فيلم «بلادي الحلوة» لهونر سليم… قصّة رومانسيّة تتحدّى مواضعات المجتمع
كتب عدنان حسين أحمد: في رصيد المخرج العراقي الكردي هونر سليم تسعة أفلام مُنجزة ويضع لمساته الأخيرة على فيلمه العاشر «الطبول». ولكل فيلم من أفلامه العشرة ثيمة رئيسة يتمحور حولها الفيلم، إضافة إلى عشرات الثيمات الثانوية التي تمنح الفيلم نكهة خاصة تدفعه في اتجاه مسارات غير متوقعة.
آخر أفلام هونر سليم الذي عرف ترحيباً كبيراً من الجمهور والنقاد عنوانه «بلادي الحلوة.. بلادي الحادّة» ولم يحد فيه عن قاعدة السخرية السوداء التي عوّد المخرج جمهوره عليها.
يرتكز فيلم «بلادي الحلوة… بلادي الحادّة» على قصة حبّ رومانسية تتأجج بين «باران» كوركماز أرسلان و«غوفيند» كولشفته فراهاتي ، إذ تقع هذه الأخيرة في حبّه وتتماهى مع شخصيته الإنسانية المتحضرة التي تبجل العلم والمعرفة وتنتصر لحقوق المرأة خاصة، وتسعى إلى تكريس القانون وتحقيق العدالة. غير أن هذه القصة تتشظى شذرات متناثرة تصعب الإحاطة بها جميعاً، رغم حدوثها جغرافياً في منطقة «قمريان» النائية التي تقع في قلب المثلث العراقي الإيراني التركي، تلك البقعة القصيّة التي تحاصرها الثلوج على مدى ستة أشهر في السنة الواحدة، آخذين في الاعتبار أن الوسيلة الوحيدة للتنقّل في هذا المثلث الوعر هي الجياد التي تستطيع أن تتغلّب على مصاعب الحياة الشاقة في تلك المضارب المثلجة.
لا يخلو هذا الفيلم من النفس التهكمي، مثل سائر أفلام سليم الأخرى التي تحاول أن تُطعِّم حوادها ووقائعها بالسخرية السوداء حيناً، وبالمواقف الطريفة حيناً آخر، فهو على قناعة تامة بأن حضور التراجيديا لا يغيّب الكوميديا بالضرورة، خاصة إذا كان النفس الكوميدي هادفاً ومعبراً وضارباً في الصميم. فلا غرابة أن تصبح السخرية السوداء جزءاً من تقنيته الخاصة التي يعوّل عليها كثيراً، ويعتمدها في غالبية أفلامه الروائية المثيرة للجدال دائماً.
لا يتكئ هونر سليم على المهيمنة الرئيسة في أي فيلم من أفلامه، إنما يراهن على الثيمات الثانوية التي يبثّها هنا وهناك. ففي هذا الفيلم تحديداً يمكن أن نلمس عشر ثيمات فرعية، وربما ضعف هذا العدد إذا تمعّنا في ثنايا الفيلم جيداً وفي مقدّمها: الخيانة، الشنق، التمرّد، التهريب، الهيمنة العشائرية، القمع، التعليم، الموسيقى، الويسترن الشرقي، العزلة الاجتماعية، الأحلام المجنّحة إضافة إلى الحضور السلبي للسلطة المركزية وبعض أتباعها من الكرد الذين نالوا جزاءهم العادل. كما هي الحال مع المتهم «أنور أحمد رؤوف» الذي شُنق، لكنه لم يمت لأن حبل المشنقة انقطع، ولا يجوز إعدامه مرتين الأمر، ما شكّل فاتحة جيّدة للولوج إلى الكوميديا الهادفة التي أدخلنا إليها المخرج منذ بداية الفيلم.
يرصد هونر سليم تناقضات المجتمع الكردي بعد عشر سنوات من سقوط النظام السابق. فرغم غياب السلطة المركزية، إلاّ أن القانون لم يجد طريقه إلى غالبية المناطق الكردية النائية مثل قمريان وبقية القرى. يميل الفيلم إلى التغريب قليلاً، فالمشاهد لم يعهد مواطناً كردياً يضع القبّعة الأميركية، مثبتاً المسدس في حزامه، وممتطيا جواده المطهّم وهو يجوب في المضارب القروية الكردية. لكننا رأينا ذلك لدى إحدى شخوص الفيلم، وهي التفاتة ذكية تنطوي على كثير من السخرية والتهكم الذي لمسناه في العديد من مقاطع الفيلم.
تحضر التراجيديا بقوة في هذا الفيلم حين يدهم أزلام الآغا عزيز منزل «باران» و«كولشيفته»، إذ يرديهم «الحاكم الجديد» قتلى ثم يُطلق النار على الآغا نفسه في إشارة واضحة إلى هيمنة القانون وسيادته في خاتمة المطاف. وحين يأتي أشقاء «غوفيند» البطلة مهددين إياها بغسل العار الذي ألحقته بهم، تتملص منهم لتنادي في خاتمة المطاف «باران» الذي يسمع صوتها المدوّي في الآفاق، فيركض صوبها إلى أن يلتقيا في منتصف المسافة في مشهد لا يخلو من الميوعة العاطفية التي ألفناها في بعض الأفلام المصرية والهندية. ومع ذلك فإنها نهاية مقبولة في هذه القرى البعيدة التي تخضع لمنظومة القيم والتقاليد العشائرية، التي تحاول قدر المستطاع التصدّي لمظاهر الحداثة الجديدة التي تنتصر للقيم المدنية الحديثة.
ننوّه بقدرة الممثلة الإيرانية كولشيفته فراهاتي التي سبق أن مثلت في خمسة أفلام باللغة الكردية، وهذا فيلمها الثاني مع هونر سليم، وهي سعيدة جداً بمشاركتها في هذا الفيلم لأنها معجبة بكل أفلامه وتحب رؤيته الإخراجية. أما الممثل التركي الكردي كوركماز أرسلان فتألق هو الآخر في أداء دور حاكم المدينة والعاشق المتيّم بالمعلمة «غوفيند»، حيث خطف الأضواء بأدائه العاطفي المُميّز.
يمكن القول إن كولشيفته وكوركماز كانا السبب الرئيس وراء نجاح الفيلم الذي يحمل توقيع هونر سليم، المخرج الذي يملك بلا شك رؤية إخراجية فذّة تضعه في مصاف المخرجين الكبار الذين يزاوجون بين ضراوة الواقع ورقة الخيال.