محمود درويش والتوراة… تنظير لتقاسم فلسطين مع اليهود

أحمد أشقر

تعتبر الرموز والإشارات المُشفرّة التي يستخدمها الفرد والجماعة، مفاتيح للبحث في المستويات الواعية واللاواعية في الهوية الفرديّة والجمعية على حدّ سواء. لذا أضحت دراسة مكنونات هذه الرموز والإشارات حقلاً معرفيّاً هاماً جدّاً وبالغ الأهميّة لمعرفة الواعي واللاواعي في مركّبات هذه الهوية ومستوياتها، ابتداءً من السياسة، مروراً بعلم الإنسان إلى علم النفس، من أجل التكيّل بها أو استنهاضها أو التكيّف معها على حدّ سواء.

تزخر النصوص الأدبية، النثرية والشعرية بهذه الرموز والإشارات، لأن الأدب شأنه شأن باقي الحقول المعرفية والجمالية الأخرى، يبني تراكميّاً على ما سبقه ويؤسس لما سيخلفه. وبما أن الأدب ليس السياسة الممارسة المكشوفة، وإن عبّر عنها، فإنه يستخدم هذه الرموز للإعلان عن موقف سياسي اجتماعي، مثله مثل الفكري والجمالي والفلسفي، بطريقة غير مكشوفة ومباشرة. وعليه، فإن الادّعاء أن استحضار الأدب هذه الرموز والإشارات يقع في مجال التناصّ الأدبي فقط، محض تضليل.

درويش… الاحتلال والتوراة

سأقتبس هنا من الحديث الصحافي الأول لمحمود درويش، أجراه الصحافي يوسف الغازي، ونشره في «زو هديرخ»، صحيفة «الحزب الشيوعي الإسرائيلي»، في عددها الصادر في 19. 11. 1969. وقد قامت مجلة «الجديد» بترجمته ونشرته في العدد 11، تشرين الثاني عام 1969.

في هذا الحديث الذي عُنون في ما بعد «وثيقة ـ حديث صحافي مع محمود درويش، يونيو 1969»، يتحدث درويش عن موقفه من اليهود والتوراة، أي يتحدث بكلمات أخرى عن احتلال الجزء الأول من فلسطين الذي كان قد مضى عليه 21 سنة، وسنتان على الاحتلال الجديد، قائلاً:

«لقد خلق لي شِعري المتاعب منذ البداية. ودفعني إلى الصِدام مع الحكم العسكري. وإذا أردتَ مثالاً على ذلك: كنت طالباً في الصف الثامن عندما احتفلوا بمناسبة إقامة دولة إسرائيل. وقد نظّموا مهرجانات كبيرة في القرى العربية باشتراك تلامذة المدارس في هذه المناسبة. طلب منّي مدير المدرسة أن أشترك في مهرجان عقد في قرية دير الأسد. وعندها، وللمرّة الأولى في حياتي، وقفت أمام الميكرفون وبالبنطلون القصير، وقرأت قصيدة كانت صرخة من طفل عربي إلى طفل يهودي. لا أذكر القصيدة ولكنني أذكر فكرتها: يا صديقي! بوسعك أن تلعب تحت الشمس كما تشاء. بوسعك أن تصنع ألعاباً. ولكنني لا أستطيع. أنا لا أملك ما تملكه. لك بيت، ولا بيت لي، فأنا لاجئ. لك أعياد وأفراح، وأنا بلا عيد وفرح. ولماذا لا نلعب معاً؟!

وفي اليوم التالي استدعيت إلى مكتب الحاكم العسكري في قرية مجد الكروم. هدّدني وشتمني، فاحترت. لم أعرف كيف أردّ عليه. وعندما خرجت من مكتبه بكيت بمرارة لأنه أنهى تهديده بقوله: إذا استمررت في كتابة مثل هذه الأشعار فلن نسمح لأبيك بالعمل في المحجر! يؤلمني أن أذكر الآن أن تهديدات ذلك الحاكم العسكري أثرت عليّ تأثيراً سلبياً. وبمنطق الصبي قلت لنفسي: سأحصل على القصاص. ولن أكتب. وبالمنطق ذاته عجزت عن فهم السبب الذي يجعل مثل تلك القصيدة تثير حاكماً عسكرياً. وأسجّل الآن أن ذلك الحاكم العسكري كان اليهودي الأول الذي أقابله وأتحدث إليه! لقد ضايقني سلوكه: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أتحدث إلى الطفل اليهودي؟ لقد تحول الحاكم العسكري إلى رمز الشرّ الذي يؤذي العلاقات بين الشعبين. ومن الواضح، الآن فقط أستطيع الإجابة على الأسئلة التي ضايقتني آنئذ».

لاحظوا: فتى عربي فلسطينيّ لم يمض على طرده من وطنه عقدٌ ونصف من الزمن يكتب رسالة «صرخة» من طفل عربي إلى طفل يهودي ينتمي إلى المجموعة التي هجّرت درويش وأهله وشعبه واحتلت وطنه! ثم يحمّل الحاكم العسكري مسؤولية تدهور العلاقات بين الشعبين! كيف يمكن أن يحدث هذا؟ الفتى محمود درويش يُلقي بالمسؤولية على الحاكم العسكري لا على الاحتلال الذي احتل أرضه ومنحها للطفل اليهودي وأهله!

ثم يضيف متحدّثاً عن علاقته بالتوراة قائلاً:

«ومن حسن حظي، ظهرت في حياتي صورة أخرى مناقضة للحاكم العسكري. بعد ذلك الحادث ببضعة شهور، انتقلت إلى الدراسة في مدرسة كفرياسيف الثانوية. هناك التقيت بشخصية يهودية أخرى تختلف تمام الاختلاف، هي المعلمة شوشنه وردة التي لا أملّ الحديث عنها. لم تكن معلمة. كانت أُمَّا. لقد أنقذتني من جحيم الكراهية. كانت ـ بالنسبة إليّ ـ رمزاً للخدمة المخلصة التي يقدّمها يهودي طيب لشعبه. لا أفهم ما يقصده، هل يحبها كأمّه لأنها أحبّته فعلاً، أم لأنها رمزٌ للخدمة المخلصة التي يقدّمها يهوديّ طيب لشعبه؟! لقد علمتني شوشنه أن أفهم التوراة كعمل أدبي، لم تُطرح أصلاً إلا نصّاً أدبياً فقط وعلمتني دراسة بياليك بعيداً عن التحمّس لانتمائه السياسي، وإنما لحرارته الشعرية هل يمكن قراءة بياليك 1973 – 1934 ، أكبر الشعراء الصهاينة في العصر الحديث، قراءة أدبية فقط؟ . لم تحاول أن عُبّئنا بسموم البرامج الدراسية الرسمية التي ترمي إلى دفعنا للتنكر لتراثنا. لقد أنقذتني شوشنه من الحقد الذي ملأني به الحاكم العسكري. لقد حطّمت الجدران التي أقامها ذلك الحاكم نفهم من هذا أن وعيه تشكل بين اليهودييّن شوشنه التي كانت مثل أمّه والحاكم العسكري .

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن كاتب هذه السطور تعرّض للغة العبرية أكثر بكثير من درويش من المدرسة إلى الجامعة إلى العمل والكتابة بها وعنها، ولم يرها مرة واحدة إلا مشروعاً سياسياً استعمارياً.

التوراتيات لدى درويش: «إلا لينسجم السياسي مع الأدبي»!

كان درويش عندما غادر البلاد عام 1971 عضواً في «الحزب الشيوعي الإسرائيلي»، الذي لا يزال يدعو إلى تقاسم فلسطين مع المُستعمر اليهو ـ صهيوني. في المنفى الاختياري، كان درويش محسوباً على التيار التسووي في «م ت ف». وبعد هزيمة دولة الفاكهاني في لبنان عام 1982 عيّنه أبو عمّار عضواً في لجنتها التنفيذية، أي أعلى هيئة اتخاذ القرارات. وطوال حياته كان لدرويش صوتٌ بارزٌ في السياسة. لذا سأتعامل معه بصفته الشاعر ـ السياسي، لأنه قدّم نفسه كذلك. وسأشير إلى ثلاث عشرة إشارة من عنده يؤكد فيها موقفه من الرموز التوراتية وعلاقاتها بموقفه السياسي.

الإشارة الأولى ـ يمكن اعتبار كلمته في جنازة إميل حبيبي 1921 ـ 1996 في الناصرة مخاطباً إياه «معلمي»، وما قاله فيه عبارة عن جوهر شعره ـ موقفه السياسي حين قال:

«لقد شاءت طبيعة التطوّر التاريخي في تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلداً لشعبين … وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة، أحد المنابر المتحركة الأقوى والأعلى، الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب. السلام القائم على العدل والمساواة ونفي احتكار الله والأرض، للوصول إلى المصالحة التاريخية بين الشعبين، مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس … إذا كنا نلعب، فتلك هي شروط اللعبة، لساناً بلسان، لا طائرة ضدّ طائر. وفي هذه المنطقة أيضاً يتبطن المعنى ثانياً، ويلجأ إلى ذاته ساخراً من عبء رسالتها فيخفّ الحمل الثقيل من أجل الانتقال إلى حمل أثقل، في صحراء الإيقاع الذي لا يتوتر إلا لينسجم السياسي مع الأدبي». وبما أن «هذه الأرض المقدسة بلد للشعبين».

وفقاً لهذا، فإنه بحاجة إلى الإشارات والرموز المقدّسة كي تساهم «في المصاحة التاريخية بين الشعبين». وبما أن التوراتيات مشتركة «للشعبين» توجب استخدامها كي يقنعهما بتقاسم الأرض، والركون «إلى المصالحة التاريخية» بينهما. أليس توظيف هذه الرموز توظيفاً سياسياً؟

وعندما نأتي على ذكر إميل حبيبي، لا بدّ من التأكيد على أنّ إميل حبيبي كان ضمن وفد «الحزب الشيوعي الإسرائيلي»، الذي ضمّ، إضافة إليه، موشي سنيه 1909 ـ 1972 وشموئيل ميكونيس 1903 ـ 1982 ، إلى تشيكوسلوفيا قبل قيام الكيان الصهيوني عام 1948 للتباحث مع قيادتها التي أقنعوها بأن تكون الدولة الأولى التي ترسل السلاح للعصابات الصهيونية! لذا كرّمته دولة «إسرائيل» بأن منحته «جائزة إسرائيل للأدب» عام 1996. وأطلقت بلدية حيفا الصهيونية اسمه على زقاق في وادي النسناس.

الإشارة الثانية ـ كان درويش قد أجاب على سؤال، في حوار أجرته معه مجلة «الكرمل» عام 1995، عن كثرة استخدامه الرموز التوراتية، بالقول: «ليس استعمال مثل هذه الإشارات الرموز التوراتية لدواع جرسية وتغريبية فقط. إنها موظفة ـ إذا جاز التعبير ـ لإخراج الراهن ووضعه في أيقونة أو دراما تاريخية. أي لجعل النصّ يعمل في التاريخ أو الماضي. يعمل في اللحظة نفسها على مستويين زمنيين مختلفين».

الإشارة الثالثة ـ عام 2002، شارك درويش في مهرجان الشعر العالمي في برلين. وفي مقابلة مع «إلداد بيك»، مراسل صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية قال ما يلي: « … ولكن موضوع القصيدة ـ مقاومة أو احتجاجاً ـ لا يهمّني، وما يهمّني الجوانب الجمالية».

أما في الأمسية الشعرية، «جامعيون من أجل فلسطين»، التي نظّمتها الجامعة الأميركية في القاهرة في كانون الأول عام 2003، فقد قال درويش قولاً مختلفاً للغاية: «الشاعر في مرحلة الطوارئ سياسي بالضرورة لأنه جزء من مقاومة الاحتلال وهو مطالب بالوفاء للصورة التي يرسمها له القارئ، ومطالب أيضاً بالتمرّد على ما هو متوقع منه».

بناءً على الإشارتين الأولى والثانية، نريد أن نصدق ما قاله درويش في الجامعة الأميركية في القاهرة، أي أنه شاعر سياسي بامتياز، وما استخدامه الرموز التوراتية إلا بغرض سياسيّ.

الإشارة الرابعة ـ بعد عدة أشهر من احتلال العراق عام 2003، عقد رأسماليو العالم منتداهم الدوري، «دافوس الاقتصادي»، في أحد منتجعات الجانب الأردني من البحر الميت. حضر المنتدى بول بريمر، القائد العسكري للعراق المحتل في حينه، والصهيوني شمعون بيريز، إضافة إلى 140 شخصية سياسية ـ اقتصادية أخرى، وكذلك الشاعر ـ السياسي محمود درويش.

في المؤتمر، ألقى درويش قصائد لمدة ثماني دقائق! بريمر وبيريز وغيرهما ليسوا مثقفين، أمضى درويش معهم أمسية ثقافية، إنهم سلاطين المال وإفقار الشعوب. ودرويش قبل على نفسه ليس فقط تجنيد الثقافة في خدمة أهداف مؤتمر «دافوس»، بل أنه ولمكانته الرفيعة في حقل الثقافة، أضفى مشروعية أخلاقية على مخططات مؤتمر «دافوس» واحتلال العراق. ولو بقي على التوراتيات فقط لحمدنا ربّنا وشكرناه!

الإشارة الخامسة ـ إضافة إلى التوراتيات، استخدم درويش الرموز والإشارات الكنعانية. في قصيدته «على حجر كنعاني في البحر الميت»، يقول مخاطباً العدوّ الذي أصبح الـ«غريب» قائلاً:

«علّق سلاحك فوق نخلتنا يا غريب، لأزرع حنطتي

في حقل كنعان المقدّس… خذ نبيذاً من جراري

… وقسطاً من طعامي

… خذ

صلوات كنعانية في عيد كرمتها…».

ويضيف: «فيا غريب…

أوقف حصانك تحت نخلتنا! على طريق الشام

يتبادل الغرباء في ما بينهم، سينبت فوقها

حبق يوزعه على الدنيا حمام قد يهبّ من البيوت».

ويضيف في ديوانه «لماذا تركت الحصان وحيداً؟»، مخاطباً العدوّ الذي أصبح الـ«غريب» قائلاً:

«سلِّم على بيتنا يا غريب.

فناجين

قهوتنا لا تزال على حالها. هل تَشُمّ

أصابعنا فوقها؟ هل تقول لبنتك ذات الجديلة والحاجبين الكثيفين إنَّ لها

صاحباً غائباً، لماذا تركت الحصان وحيداً .

و: «… لن تنتهي الحرب ما دامت الأرض

فينا تدور على نفسها!

فلنكن طيّبين إذاً.

كان يسألنا أن نكون طيبينَ. ويقرأ شعراً

لطيار «ييتْس»: أنا لا أحب الذين

أدافع عنهم، كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم…».

وكي يقنع الفلسطيني بأن لا طائل أو فائدة من نضاله يقول:

« … : وهل كان ذاك الشقي

أبي، كي يحمّلني عبءَ تاريخه؟».

و: «الشعر سلّمنا إلى قمر تعلقه أنات عنات

على حديقتها، كامرأة لعشاق بلا أمل،

وأنات تقتل نفسها

في نفسها

ولنفسها».

المثير حقّاً عند درويش أن عنات جدّتنا الكنعانية هي التي تقتل نفسها/ في نفسها/ ولنفسها، أما أبطال التوراة فقد ظلوا أبطالاً أحياء عنده، لذا علينا تقاسم وطننا مع أحفادهم المستعمرين!

الإشارة السادسة ـ بعد هزيمة دولة الفاكهاني في بيروت عام 1982 عيّنه أبو عمّار عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واستمر عضواً فيها حتى عام 1993. خلال هذه الفترة استقرّ درويش في باريس. يبدو لي، لم يكن اختيار درويش عضواً في اللجنة التنفيذية لعظمته بالتنظير السياسي، بل انتُدب لفتحِ قنوات الحوار مع «إسرائيليين» يؤيدون التسوية وتوسيعها. فأصبح درويش ضمن مجموعة إيلان هليفي التي غزت المنظمة ببرنامج «العقلانية والواقعيّة السياسية».

الإشارة السابعة ـ في الأشهر الأولى من اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، الهبّة الشعبيّة التي اغتيلت بالمال و«أوسلو» وجمعيات التمويل الأجنبي، تحمّس محمود درويش وكتب قصيدته «أيها المارون بين الكلمات العابرة» التي تصلح لأن تكون «مانيفستو» الثورة. غضب «الإسرائيليون»، حتى أصدقاؤه منهم، لا لأنه يقول: «خذوا أمواتكم وانصرفوا» ـ كما يشاع، بل لأنه يقول: «رقصة الهدهد الأخيرة»، التي فيها إشارة من إشارات الدمار في التراث اليهودي الديني. فهاجمه رئيس الحكومة، الإرهابي يتسحاق شامير على منبر «الكنيست». وفي حديث لدرويش مع صحيفة «هاآرتس» بتاريخ 10/3/2000، ردّ على الذين انتقدوه وهاجموه، وتحديداً شامير، فقال:

«الأشعار التي اطّلع عليها رئيس الحكومة السابق يتسحاق شامير وقُرِئت في الكنيست محرّفة، وفُهمت خطأ، وأنا لم أقلها كما أوردها شامير، فأنا لم أدعُ إلى دمار إسرائيل، ولم أكتب ذلك، ولا أؤمن بذلك … . وما قلته هو: خذوا موتاكم، وهذا شعر احتجاجي في زمن الانتفاضة، وليس عدوانيّاً، أو دعوة إلى القتل، وما هو في الحقيقة سوى وقوف ضدّ احتلال الضفة الغربية والقطاع، والحكومة نفسها تعدُّه احتلالاً، هذا ما حصل … . أما الادعاء بأنه اعتراض على وجود إسرائيل، فكلام فارغ، ينأى عن الحقيقة وتكذّبه الأحداث».

درويش الذي يعرف معنى رمزية الهدهد في التراث اليهودي تنازل عنه وسارع إلى لغة السياسة المباشرة فقال ما قال لصحيفة «هاآرتس».

لم يتوقف درويش عند حدّ التنازل عن موقفه السياسي، بل سار أبعد كثيراً حدّثني أثناء عملي الصحافي عضو «كنيست» ـ صار اليوم في دار الحقّ ونحن لا نزال في دار الباطل ـ من أصدقاء درويش، وكان كثير التردّد عليه في باريس بالقول، إن درويش كان مرعوباً من أن تغتاله «إسرائيل». لذا فكّر بطريقة «يصطلح» فيها مع «إسرائيل». فاقترحت عليه ـ والكلام لعضو «الكنيست» ـ أن يكتب شيئاً. قال له درويش: «سأكتب». وكتاب الرّد ـ والكلام لا يزال لعضو «الكنيست» ـ هو: «لماذا تركت الحصان وحيدا؟»، كان ذلك عام 1995. هذا الكتاب بتقديري أخطر الكتب التي كتبها درويش، لأنه يحوّل العدو إلى «غريب» يشرب القهوة ويتقاسم النايات معه ويتنازل عن أربعة أخماس فلسطين له. لذا سارعت إلى ترجمتها دار النشر «الإسرائيلية» «أندلس»، التي كانت صاحبتها اليهودية تدور في الفلك الذي كان يسير على خطّ «الكنيست» الصهيوني الذي انتُدِب يوماً إلى قصر المهاجرين في دمشق واليوم ينعم بفتات القصر الأميري في «كتار» ـ كما يلفظها شمعون بيريز. نذكر في هذا السياق أن درويش كان من بين 25 مثقفاً فلسطينياً وقّعوا على بيان 2002، يرجون «المثقفين الإسرائيليين» مساندة الفلسطينيين قائلين: « … لقد ارتضينا على أنفسنا العيش في خُمس فلسطين التاريخية وارتضينا لكم دولة في أربعة أخماسها!» هاآرتس 15 آذار 2002 .

الإشارة الثامنة ـ في مقابلة مع مجلة الدراسات الفلسطينية خريف 1995 يساوي فيها درويش بين الرواية الاستعمارية اليهو ـ صهيونية وروايتنا الوطنية قائلاً:

«ولأن الحوار بين الروايتين فقط، يمكن أن يشكلّ الخصوبة العميقة للطرفين، وقبل ذلك يحفظ للسيكولوجيا الإسرائيلية القدرة على أن تفتح إناءها على الآخر… الآخر الذي يجب أن يشارك في تشكيل الإناء».

إذن، درويش حريص إيضاً على «السيكولوجيا الإسرائيلية»! ويضيف:

«إن خطابي الشعري واضح وملتبس لكنه يحمل سيرة داود وكنعان. وفيه مساحة لتاريخ اليهود على هذه الأرض وكل الشعوب التي عاشت أو مرّت من هنا وتركت بصمات ثقافتها وحضارتها. إذن، أنا أعبّر عن حصيلة الثقافات والحضارات والأعراق والأديان التي مرّت على فلسطين بما فيها الخطاب اليهودي، فهل عليّ أن أخرج من هذا التكوين، وأن أبدأ تاريخ فلسطين من يوم 13 أيلول 1993؟» مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 6، العدد 24 ـ خريف 1995، ص 217 .

بما معناه، يقول درويش أن لا فرق لديه بين داود الغازي وكنعان الذي قاومه! ولا فرق بين «يهوه» و«إيل» و«البعل» و«عنات»! وأنّ الإبادة الأولى في التاريخ مارسها التوراتيون الغزاة ضد أهالي أريحا هي من تاريخنا أيضاً! ترد القصة في سفر يشوع التوراتي . والمثير أنه ينصّب نفسه متحدّثاً رسمياً بِاسم الجميع: أهالي البلاد والغزاة منذ فجر التاريخ إلى اليوم. يا لها من عَظَمَةٍ مريضة!

الإشارة التاسعة ـ وفي كتابه النثري الذي أصدر منه عدّة طبعات منقحة بدءاً من 1973 إلى 1997 يرد ما يأتي:

ـ «ماذا تعلمت في المدرسة؟

يجيب سلام على العصفور العائد من بلاد الشمس إلى نافذتي في المنفى، أخبرني أيها العصفور عن حال أهلي وأجدادي. قصيدة للشاعر الصهيوني حاييم نحمان بيالِك .

ـ والأغنية السابقة؟

ألغوها.

ـ ماذا كانت تقول الأغنية التي ألغوها؟

عليك منّي السلام

يا أرض أجدادي

ففيك طاب المقام

وطاب إنشادي.

ويضيف لا فارق كبير بين الأغنيتين، غير الحنين القادم من بعيد والحنين الطالع من قريب، كلتا الأغنيتين تعلن الحب للأرض ذاتها، وكلتاهما تحدد مفهوم الوطن بالانتماء للأجداد، الأولى لشاعر يهودي عاش في روسيا، والثانية لشاعر عربيّ عاش في فلسطين، وما رأى المنفى وما سمع به، بعد قليل تغلبت الأغنية الأولى على الثانية وصار الشاعر الثاني يغني الحنين البعيد وصار الفتيان العرب الباقون في بلادهم محرومين من التغني بقصيدة شاعرهم، وصار طريقهم إلى المستقبل مرهوناً بإتقان الشاعر اليهودي الذي كان يقيم في روسيا، والمعلم العربي الذي يجرؤ على تلقين أغنية حبّ الوطن مطرود من العمل بتهمة التحريض على دولة إسرائيل وبتهمة اللاسامية، ثم كبرنا قليلاً، فعلمونا ملاحم ذلك الشاعر الصعبة، ولم نأخذ من المتنبي إلا فيك الخصام وأنت الخصم والحكم».

بكلمات أخرى: إن مشاعر الغزاة الصهاينة تجاه أرض فلسطين شبيهة بمشاعرنا نحن الفلسطينيين الذين طرَدنا الصهاينة منها. أي، وبما أن المشاعر شبيهة، يجب علينا أن نتفهمهم، الذي معناه الحلّ بالعيش المشترك بين الغازي والمغزوّ، أو القبول بالأمر الواقع وقبولنا دولة في خُمس فلسطين فقط كما جاء في بيان 15 آذار 2002 في صحيفة هاآرتس ، وكذلك عدم استفزاز مشاعرهم عندما نتحدث عن «المحرقة» كحدث تاريخيّ كما رأينا في الإشارة السادسة .

الإشارة العاشرة ـ يضيف أحمد فكري الجزار سبباً إضافياً لاستخدام درويش الرموز التوراتية بالقول: «لم يقتصر فهم درويش للتوراة كعمل أدبي، بل إنه فهم تاريخي كذلك، فاستطاع أن ينجو من الربط بين الدين اليهودي والاحتلال الصهيوني، ومن هنا كانت شرعية استخدام درويش الرمز التوراتي في تعبيره عن قضية وطنه، … إن الرمز التوراتي موظف توظيفاً جيّداً من أجل إخراج العقيدة اليهودية من أيديولوجية الاحتلال، من خلال تناقض إنسانية الدين ووحشية الاحتلال». كتابي المذكور، ص 46- 47 . الجزّار ودرويش يتعاميان ويتغابيان أيضاً لذا نسألهما: من أين وكيف ولدت الصهيونية؟ لماذا لا تصدقون ادّعاء اليهود القائل بأنهم يعودون إلى أرض الآباء والأجداد الذي وعد بها «يهوه» نسل ابراهيم من إسحق؟ بالمناسبة: كانت عدّة مقالات تؤكد على أن الصهيونية ليست إلا الفقه المعاصر لليهودية وسأنشر قريباً كتاباً عن الموضوع.

الإشارة الحادية عشر ـ في الخامس عشر من آذار عام 2001، وقّع درويش ومعه خمسة عشر مثقفاً فلسطينياً على بيان وجّهوه إلى الحكومة اللبنانية كي تمنع عقد مؤتمر «المراجعة التاريخية» الذي كان يهدف إلى مراجعة الدراسات والأبحاث التي تحوّل الكارثة التي حلّت بيهود أوروبا إلى قضية «طابو مقدّسة» لا يمكن نقدها ومراجعتها. درويش ومن معه غدروا بقاعدة الحريّة الأساسية التي عليها يتم إنتاج ثقافة وحرية التعبير وبحث لا تحابي قوى القمع المختلفة. وبما أن غالبية الموقعين لا يزالون أحياء نريد أن نسألهم: لماذا لا تطالبوا «إسرائيل» واليهود بمحو الأسفار التي تمجد إبادة أهالي أريحا؟ لماذا لا تطالبونهم بمحو الأسفار التي تدعو إلى إبادة شعوب بكاملها من التوراة وفتاوى التلمود؟ لماذا!؟ هل مشاعر المجرمين اليهود أغلى من دمنا!؟

الإشارة الثانية عشر ـ بعد صدور كتابي «التوراتيات» بسنة تقريباً، أجرى عبده وازن حواراً مطولاً مع درويش ونشره في كتيّب. ورد في الحوار ما يأتي:

«ما دمنا نتكلم عن الدين نلاحظ أن في شعرك أثراً توراتياً، لا سيما من نشيد الأناشيد، يتمثل في غنائيتك العالية في ديوان سرير الغريبة وسواه! ما الذي يجذبك كشاعر في النصّ التوراتي وكيف أثّر فيك؟

ـ في البداية، درست في الأرض المحتلة، وكانت بعض أسفار التوراة مقرّرة في البرنامج باللغة العبرية، ودرستها حينذاك. لكنني لا أنظر إلى التوراة نظرة دينية، أقرأها كعمل أدبيّ لا دينياً ولا تاريخياً. حتى المؤرّخون اليهود الجادون لا يقبلون أن تكون التوراة مرجعاً تاريخياً. أو لأقل أنني أنظر إلى الجانب الأدبي في التوراة. وهناك ثلاثة أسفار مملوءة بالشعر، وتعبّر عن خبرة إنسانية عالية وهي: سفر أيوب، سفر الجامعة الذي يطرح سؤال الموت، ونشيد الأناشيد.

والمزامير؟

ـ بعض المزامير، فهي أقل أدبية من الأسفار التي ذكرتها. إذاً التوراة هي كتاب أدبي بالنسبة إليّ، وفيها فصول أدبية راقية وشعرية عالية.

هل التوراة مصدر من مصادرك؟

ـ لا شك في أنها أحد مصادري الأدبية.

هل أعدت قراءة التوراة بالعربية؟

ـ أجل، قرأت ترجمات عربية عدّة ومنها الحديثة. وأحبّ فيها بعض الركاكة. فمثل هذه الكتب يجب أن يترجم في طريقة خاصة. ونشيد الأناشيد يعتبره كبار الشعراء في العالم من أهم الأناشيد الرعوية في تاريخ الشعر، مع غضّ النظر عن مصادر هذا النشيد الفرعونية أو الآشورية». محمود درويش كما يرى نفسه وكما يراه عبده وازن 2006 .

يمكنني القول أن تنصل درويش من اعتبار التوراة كنصّ تاريخي، كما لاحظنا في عدد من الإشارات السابقة، جاء نتيجة لكشفي الموقف السياسي التسووي الذي اشتقه منها وإدانته، حدثني كثيرون من معارف درويش أنه تضايق جداً من كتابي وكان كثير الحديث عنه، وهذا باب آخر لا ندخله الآن .

وبعد من يريد نماذج من «توراتيات درويش» يمكنه العودة إلى كتابي: «التوراتيات في شعر محمود درويش… من المقاومة إلى التسوية» على هذا الرابط:

http://nazmi.org/media/darweesh1.doc.pdf

ومقال موسى حوامدة على هذا الرابط:

http://www.doroob.com/?p=18527

بعد صدور كتابي شنّ غالبية الذين تناولوا الكتاب نقداً عنيفاً عليّ بحجّة هدم «رموزنا»، من دون أن ينتبه هؤلاء إلى أن التزام الكاتب والمثقف يكون تجاه وطنه وأمته لا الأفراد والرموز المختلفة. وعليه أقول: حاولت قدر الإمكان أن أفتح الصفحات الغامضة لتحوّل درويش شاعراً للتسوية والإضاءة عليها لتصويب الشاعر لا «إدانته» كما اتهمني البعض أيضاً… ويبقى هدفي الأول والأخير القول بأعلى صوتي على رغم أصوات الانتهازيين والتسوويين: فلسطين عربيّة!

باحث في مقارنة الأديان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى