هل يلعن التاريخ كل من يواجه روسيا من بوابة القرم؟

إعداد: أحمد فخر الدين

شهدت منطقة شبه جزيرة القرم على مدى التاريخ اشتباكات دولية عنيفة، اختلفت أسبابها في كل مرة لاختلاط الاعراق فيها بين روس، أوكران، تتار القرم المسلمين، أرمن، أذريين، جورجيين، أوزبيك، وأتراك. وهي تشكل بوابة الشرق لأوروبا.


أبرز تلك الحروب التي شهدتها القرم كانت تلك التي خاضها نابليون الأول ضد الإمبراطورية الروسية منذ حوالى مئتي عام، إضافةً إلى الحرب التي خاضها الروس وحدهم ضد السلطنة العثمانية عام 1853، لينضم إلى جانب العثمانيين بعد عام على نشوبها كل من بريطانيا، فرنسا ومملكة سردينيا التي أصبحت تعرف في ما بعد بمملكة إيطاليا. وأحد أسباب تلك الحرب الأطماع الإقليمية لروسيا في شبه جزيرة القرم، وفي الحربين خرج الروس منتصرين.

واليوم بعد مرور قرنين على تلك الحروب، وبعدما أصبحت شبه جزيرة القرم جمهورية مستقلة، أعادها الاحتدام التاريخي من جديد لتبرز على الساحة الدولية كمسرح لتصفية الحسابات بين الدول الكبرى. واتجهت الأنظار نحو الوجود العسكري الروسي في القرم بعد سيطرة المعارضة على مقاليد الحكم في أوكرانيا وقيام البرلمان بعزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا.

بالنسبة لأمن روسيا الاستراتيجي تحمل شبه الجزيرة أهمية كبرى، لأنها تحتوي على ميناء سيفاستوبول الذي يضم أكبر أسطول بحري روسي، كما تشكل قاعدة انطلاق إلى المياه الدافئة في المتوسط، الحلم الذي لطالما راود الروس. لذلك لن يترك الروس شبه الجزيرة حتى لو اضطروا إلى فتح حرب عالمية ثالثة. والتاريخ يشهد على أن كل من خاض معركة ضد الروس على أراضي القرم خرج منها مهزوماً، فهل تكون هذه الحرب الباردة الدائرة اليوم في أوكرانيا بداية نهاية الاتحاد الأوروبي؟ وهل يلعن التاريخ كل من يواجه روسيا من بوابة القرم مثلما حصل مع نابليون والعثمانيين؟

إذا صح هذا بالسبة لشبه جزيرة القرم التي تشكل جزءاً من أوكرانيا، فيبدو أنه صحيح أكثر بالنسبة لبلاد القرم التي تضم جورجيا، أوكرانيا، هنغاريا، رومانيا، ولتوانيا.

بعد مؤتمر إرفورت الذي عقد عام 1808 بين نابليون الأول والقيصر الروسي ألكسندر الأول، والذي نصّا فيه على توثيق العلاقات بين الإمبراطوريتين الفرنسية والروسية وعلى اتخاذ كل منهما للآخر حليفاً، تعرّض القيصر عام 1808 لضغوط كثيرة من قبل النبلاء ليفض الحلف مع فرنسا، فكانت أولى بوادر انحلال هذا الحلف تعامل روسيا باللين مع المملكة المتحدة، متجاهلةً الحرب الاقتصادية التي فرضها عليها نابليون، الأمر الذي أثار غضب الأخير. وفي عام 1812، اقترح المستشارون على القيصر غزو فرنسا والقضاء على نابليون، واسترجاع بولندا بعد انحلال الامبراطورية الفرنسية، الأمر الذي وصل إلى نابليون عبر تقارير استخبارية فرنسية، فجهّز في 23 حزيران من العام نفسه ، جيشاً ضخماً وصل تعداده إلى 450,000 رجل وزحف به على روسيا بتاريخ 23 حزيران من العام نفسه، متجاهلاً النصائح المستمرة التي قدمها له المستشارون بعدم غزو الأراضي الروسية الداخلية بسبب مساحتها الشاسعة ومناخها القاسي المختلف عمّا اعتاد عليه الجنود الفرنسيون.

تفادى الروس هدف بونابرت القاضي بالاشتباك معهم في معركة وحيدة حاسمة، وتراجعوا إلى داخل روسيا في محاولة لصد التقدم الفرنسي، لكنهم هُزموا، وتابع الفرنسيون تقدمهم محققين الانتصار تلو الآخر في سلسلة من المعارك. وتابع الجيش الروسي تفادي الاحتكاك مع الفرنسيين، على الرغم من أن هذا كان بسبب عدم إقدام نابليون على التهديد بالهجوم في بعض الأحيان على نحو غير معهود. وإن كان الروس قد تجنبوا قتال جيش بونابرت، إلا أنهم اتبعوا استراتيجية الأرض المحروقة، مدمرين كل قرية أو حقل أو بستان مروا به، الأمر الذي جعل من العسير على الفرنسيين العثور على الطعام الكافي لهم والعلف لخيولهم.

وبعد معركة بورودينو، وهي المعركة التي وقعت خارج روسيا بالتوافق بين الطرفين، تراجع الجيش الروسي إلى ما بعد مدينة موسكو، فدخلها نابليون معتقداً أن فتحها سوف يُنهي الحرب وأن القيصر سيطلب منه البدء بإجراء محادثات السلام. إلا أن حاكم المدينة، المدعو فيودور روستوپشين، رفض الاستسلام وأضرم النار في جميع أنحاء موسكو وأحرقها. وبعد شهر من هذه الحادثة، انسحب الجيش الفرنسي من موسكو وأثناء انسحابه خسر الكثير من الجنود إذ بلغ عددهم في بداية الحرب أكثر من 400,000 جندي، حيث لم يعبر منهم أكثر من 40,000 نهر بيريزينا، أحد روافد نهر الدانوب في روسيا البيضاء.

وفي 4 تشرين الأول عام 1853 اندلعت حرب بين الإمبراطورية الروسية والسلطنة العثمانية، دارت أحداثها في شبه جزيرة القرم، وكان هدف الروس وقتها الوصول إلى المياه الدافئة. وحينها دعمت الدول الكبرى السلطنة العثمانية من أجل إضعاف الإمبراطورية القيصرية ولجم توسعها لأنه يشكل خطرا على المصالح البريطانية الفرنسية.

اليوم شبه جزيرة القرم هي جمهورية تتمتع بحكم ذاتي ضمن جمهورية أوكرانيا حيث تقع جنوب البلاد ويحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، بينما يحدها من الشرق بحر أزوف، ومساحتها 2700 كم، وتعداد سكانها 2.5 مليون نسمة، ويشكل الروس نحو 50 منهم، والأوكران 30 ، والباقي من التتار. وأهم مدنها هي العاصمة سيمفروبل، وكان اسمها فيما مضى اق مسجد أي المسجد الأبيض قبل أن يستولي عليها الروس.

كانت عاصمتها فيما مضى مدينة بخش سراي عندما كانت خاضعة لحكم خانات التتار، ومن مدنها المهمة أيضًا يالطا، سيفستوبل، كيرشوفيادوسيا، بيلاغورسك، سوداك، وجانكوك.

وكلمة القرم تعني القلعة باللغة التتارية وتتمتع القرم بموقع استراتيجي هام وفيها الثروات الطبيعية، مثل: البترول، الفحم الحجري، الغاز الطبيعي، النحاس، الحديد، المنغنيز، الرصاص، إضافةً إلى الثروة الزراعية مثل: القمح، الفواكه، المياه المعدنية ذات الخاصية العلاجية التي جعلت منها واحدة من أفضل المشافي في العالم.

واليوم بعد الأحداث التي تشهدها أوكرانيا نرى الأنظار متوجهة نحو القيصر الروسي الحالي، فلاديمير بوتين، وما إذا سيدخل إلى شبه جزيرة القرم مجدداً، ما يذكرنا بمناخات حرب القرم التي اندلعت بين الروس والعثمانيين في 4 تشرين أول عام 1853 واستمرت حتى آذار عام 1856.

العداء بين الروس والسلطنة

اتسمت العلاقات بين السلطنة العثمانية وروسيا القيصرية بقدر كبير من العداء الدموي، فمنذ سيطرة القياصرة على الحكم في روسيا، امتلك الروس حزمة من الأطماع التوسعية بأن تكون روسيا دولة كبرى على مسرح السياسة الأوروبية والدولية، واختلطت هذه الأطماع في بعض الأحيان بعواطف دينية، متمثلة في حماية الأرثوذكس في العالم، والسيطرة على القسطنطينية التي فتحها السلطان محمد الفاتح، وكذلك السيطرة على الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين.

وأدرك الروس أن تحقيق هذه الأطماع المتشابكة لن يتم إلا بالقضاء على السلطنة العثمانية، خصوصاً في منطقتي آسيا الوسطى والبلقان، والسعي إلى تقسيم الأملاك العثمانية بين الدول الكبرى، تمهيداً إلى وصول روسيا إلى المياه الدافئة، وهو الحلم الذي ظل يراود الروس فترة طويلة من الزمن، وأدرك الروس أن ذلك لن يتحقق إلا بوجود قدر من التوافق بين روسيا والدول الأوروبية الكبرى.

وبسبب هذه الأطماع الروسية، فضلا عن حالة الضعف العثمانية التي كانت تغري الدول الكبرى بالتدخل في شؤونها وقعت عشرات الحروب بين العثمانيين والروس، استغرقت أكثر من ثلاثة قرون.

ورأت كل من فرنسا وبريطانيا في هذه الحروب الطويلة والعنيفة بين الجانبين تحقيقاً لمصالحهما، من حيث إضعاف روسيا وردعها عن التدخل الفاعل في السياسة الأوروبية من جهة، وإبعادها عن المنافسة في المجال الاستعماري، ومن جهة أخرى إضعاف السلطنة العثمانية التي تمددت أملاكها في 3 قارات تمهيداً لتقسيمها بطريقة لاتؤثر على التوازنات في السياسة الدولية.

ومن المعروف أن الدولة التي كانت تقف في وجه تقسيم السلطنة العثمانية والقضاء عليها في ذاك الوقت هي بريطانيا، التي رأت أن القضاء على رجل أوروبا المريض المصطلح الذي كان يطلق على السلطنة العثمانية آنذاك فيه تهديد لمصالحها وأمن مستعمراتها في الهند، ويعني أيضا هدم كيان يقف سداً منيعاً أمام الأطماع الروسية، والحيلولة دون وصول الروس إلى المياه الدافئة ومن ثم مزاحمة بريطانيا في مناطق نفوذها.

أما فرنسا فقد كانت ذات سياسة متغيرة، ولم تكن يتملكها الخوف من الدور الروسي مثلما هو الحال في بريطانيا، ولعل هذا ما حصر النفوذ الفرنسي في الحصول على بعض الامتيازات من العثمانيين لحماية مصالحها ورعاياها.

فصول الصراع

كان القيصر الروسي نيكولا الأول متعصباً لقوميته، ويدرك أن حركة التجديدات والإصلاحات داخل الدولة العثمانية سوف تنعكس بصورة أو بأخرى على الأطماع والنفوذ الروسي ،خصوصاً في منطقة البلقان، لأن تقوية السلطنة العثمانية تعني ألا تصل روسيا إلى المياه الدافئة. ورأى القيصر حينها أن نجاح العثمانيين في توطيد علاقتهم ببريطانيا سياسة شريرة تتبعها السلطنة للإضرار بالمصالح الروسية، ولذا قرر أن يختم حياته بتأديب الدولة العثمانية، لكنه أدرك أن قيامه بهذا السلوك المعادي ضد العثمانيين لن يتم إلا بموافقة بريطانيا، ولذا عقد القيصر لقاء مع السفير البريطاني في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، وتناول اللقاء عرضاً روسياً باقتسام السلطنة، أو على الأقل تقليم أطرافها.

وقتها أرادت بريطانيا أن تنصب مصيدة بعناية لإيقاع روسيا في حرب ضد العثمانيين من أجل استغلال هذه الحرب في توجيه ضربة عنيفة لروسيا تدفعها للارتداد خلف حدودها مرة أخرى، وتحجبها عن الظهور على مسرح السياسة الأوروبية. ولذا أطلعت بريطانيا العثمانيين على حقيقة النيات الروسية السرية.

لم يستوعب نيكولا الأول حقيقة أن تقف بريطانيا مع العثمانيين ضد روسيا، وكان تقديره للموقف أنه سيقاتل السلطنة بمفردها، وأنه سيحقق انتصاراً سهلاً عليها، يمكنه من انتزاع ولو بعض من المكاسب، كالتي حققتها روسيا في معاهدة أونكيار سكلسي التي وقعتها روسيا مع السلطنة العثمانية في 8 تموز عام 1833، ونصت على إغلاق المضائق التركية أمام جميع السفن الحربية، فيما سمحت للأسطول الروسي بدخول مضيق البوسفور للدفاع عن الآستانة، وبذلك تحرَّرت روسيا من التهديدات البريطانية والفرنسية في البحر الأسود.

ولم تغب فرنسا عما يجري حيث كانت تعتبر بريطانيا أكبر منافس استعماري لها في العالم، وتحالف لندن مع السلطنة العثمانية دونها يعني تمكن بريطانيا من تحقيق كثير من الأطماع الاستعمارية في أماكن النفوذ العثماني على حساب المطامع الفرنسية، لذا قررت باريس أن تبني موقفها بالتحالف مع بريطانيا. وأدرك الفرنسيون أن دخول بريطانيا الحرب لمساندة العثمانيين يحتم على باريس أن تدخل هي الأخرى في خضمّها، حتى لا تستحوذ بريطانيا على الموقف الأقوى في السياسة العالمية.

نحو الحرب

حين رأت السلطنة العثمانية التنافس بين الدول الكبرى على إدارة الأماكن المقدسة للمسيحيين في فلسطين عملت على حفظ التوازن بين تلك الدول، لكن ضغوط بعض الدول الكبرى، جعلت العثمانيين يمنحون بعض الدول امتيازات خاصة، فقام السلطان العثماني بمنح امتيازات جديدة عام 1852 للكاثوليك الذين كانت فرنسا تمثلهم، وهو ما يعني أنه خضع للضغوط الفرنسية.

تسبب هذا الموقف في استياء روسي من السلطان العثماني، ووجدت روسيا فيه ذريعة ومبرراً يتيح لها حرب الدولة العثمانية، معتمدة على البعد الديني وحماية المسيحيين الأرثوذكس.

بعدها أرسل القيصر الروسي بعثة دبلوماسية إلى اسطنبول ترأسها منشكوف السفير الروسي في اسطنبول، الذي كان يشغل منصب وزير البحرية، للتفاوض مع السلطان العثماني في قضية الأماكن المقدسة، والحصول على امتيازات للرعايا الأرثوذكس في السلطنة العثمانية، إلا أن مسعى هذه السفارة الحقيقي كان السعي إلى إيجاد المبرِّر لحرب السلطنة.

طلب منشكوف من العثمانيين تنحية الرهبان الكاثوليك، وأن يكون الرهبان الأرثوذكس هم أصحاب الكلمة العليا في الأماكن المقدسة المسيحية في القدس، بحيث تكون لهم حرية التصرف بمفتاح كنيسة المهد في بيت لحم وبالنجم الذي وضعه الأرثوذكس في المكان المفترض لولادة المسيح، وأن يكون للأرثوذكس الولاية على قبر مريم العذراء في الجسمانية، وإصدار الأمر بإنشاء القبة الكبرى لكنيسة القيامة من قبل بطريركية الروم الأرثوذكس بوساطة الحكومة العثمانية وبمساعدتها من دون إشراك الكاثوليك أو غيرهم من المسيحيين، كذلك طلب عقد اتفاقية تعلن بوضوح أن جميع المسيحيين في الديار المقدسة تحت الحماية الروسية، وطالب أيضا بتنحية وزير الخارجية العثماني فؤاد أفندي من منصبه بسبب علاقاته الوثيقة مع الدول الغربية.

أدركت بريطانيا أن تجاوب الباب العالي مع المطالب الروسية معناه زيادة النفوذ الروسي على حسابها، لذا استدعت بريطانيا أبرز دبلوماسييها وهو السير ستراتفورد لإحباط هذه المساعي الروسية.

كما أرسلت فرنسا بعض وحدات من أسطولها إلى المياه العثمانية، وبدأت باريس ولندن تعملان على تحويل مهمِّة منشكوف من كونها خلافاً مذهبياً بين الكاثوليك والأرثوذكس إلى كونها خلافاً سياسياً بين العثمانيين والروس، ولهذا شجع السفير البريطاني في الأستانة الدولة العثمانية على الوقوف في وجه الأطماع الروسية، مؤكدا للأستانة وقوف فرنسا وبريطانيا إلى جانب العثمانيين في أي حرب مقبلة مع الروس.

وقتها نجحت الدبلوماسية البريطانية في إقناع السلطان العثماني باستصدار فرمان للتجاوب مع المطالب الروسية، في ما يتعلق بالأماكن المقدسة في القدس، وبذلك ضيّعت بريطانيا على روسيا حجّة الخلاف المذهبي لتصعيد لهجة العداء مع السلطنة العثمانية.

وأغرى قبول السلطان العثماني للمطالب الروسية منشكوف لأن يعلن بوضوح عن طبيعة مهمّته في الأستانة، وتقدم بمطالب جديدة منها ضرورة إعلان استقلال الجبل الأسود.

وناقش البريطانيون مع السلطان العثماني مطالب منشكوف الجديدة، وحثوه على رفضها، فأرسل الباب العالي العثماني إلى منشكوف يعلمه بأن مطالبه ماهي إلا اعتداء صريح على حقوق السلطان العثماني، وتدخل في الشؤون الداخلية للسلطنة العثمانية، وخروج عن مهمّته التي انتهت بصدور قرار بخصوص الرهبان الكاثوليك في القدس، ورفض الباب العالي تغيير الأوضاع في البلقان إلا بعد التباحث وموافقة الدول الكبرى.

أثار الرفض العثماني غضب منشكوف، وأرسل بدوره رسالة تحمل صفة الإنذار إلى حكومة الأستانة، طلب فيها أن يعترف السلطان العثماني لروسيا بحق حماية الأرثوذكس حماية مطلقة وغير مقيدة، الذين كان عددهم في الدولة العثمانية حوالى 10 ملايين نسمة، وأعطى الدولة العثمانية مهلة للرد على مذكرته تنتهي في 10 أيار عام 1853، وأمام الرفض العثماني رحل منشكوف من السلطنة العثمانية مستصحباً معه جميع العاملين في السفارة الروسية في اسطنبول، وبذلك قُطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين استعداداً للحرب.

اندلاع الحرب

بعد كل تلك الخلافات كان لا بد من اندلاع الحرب العثمانية الروسية في 3 تموز عام 1853، وكان مسرحها الأول في أوروبا بمنطقة البلقان، حيث قام نحو 35 ألف جندي روسي باحتلال رومانيا التي كانت تخضع آنذاك للحكم العثماني، وأبلغت روسيا الدول الأوروبية أنها لن تدخل في حرب شاملة ضد العثمانيين، وأن مافعلته إجراء وقائي إلى حين اعتراف السلطان العثماني بحقوق الأرثوذكس في كنيسة القيامة في القدس، وأنها سوف تنسحب فور هذا الاعتراف.

وبعد الهجمة الروسية على البلقان واحتلال رومانيا قامت السلطنة العثمانية بحشد قوات ضخمة على جبهات القتال كما فعلت روسيا، وخصوصاًعلى جبهتي الدانوب والقوقاز، واستطاع القائد العثماني عمر باشا أن يلحق هزيمة كبيرة بالروس على نهر الدانوب، وأن يدخل رومانيا. وفي جبهة القوقاز ساند القائد الشيشاني الإمام شامل القوات العثمانية أثناء القتال ضد الروس.

وقت ذاك أرادت الدولة العثمانية دفع بريطانيا وفرنسا إلى دخول الحرب إلى جوارها، ودبرت إرسال مجموعة من قطع الأسطول البحري العثماني القديمة إلى ميناء سينوب على البحر الأسود، وهي تدرك أن تلك السفن لابد ستهاجم من قبل الروس، وبالفعل هاجم الروس السفن وتم إغراقها جميعاً، وقتل نحو ألفي جندي عثماني، وأثارت هذه المعركة قلقا في الأوساط البريطانية والفرنسية، وحذرت الصحافة في العاصمتين من الخطر الروسي.

معاهدة اسطنبول

من جهته، عرض الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث الوساطة لإنهاء القتال بين العثمانيين وروسيا، إلا أن القيصر الروسي رفض ذلك، خصوصاً بعد انتصارات عمر باشا في رومانيا، وقال نيكولا الأول: أشعر أن يد السلطان على خدي ، فبادر نابليون الثالث بالاتفاق مع بريطانيا ضد القيصر، وقبلت لندن العرض الفرنسي بحماسة شديدة، وغادر سفيرا لندن وباريس مدينة سانت بطرسبرغ الروسية في 6 شباط عام 1854، وتم عقد معاهدة اسطنبوال في 12 آذار عام 1854، بين السلطنة العثمانية وبريطانيا وفرنسا، ونصت على ألا تعقد أي دولة من هذه الدول صلحاً منفردا مع روسيا، وأن يتفاهم قادة الدول الثلاث في الحرب ضد روسيا، وأن تكون الوحدات الإنكليزية والفرنسية والسفن التابعة لهما في اسطنبول خاضعة للقوانين العثمانية.

وأعلنت كل من فرنسا وبريطانيا الحرب على روسيا في 27 آذار عام 1854، ونشبت معارك ضخمة في جبهات عدة أثناء حرب القرم، إلا أن أهم هذه المعارك كانت معركة سيفاستوبول التي خاضتها الدول الثلاث للقضاء على القوة البحرية الروسية في البحر الأسود، حيث كانت القاعدة البحرية لروسيا في شبه جزيرة القرم حاليا في أوكرانيا واستمرت المعركة قرابة العام، قُتل خلالها حوالى 35 ألف قتيل، وعدد من القادة الكبار من كلا الجانبين، حتى انتهى الأمر بسيطرة الدول الثلاث على الميناء في 9 أيار عام 1855.

في تلك الأثناء، توفي القيصر الروسي نيكولا الأول، وخلفه في الحكم ابنه ألكسندر الثاني الذي شعر بعدم قدرة بلاده على مواصلة الحرب، فقرر التفاوض للسلام، خصوصاً بعد المذكرة التي تقدمت بها النمسا لروسيا وحذرتها فيها من أن دولاً أوروبية أخرى قد تدخل الحرب ضدها.

استمرت الحرب أكثر من عامين ونصف، حاربت فيها السلطنة العثمانية منفردة في السنة الأولى منها، وتميّزت الحرب بمتابعة الصحافة لها، من خلال إرسال مراسلين عسكريين على جبهات القتال.

انتهاء الحرب

بعد انتهاء الحرب وتوقف المعارك نشر السلطان العثماني عبد المجيد في 18 شباط 1856، فرمَاناً عُرف باسم المرسوم الهمايوني للإصلاحات، والذي اعترف بمجموعة من الحقوق للأقليات الدينية في الدولة العثمانية، وكان هدفه الحقيقي محاولة الدولة العثمانية كسب الرأي العام الأوروبي إلى جانبها أثناء المفاوضات لتوقيع معاهدة باريس.

اعترف الفرمان بالمساواة بين جميع رعايا الدولة العثمانية من محمّديين ومسيحيين، وجرّم استخدام تعبيرات تحقر المسيحيين، ونصّ على تجنيد المسيحيين في الجيش العثماني، وإلغاء الجزية، على أن يدفع المسيحيون غير الراغبين في الخدمة العسكرية بدلاً نقدياً، وأن يمثل المسيحيون في الولايات والأقضية تبعاً لأعدادهم في تلك المناطق.

معاهدة باريس

افتتح مؤتمر باريس في 25 شباط 1856 وتم توقيع معاهدة باريس بعد 34 يوماً من عقد المؤتمر في 30 أذار 1856، وتضمنت نقاطا مهمة عدة ، منها:

حرية الملاحة في نهر الدانوب.

تشكيل لجنة دولية للإشراف على ذلك.

إعلان حياد البحر الأسود : وكانت هذه المادة كارثة بالنسبة لروسيا، حيث أجبر هذا النص روسيا على سحب سفنها الحربية من هذا البحر ونقلها إلى بحر البلطيق، وتالياً أصبح البحر الأسود بحيرة عثمانية من الناحية الفعلية وليس القانونية.

واعترفت المعاهدة بالاستقلال الذاتي لكل من ولايتي الأفلاق وبغدان رومانيا حالياً ضمن السلطنة العثمانية، وأن يتم احترام استقلال السلطنة العثمانية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية مقابل تعهدها بتحسين أحوال الرعايا المسيحيين في البلقان، واعترف السلطان العثماني بالمساواة التامة بين جميع رعاياه على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم. كما أعلنت السلطنة العثمانية قبول مبدأ التحكيم في حالة وقوع خلاف بينها وبين غيرها من الدول، وكان هذا النص مهمِّاً في القانون الدولي الناشئ.

وقررت المعاهدة إعادة ميناء سيواستوبول لروسيا، كما احتفظ العثمانيون بحق حماية الأراضي الصربية، ووعدت الدول الكبرى بالعمل على حل أي خلاف ينشأ بين الصرب والعثمانيين.

وثبتت معاهدة باريس امتيازات فرنسا في الأماكن المقدسة المسيحية من دون غيرها من الدول، وأضفت عليها الطابع الحقوقي الدولي، حيث إن الامتيازات في السابق كانت نابعة من التعاقد الثنائي بين الدولة العثمانية ذات السيادة على هذه الأماكن وبين فرنسا منفردة.

كان للمعاهدة آثارها على الدولة العثمانية، حيث وقعت بعض المصادمات الطائفية في بعض المناطق في الدولة، كما أن هذه المعاهدة عطلت الوجود الروسي في البحر الأسود قرابة 15 عاماً، حتى تمكن القيصر ألكسندر الثاني من إنهاء معاهدة باريس عام 1870، أثناء الحرب الروسية – الفرنسية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى