صقر عليشي… جبل الشعر العالي الذي يشرف على سهل القصيدة الممتنع

إبراهيم حسّون

ليس الشعر وزناً وموسيقى وقوافي وسجعاً وطباقاً فقط. فكثير من الشعر الموزون المسجوع المقفّى، يعبرك وتعبره وكأن شيئاً لم يكن. فالشعر الذي لا يدهشك ويأخذك حيث يريد، ليس شعراً. والشاعر الذي لا يجعلك تتبناه كأنك هو… هو غير ذلك.

«معنى على التلِّ لم يبعد لأتركهُ ولم يدَعني إلى ظلٍّ له أصِلُ

قالوا وكيف وصفتَ الحال بينكما؟

فقلتُ: منفصلٌ عني… ومتصلُ».

كثيرون الذين كتبوا عن صقر عليشي. منهم من شبهه ومنهم فرّده. وأنا أجزم أن صقر يشبه، فقط، عيوناً تملأ جرارها من قطعان الغيم، غيمة غيمة، و«تدلقها» في ثغور جفّفها العطش كروماً تملأ سلالها من أعالي الوجد رغيفاً رغيفاً، وتزرعها في دروب الذين يعبرون. من حقول التعب أو إليها، ناساً يصنعون من شقائهم دمى يضحكون عليها، ليروّضوا الحياة، كي لا تروّضهم.

«أسيرُ… أسيرُ… وليس سوى السيرِ لي من عملْ

أجرُّ السماءَ ورائي

وتتبعني كالجَملْ».

من قصائد «مشرفة على السهل»، مولوده الأول، إلى «معنى على التل»، وصقر لم يحِد عن درب الإبداع قيد أنملة. بين قصائد مشرفة على السهل، والأسرار، وقليل من الوجد، وأعالي الحنين، وعناقيد الحكمة، والغزال… تقرأ حكمة المتنبي، صهباء أبي النواس، فنّ أبي تمّام، إلى تحليق امرئ القيس، إلى غزل نزار قبّاني. ولكن، متفرداً بأسلوبه في السبك الممتنع والتكثيف النادر، في قصة القصيدة، في حكاية المعنى، في حمام اللغة وزهورها وأشجارها.

صقر عليشي، يدهشك عندما يقول ما خانتك اللغة عن قوله، يفاجئك أنه يقصّ عليك ما خبأته في صفحات وجدانك.

«يمشي عليهِ الناس

ساحبينَ فوقَ وجههِ حياتَهم

يمشي عليهِ ورقُ الأشجار

يمشي الغبار تمشي كلابُ الليلِ والقطط

يمشي عليه الصّحُّ والغلط

يمشي عليهِ كلُّهم

وهو الذي يمشي على الصمتِ… فقط.

صقر عليشي، بغالبية مزنه، يزرع حياتك وعشقك وتعبك ووجعك كركرة، فتضحك حتى الدمع. وهذا ما يفرّده على ساحة الشعر، عتيقه وحديثه في «معنى على التلّ»، كأن البياض الذي غزا هامة صقر، كذلك غزا ديوانه.

ببضعة سطور في جريدة «البناء» صعب، لا بل مستحيل تقديم صقر عليشي، الشاعر الأنيق كعيون «عين الكروم»، الجميل كموّال يشرف على الوجد، اللطيف كحورة على نبع، الشهيّ كقصيدة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى