الأخطاء الكبرى… والمعجزة الإلهية

لمياء عاصي

إنّ ما يحصل في سوق التعاملات النقدية من انخفاض كبير في سعر العملة الوطنية مقابل الدولار ليس بعيداً عن السياق الاقتصادي للأزمة التي تمرّ بها سورية، بل هو نتيجة طبيعية لسياق الأزمة الممتدّة لأكثر من أربع سنوات، ولمجموعة السياسات الاقتصادية سواء المالية منها أو النقدية التي اتبعت على المستوى الحكومي، بل إنّ الكثيرين يعتقدون أنّ الاقتصاد بقي في حالة مقبولة نسبياً قياساً إلى حجم الضغوطات والتحديات التي تواجهها سورية.

لا يمكننا تجاهل الحرب والأزمة المتعدّدة الأبعاد التي تضرب البلد، أزمة لا يمكن أن تترك الاقتصاد معافى أو قادراً حتى على نمو يقترب من الصفر من دون حدوث انكماش اقتصادي كبير، إذ إنّ الحرب التي دخلت عامها الخامس، أدّت ومنذ البدايات إلى توقف وشلل معظم المؤسسات والشركات التي تشكل القاعدة الإنتاجية في سورية، إضافة إلى خروج الرساميل السورية مبكراً جداً ومنذ الأسابيع الأولى مع الكثير من رجال الأعمال الذين أقاموا استثمارات ومشاريع لهم في مصر ودول الخليج وغيرها، وفي شكل عام، يمكن تلخيص الوضع الاقتصادي من خلال بعض المؤشرات على المستوى الكلي سواء من حيث، البطالة، أو ميزان المدفوعات، أو الصادرات والعجز التجاري والمالي وتأثير ذلك كله على حال البلد وحصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وانعكاس ذلك على المستوى المعيشي للناس في شكل عام، ولا ننسى موضوع العقوبات الاقتصادية، سواء الأوروبية أو العربية، فما هو حالنا الاقتصادي اليوم؟

يمكن الحديث عن المشهد الاقتصادي اليوم، من خلال عدة محاور:

الأول: وضع الإنتاج المحلي: هناك أصوات كثيرة تطالب منذ بدايات الأزمة، بوقف سياسات التحرير التجاري التي كانت سائدة قبل عام 2011 وتوفير ما يلزم من الظروف لتشجيع المنتجين والصناعيين على الإنتاج الوطني. وبالرغم من اتخاذ قرارات حكومية هامة تتعلق بتوفير نوع من الحماية للإنتاج المحلي، سواء من خلال منع إجازات الاستيراد أو رفع الأسعار الاسترشادية لقيمة المستوردات وبالتالي فرض رسوم جمركية أعلى ورفع كلفتها لتضييق الفرص أمامها في السوق المحلية، إلا أنّ كلّ تلك القرارات، على أهميتها، تبقى قاصرة عن تأدية دورها في حماية المنتج المحلي، وخصوصاً في ظلّ تنامي دور الفساد والتهريب.

الثاني: السوق الداخلي الذي تختلط فيه المنتجات المحلية والمستوردات النظامية بالبضائع المجهولة المصدر والتي تباع بعيداً عن رقابة الجودة والمواصفات، وبرغم التصريحات المختلفة، لم تتمكن أجهزة الرقابة المختلفة من التعامل مع هذا الموضوع، كما أنّ حال السوق يزداد بؤساً يوماً بعد يوم، سواء لجهة ضبط الأسعار أم لجهة الجودة والمواصفات.

أما المحور الثالث فهو تناقص فرص العمل وارتفاع نسب البطالة، وهي انعكاس لوضع الاقتصاد في شكل عام، ومن المنطقي في ظروف كهذه أن ترتفع نسب البطالة إلى حدود غير مسبوقة، ومعروف أنّ ارتفاعها يؤدّي مباشرة إلى ارتفاع نسب الفقر وإحباط دورة الاستهلاك والإنتاج في البلد.

الرابع: سعر الصرف: إنّ االانخفاضات المتتالية في سعر صرف العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، أثر في شكل سلبي على كلّ مناحي الاقتصاد، بدءاً من القدرة الشرائية للمواطنين وصولاً إلى تكاليف الإنتاج وانتهاء بخسائر كبيرة في الثروات الوطنية، وأيضاً يُعتبر انخفاض القدرة الشرائية للأفراد سواء كانت بسبب البطالة أو انخفاض قيمة العملة المحلية سبباً رئيسياً للانكماش الاقتصادي ودخوله دوامة الركود.

إنّ العوامل أو المحاور الأربع السابقة الذكر، تتضافر معاً لتشكل واقعاً اقتصادياً صعباً، يحتاج الخروج منه إلى معجزة، ولأنّ المعجزات في الاقتصاد لا تحصل عادة، بل يتمّ الاعتماد على وجود رؤية وخطة وسياسات اقتصادية آنية ومرحلية وللمدى الطويل، وفي الحالة السورية، يجب أن تبنى المعجزة التي نطمح إليها على نقاط ارتكاز أساسية أهمها: الإنتاج المحلي في الصناعة والزراعة، ثم، العمل على تعزيز موارد الدولة بشتى الطرق حتى لا تلجأ إلى الدين العام الداخلي والخارجي، ثم النقطة الارتكاز الأخيرة، هي أن تتوقف الدولة عن الاستجابة لرغبات مجموعات الضغط، التي تسعى إلى صياغة القرارات الاقتصادية وفق مصالحها، ويجب أن تكون مصلحة البلد فوق كلّ اعتبار، بالطبع نحن هنا نتحدث في الشأن الاقتصادي.

والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً في المحن هو: كيف تعاملنا مع هذه الكارثة التاريخية في حياة الشعب السوري في الجانب الاقتصادي منها؟ الإجابة تأتي واضحة من خلال الوضع الاقتصادي الحالي بأنّ قراراتنا وسياساتنا لم تكن فعلاً بالمستوى المرجو، فتعاملنا مع مشاكلنا الاقتصادية بطريقة بياعين المفرّق في الأسواق القديمة يعني كلّ يوم بيومه، لذلك بدت القرارات غير شاملة أو متكاملة بل متناقضة في الكثير من الأحيان، لأنها تفتقد إلى الرؤية الاستراتيجية القريبة والبعيدة المدى، وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الأخطاء الكبرى في القرارات الحكومية، وأهمّها:

1 – لم يتمّ تعليق العمل بالاتفاقيات التجارية مع بعض دول الجوار عربية وغير عربية ، ولم يتمّ ربط الأمور الاقتصادية والتجارية بالأمور السياسية، فما زالت البضائع التركية والسعودية والأردنية، تتدفق إلى الأسواق برغم كلّ ما حدث ويحدث، وما يعتبر في كلّ الشرائع عدواناً سافراً على شعبنا وأرضنا، ومعروف أنه منذ فترة قصيرة جداً، تمّت إضافة 30 في المئة كرسوم إضافية على الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع التركية كنوع من التعامل بالمثل، لأنّ تركيا تفرض هذا الرسم على البضائع الواردة إليها استيراداً، مع أنّ البديهي هو منع استيراد أيّ شيء من تركيا مهما كان.

2 – في السياسات النقدية، تمّ ارتكاب أخطاء كبيرة. أولها الامتناع عن الإقراض للمشاريع المختلفة، بدلاً من رفع الفوائد إلى الحدود المجزية للاستثمار بالليرة وحسب وضع سوق الصرف، وأعلن حينها أنّ هذا التوقف كان بسبب الخوف من استخدام أموال الاقتراض في المضاربة بالعملة، بينما المفروض أن يكون إقراض هذه الأموال بطريقة الخط الائتماني وتصرف لتسديد التزامات مالية على المشروع، سواء بسبب شراء آلات أو مواد أولية وغير ذلك من مستزمات الإنتاج، حيث أنّ الامتناع عن الإقراض ساهم في توقف عجلة الإنتاج في الكثير من المشاريع وزاد من نسب البطالة، الخطأ الثاني هو، السماح للتجار بالاستفادة من التسهيلات المصرفية بالليرة السورية، بضمانة ودائعهم بالعملات الأجنبية، وبذلك يتحوّط التجار ويحمون ودائعهم ضدّ انخفاض أسعار العملة، ويستخدمون التسهيلات المصرفية بالليرات السورية، وفي كلّ الأحوال سيعيدونها إلى المصرف بالعملة المحلية، وهبوط سعرها لن يضيرهم في شيء.

3 – عدم وضوح سياسات المصرف المركزي، في الإجراءات التدخلية وعمليات التمويل، حيث لا ينعكس سعر تمويل المستوردات على سعر البضائع المستوردة حين تصل إلى الأسواق، ما يطرح السؤال التالي: من المستفيد الحقيقي من عمليات التمويل؟

4 – عدم إجراء أي إعادة هيكلة للإيرادات العامة للدولة، وهذا ما زاد العجز المالي للدولة، ومعروف أنّ انخفاض الإنفاق العام في أيّ بلد، يوصله إلى تداعيات اقتصادية صعبة، لا تقوى على تحمّلها حتى الدول الكبرى.

لا بدّ من القول، أنه في مجال تعزيز وتحسين الإيرادات العامة، هناك ملفات شائكة وصعبة يجب على الحكومة البدء بالتعامل معها، أولها ملف الفساد والتهرب الضريبي، وفي هذا الشأن، فإنّ وزير المالية الأسبق محمد الحسين كان قد أعلن أنّ أموال التهرب الضريبي تبلغ 200 مليار ليرة وكانت حينها تساوي 4 مليار دولار، فاليوم مثل هذا المبلغ يجب ضربه بخمس مرات على أقلّ تقدير، كما يجب مراعاة أسس العدالة الاجتماعية، فمن غير المنطقي مثلاًّ، أن يدفع صغار المكلفين ضرائبهم مثل ضريبة «الدخل المقطوع»، في الوقت الذي تجري عمليات التهرّب الضريبي من قبل كبار المكلفين بالضريبة، ويشكل مصدر نزيف مستمرّ لإيرادات الدولة، لذلك لا بدّ من مراجعة النظام الضريبي، والمؤسسات المملوكة للدولة أو القطاع العام الصناعي، إضافة إلى مراجعة أسلوب إدارة أملاك الدولة، حيث تعتبر الدولة المالك الأكبر للأصول المنقولة وغير المنقولة في سورية، ولكن هناك الكثير من التعديات والهدر والفساد في إدارة أملاكها والمردود من هذه الممتلكات متواضع كما أنّ طريقة إدارتها، طريقة تقليدية قديمة تحتاج إلى تطوير وتحديث.

أخيراً، يمكننا القول إنّ الذهنية وطريقة التفكير التي تتعاطى مع المشاكل والقضايا الاقتصادية العميقة الجذور والمتعدّدة الارتباطات تحتاج فعلاً إلى تغيير وقد تحتاج إلى معجزة إلهية حتى تتمكن من التصدي لما يواجهها، بينما يؤدي تجاهلها إلى مفاقمة آثار وتداعيات الأزمة السياسية والأمنية التي تعصف بالبلد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى