ميديا «التواصل»… مفكّر لم يقرأ وباحث لم يبحث وناقد «ناعم» هشّ شكلُهُ حداثيّ وروحُهُ سلفيّة
كتب نذير الماجد
اليوم، مع حالات الزيف السائدة، تنعدم المسافة الضرورية للتمييز بين التهريج والتنوير، فباسم النقد الديني تفرّغ المقولات من قيمتها ووجاهتها النقدية لنواجه مع كل فقاعة راهنة تنويرا ضلّ طريقه، وباسم التجديد يتم العبث بالتراث أو العكس من ذلك حيث يستدعي الحفاظ على الأصالة الإجهاز على كل صيحة تجديدية، وربما أيضاً باسم ما بعد الحداثة يتم التراجع والتقهقر إلى الوراء حيث ما قبل الحداثة، فمن خلال النسبية الثقافية تتم مساءلة الحداثة بصفتها جناية ضد التراث وضد الهوية، لتختلط علينا التحديدات، تصبح ما بعد الحداثة سلفية جديدة، في الوقت نفسه الذي يختلط فيه التنوير بالتبشير والاستبصار.
هكذا تتابع حلقات الزيف ومظاهر الاستعجال الفكري، في حالة مرضية ثقافية عابرة للأجيال والمذاهب والأيديولوجيات، لكنني أركز هنا على الجيل التنويري الحديث، ذلك الجيل الأقل أيديولوجية والأكثر بهرجة في الآن نفسه، الجيل الذي يجسد ظاهرة أسماها بورديو «مفكر على السريع» أي تلك الظاهرة المتولدة عن طفرة «الميديا»، المفتعلة افتعالاً، والتي لا تحتاج إلى جهد كبير لكي تبرز. وكما لو كانت انعكاساً ثقافياً لواقع اقتصادي خلفته الطفرة الناجمة عن اكتشاف النفط، ستمثل هذه الظاهرة خياراً لشهرة عاجلة كما لو كانت ربحاً سريعاً بغير مجازفة. إنه المفكر الذي لم يقرأ، والباحث الذي لم يبحث، والناقد الهش «الناعم» والانتقائيّ والذي له شكل حداثي وروح سلفية.
نعرف اشتراطات الحقل الثقافي، إذ لا يمكن تعميد المثقف من دون تذكرة مرور، من دون ضريبة عبور تمنح الاستحقاق للمثقف التنويري ليمارس مهماته، التمكن من اللغة والقواعد الداخلية للحقل، تمثل اشتراطات أولية لإضفاء الشرعية، لكن مع الجيل التنويري الجديد والمفكر الجاهز و»المطبوخ» على طريقة الـ»فاست فود»، يصبح الباب مشرعاً والطريق سالكاً من دون اشتراطات، لتربك الوسط والمتلقي والتنوير ذاته بهشاشات وفوضى كاملة. هشاشة تشمل صانع الثقافة ومتلقيها، المفكر والجمهور. هشاشة تضرب كل شيء، المؤسسة والمثقف لكن أيضاً المتلقي الذي يفتقد الحصانة والمناعة ضد التهريجات والغش الثقافي المنتشر في زوايا المشهد كلّها.
ثمة ملامح عديدة تكشف هشاشة التنوير وتفضح أباطيله، أهمها خيانة الملامح الأساسية للتنوير التاريخي في عصر الأنوار القرن الثامن عشر إذ كان يبدو جسارة وجرأة معرفية تجرأ على أن تعرف ويبدو التنويري كما لو كان ابناً نجيباً وباراً لتزاوج «المطرقة» و»المصباح»، فالتنوير فعالية نقدية تهدم المخرب لتقيم على أنقاضه «عمارتها» الحديثة، الهدم أولاً ثم البناء، وهي عملية تتصف أولاً وقبل كل شيء بشمولها غير القابل للتجزيء والانتقاء.
لا يكون النقد تنويرياً إلاّ حين يطول «البنية» ذاتها بكل ما تقيمه من علائق وعناصر. النقد التنويري تهديد للبراديغم ذاته، أي ذلك النموذج التوجيهي الحاكم للعقلية التي يراد استئصالها، لا تلك الحالات التي ينتجها النموذج. لا يعبأ التنوير والنقد بالتفاصيل التي يستخدمها البعض في تهريجاته المحسوبة زيفاً على النقد والخطاب التنويري، مثل الخلاف حول تفاصيل مذهبية أو فقهية أو طقوسية: من يتبع من؟ ومن يكفر من؟ ومن يشتم من؟.. التنوير، على العكس من ذلك، فعالية نقدية تستهدف البنية الذهنية ذاتها، تلك التي تفرز تلك التفاصيل المذهبية والفقهية والطقوسية كلّها، البنية التي تشكل المنبع والجسد التكفيري، بحيث تتحول الأسئلة من الماهية إلى الجوهر، من موضوع التكفير إلى دولاب التكفير نفسه، من تجاوزات السلطة إلى السلطة نفسها.
يدعي التنوير حياداً وموضوعية مستحيلة في الحالتين، في التنوير التاريخي كما في التنوير الهش الشائع في مشهدنا الثقافي، فالأصل في كل فعالية تنويرية هو الركون إلى اشتراطات معرفية خالصة، من دون اللجوء إلى أي شكل من أشكال اللجوء إلى القوة والإكراه. يتحرك التنوير في فضائه المثالي بأدوات معرفية، بحيث يتم التدافع والحوار معرفياً من دون أي ابتزاز أو استقواء. أما تنويرنا الهش فلا يخجل من استدعاء القوة حتى بشكلها الصريح ليتمكن من فرض خياراته. إنها الصورة المضحكة للمهرج المفلس الذي يستعين بالبوليس الثقافي إن لم يكن الصريح، ليربح المعركة، أو ليشطب بعملية جراحية استئصالية خصماً شرساً.
يسود هذا المثقف التنويري الهشّ في أروقة «تويتر» و»فيسبوك» ومناخاتهما، حيث ذلك المستنقع الموبوء بالفلاشات الفكرية الخاطفة والتي لا تقول شيئاً. «تويتر» مكان للصراخ، للصرخة التي لا تومض إلاّ لكي تخبو، بيئة تعشعش فيها المساجلة وضوضاء المراهقين فكرياً، تصبح القضايا الإشكالية التي أرّقت مفكرين جهابذة وعلى امتداد التاريخ قابلة للحلّ بنقرة واحدة على «الكيبورد». لا مكان للحذر والتواضع المعرفي في «تويتر». لا يفعل المثقف «التوتيري» سوى مطالعة التغريدات الومضية الخاطفة والمحضرة على طريقة الـ»فاست فود» لكي يعيد إنتاجها. «تويتر» مقبرة الفكر المتأمل، وبالتالي إفناء لكل إمكان للنقد والتنوير والحذر، ولكلّ شك منهجيّ.
هنا في «تويتر» تنكشف جميع أعطابنا وأمراضنا وغشنا الثقافي، فللمثقف أن يقمع بكتمان شديد، من دون اللجوء إلى التحليلات العويصة والمعقدة لميشال فوكو. يبدو الخطاب المعرفي «التويتري ـ الفيسبوكي» استراتيجية قوة بامتياز. التنوير في «تويتر» قوة خالصة، ففي أي وقت لك أن تشطب خصمك المزعج بنقرة واحدة، كما لك أن تختار في الوقت عينه خصمك السهل والغبي ليوفر لك البهرجة والبروز والشهرة من دون ضريبة أو تكلفة.
شيء ما يراد له البروز لكي يعوض هشاشة التنوير في «تويتر»، ففي الميديا عامة تعوض الصورة فقر اللغة والأميّة الفكرية. في كل مكان في الميديا يملأ الفراغ الناجم عن القحط الفكري بصورة إشهارية مزدهية بألوانها، في تخفيف «أنثوي» لجفاف الفكر «المذكر» وبعد ممارسات الإكراه واستراتيجيات القوة يتم اللجوء هنا وفي «ضربة شاطر» بارعة لتأنيث الفكر باللجوء إلى فرجة الصورة، الصورة المؤنثة تفرض سطوتها الناعمة ومنطقها الخاص، تستثير عطفاً، تولّد ارتدادات واسعة وتعصف بالعقل الجمعي، وهكذا يكتمل المشهد الثقافي: تأتي الصورة لتحل مكان «المقولة»، ثم تؤول الثقافة إلى دعاية، والتنوير إلى بهرجة .