93 على أن: «… ومن يقتل مؤمناً متعمّدا فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً». هذا ما تؤكده الشريعة الإسلامية التي دان بها الأتراك في زمن خلافتهم العثمانية، والتي لم تسلك طريق الرحمن الرحيم، بل استعملت السيف حصان ظلامية وفجور، نشر الخوف والرعب في أروقة الدهر المجلل بانعدام إنسانيتهم، التي أبادت شعباً لا ذنب له سوى أنه طالب بتطبيق شريعة الله في خلقه، من حيث نشر العدالة واحترام الحرية والحفاظ على الحقوق الإنسانية.
في ذكرى مرور مائة عام على الإبادة الأرمنية لا بدّ من القول إنّ قتل الشعوب الآمنة ليس مسألة فيها نظر، بل هو محرّم شرعاً وقانوناً، لهذا على من يقوم بالاعتداء المبرمج على أيّ دولة أو أي شعب عليه أن يحاسب ويعتذر، وأن تطلق بحقه العقوبات من مجلس الأمن، المفترض أنه راعي الأمن والأمان في العالم كله، وعليه أن يلزم المعتدي بدفع التعويضات لمن هجّرهم وهدم بيوتهم ومؤسساتهم، لهذا على تركيا أن تقدم اعتذارها من الشعب الأرمني، كما عليها أن تقدم اعتذارها من الشعب السوري بسبب دعمها للعصابات الإرهابية الداعشية وحمايتها لهم منذ أربع سنوات، هم الذين عاثوا في سورية قتلاً وذبحاً وتدميراً، وما زالوا لتاريخه يعبرون الأراضي التركية إلى سورية عبر الحدود المفتوحة والمباحة، كما على بريطانيا التي قدّمت فلسطين «وطناً لبني إسرائيل» دون النظر إلى من هجّر وقتل وشرّد واستبيحت أملاكه وأعراضه من شعبها، أن تعتذر من الفلسطينيين وتساعدهم على استعادة أرضهم، على أن يعاونها في ذلك راعي الكون العظيم الولايات المتحدة الأميركية.
ثم أليس الأحرى بالإدارة الأميركية ورئيسها باراك أوباما القيام بخطوة من هذا النوع على هامش التوقيع المنتظر مع إيران في شهر حزيران المقبل؟ لكن على ما يبدو الأمور في المنطقة صعبة وخطيرة في ظلّ عدم الالتزام بقرار إيقاف الحرب على اليمن، وربما تحمل الأيام المقبلة مزيداً من التصعيد الذي تشجّعه «إسرائيل» بهدف الخربطة على الاتفاق المذكور، الذي على ما يبدو أنّ الرئيس الأميركي مصر على تنفيذه والتوقيع عليه حتى لو أدّى ذلك إلى خربطات ما تعدّ لها «إسرائيل» وحلفاؤها العرب في المنطقة، بهدف إرباك الإدارة الأميركية بأفعال غير مسؤولة وخارجة على الشرعية الدولية، علماً أنّ إيران ثابتة في مواقفها ولا تأخذ قراراتها بالتباس أو عفوية، بل هي تمشي كالسلحفاة إلى هدف تريده آمناً لها ولجيرانها لعلهم يعقلون. فزمن إبادة الشعوب لم يعد مستساغاً في العصر المفتوح، والشعوب باتت على إدراك ووعي بواسطة ما ينشر عبر وسائل التواصل التكنولوجي ويصل بسرعة البرق إلى مختلف أقطار العالم، لهذا فإنّ الحروب العسكرية الخاسرة باستمرار ستتوقف في الأجندة الأميركية، وقد تستبدل بما يفيد بني البشر الذين ما زال معظمهم يرزحون تحت خط الفقر، وكوبا الدولة العدوة اللدودة لأميركا هي المثل والأنموذج للمتغيّرات الجديدة في ذهنية الإدارة الأميركية التي بدأ ينفذها باقتناع تامّ الرئيس باراك أوباما، اقتناعاً منه بأنّ هذه المتغيّرات في ممارسة السياسة الأميركية تريحها في الداخل اجتماعياً واقتصادياً، خصوصاً أنّ الاقتصاد هو العمود الفقري لبلاده، لهذا فإنّ الثورة العلمية والاقتصادية والمعرفية هي الهدف المستقبلي الذي يسعى إلى ترسيخه، عبر حرب اقتصادية تنافسية آتية، تأخذ التجربة الصينية في الاعتبار.