من العصيان المدني إلى العصيان السياسي…

د. عصام نعمان

ما قامت وستقوم به «هيئة التنسيق النقابية» يرقى إلى مستوى العصيان المدني. لكن أحداً لم يستعمل بعد هذا المصطلح في توصيف ما يجري من تحركات وإضرابات وتظاهرات. ربما مردّ الإحجام عن استعمال المصطلح «الثوري» رغبة قادة الهيئة في عدم تخويف المرجعيات السياسية الرسمية وأصحاب القرار. لكن، هل يبقى في وسع الجانبين تجاهل واقع الحال إذا ما حلَّ «يوم الغضب» الأربعاء المقبل ولم يقرّ مجلس النواب سلسلة الرتب والرواتب بصيغة مقبولة من «هيئة التنسيق النقابية»؟

رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي وأحد أبرز قادة هيئة التنسيق حنا غريب رأى أن «القضية تجاوزت موضوع سلسلة الرتب والرواتب لتفتح ملف الحقوق وسرقة الناس بحجة تأمين الإيرادات للخزينة العامة ، وضرب المعلمين تحديداً … الغاية من السلسلة المسخ ضربُ الأساتذة، وقد بات الأمر مكشوفاً من خلال قرار منع التوظيف، والوقوف ضد الأجراء والمتعاقدين وحرمانهم من أبسط حقوقهم في الضمان الاجتماعي وبدل النقل وغلاء المعيشة، وبالتالي إلغاء المباراة المفتوحة التي كانت مقررة، والإبقاء على التعاقد التوظيفي».

التصعيد في موقف «هيئة التنسيق النقابية» استولد، على ما يبدو، مردوداً ايجابياً لدى بعض الكتل البرلمانية. رئيس مجلس النواب نبيه بري بات أكثر انفتاحاً على الملاحظات الأساسية التي قدمتها «هيئة التنسيق». موقف بري يؤشر إلى أن ثنائي «كتلة الوفاء للمقاومة» حزب الله و«كتلة التنمية والتحرير» حركة أمل لن يحاربا في الشارع وفي البرلمان مشروعَ السلسلة كما تريده «هيئة التنسيق».

«كتلة التغيير والإصلاح» ميشال عون ستحاول استرجاع المزايا والمكاسب التي كانت حققتها اللجنة الأولى التي درست مشروع السلسلة برئاسة أمين سر الكتلة النائب إبراهيم كنعان.

لكن ثمة ما يشير إلى أن قوى 14 آذار المحافظة غير مستعدة لتقديم تنازلات محسوسة تساعد قوى 8 آذار على تدوير الزوايا في شأن مشروع السلسلة.

يتحصّل من كل هذه الواقعات والتطورات أنه من المحتمل عدم إقرار السلسلة يوم الأربعاء المقبل بصيغة مقبولة من «هيئة التنسيق النقابية»، فماذا سيكون رد الفعل؟

هيئة التنسيق أعلنت مسبقاً موقفها الصارم: «اتخذنا توصية مؤلمة لم نكن نريدها على الإطلاق بعدم إجراء الامتحانات الرسمية من ألفها إلى يائها في حال استمرار تشاطرهم بعدم الالتزام بالاتفاقات المعقودة معنا، أو عمدوا إلى تمرير المشروع المسخ».

بتنفيذ هذه التوصية يتكامل مشهد العصيان المدني الاجتماعي: إضراب وشلل في كل القطاع العام الإدارات والمؤسسات العامة الحكومية وقطاع التربية والتعليم الرسمي والخاص، وقطاع النقل العام وغيره من الخدمات.

كيف يمكن أن ينعكس هذا العصيان المدني غير المسبوق على المشهد السياسي المنشغل باستحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي في 25 الشهر الجاري؟ وهل يمكن تطوير العصيان المدني الاجتماعي إلى عصيان مدني سياسي؟

يحاول الأقطاب الموارنة الأربعة، أمين الجميل، ميشال عون، سليمان فرنجية، وسمير جعجع، بدفعٍ قوي من البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، التوصل إلى صيغة توافقية يكون من شأنها انتخاب رئيس جديد قبل 25 الشهر الجاري، لكن لا مؤشرات إلى نجاح مرتقب في هذا السبيل. صحيح أن جعجع أوحى باستعداده لسحب ترشّحه لمصلحة شخصية مقبولة من قوى 14 آذار، لكن من الصعب جداً، إنْ لم يكن من المستحيل، أن تتقاطع آراء ومصالح اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين المشاركين بالفصل اللبناني من لعبة الأمم على مرشح مقبول في المستقبل المنظور.

كلّ هذه التحديات والصراعات تدفع بعض القوى السياسية، ولا سيما القوى الوطنية الحية، إلى طرح سؤال الساعة: كيف يمكن الخروج من حمأة هذا النظام السياسي الذي بات في حال موت سريري إلى نظام آخر ديمقراطي مبني على أسس حكم القانون والعدالة والتنمية؟

في لبنان، لا فرصة ولا قبول بفكرة انقلاب عسكري. جلّ ما يستطيعه الجيش، قيادة وضباطاً وجنوداً، هو الامتناع عن التحوّل سوطاً في يد الشبكة الحاكمة. ذلك بحد ذاته يُعتبر انجازاً وطنياً إذ يمكّن القوى الوطنية الإصلاحية من تشديد ضغوطها على أهل النظام الفاسد المنهار بغية فرض الإصلاح السياسي الأساس الذي يفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد وهو اعتماد قانون ديمقراطي عادل للانتخابات.

في هذا المجال، يجب الاستفادة من تجربة «هيئة التنسيق النقابية» لتكوين مناخ شعبي رافض للنظام السياسي المحتضر وتطويره إلى هيئة تنسيق وطنية للقوى السياسية الإصلاحية العابرة للطوائف بقصد اغتنام الظروف الاستثنائية السائدة لشن عصيان مدني سياسي على الحكومة بكل الوسائل المشروعة بغية حملها على اتخاذ قرارات استثنائية، لعل أهمها:

أولاً، وضع قانون ديمقراطي للانتخابات باعتماد نظام التمثيل النسبي وصيغة البلاد دائرة انتخابية واحدة، أو اعتماد نظام التمثيل الأكثري وفق صيغة «لكل ناخب صوت واحد»، وإحالته بصيغة مشروع قانون معجل على مجلس النواب وفق أحكام المادة 58 من الدستور ليصار إلى إصداره بمرسوم إذا تعذّر البت به خلال مدة الأربعين يوماً المنصوص عليها في المادة المذكورة، أو إصداره بمرسوم إذا تعذّر على مجلس النواب الانعقاد، وذلك عملاً بنظرية الظروف الاستثنائية وأحكام الضرورة.

ثانياً، تقوم الحكومة، خلال المدة التي حددها قانون الانتخابات الجديد، بإجرائها تحت إشراف المنظمات غير الحكومية العالمية المختصة بحقوق الإنسان والحريات العامة، ووسائل الإعلام اللبنانية والعربية والأجنبية، وحتى بإشراف الأمم المتحدة إذا اقتضى الأمر.

ثالثاً، ينتخب المجلس النيابي الجديد رئيساً جديداً للجمهورية، فيقوم لاحقاً بإجراء الاستشارات النيابية اللازمة لتأليف حكومة جديدة.

رابعاً، يقوم المجلس النيابي الجديد، وقد أضحى له طابع تأسيسي ومشروعية وطنية جامعة، بمباشرة عملية حوار شامل من خلال لجانه المتخصصة لتحديد الأولويات الوطنية، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ويتولى تحويلها إلى تشريعات بالتعاون مع الحكومة.

خامساً، تتولى لجنة الإدارة والعدل البرلمانية، بمشاركة رئيس المجلس الدستوري، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس مجلس شورى الدولة، ورئيس ديوان المحاسبة، ونقيبي المحامين في بيروت والشمال، مهمةَ إجراء الدراسات واقتراح الصيغ القانونية اللازمة لإعادة النظر بإجراءات انتخاب رئيس الجمهورية وصلاحياته، وتنفيذ أحكام المادة 22 من الدستور إنشاء مجلس نواب وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف والمادة 95 من الدستور المتعلقة بإلغاء الطائفية على مراحل.

قد تبدو هذه المبادرات والإجراءات، في منظور تجارب الماضي التقليدية العقيمة، ثورية وصعبة التطبيق. لكنها ليست كذلك في منظور الظروف الاستثنائية التي تستوجب قرارات استثنائية وشرعية استثنائية.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى