مكتبة «البناء»
عادةً ما يترك المؤلف للقارئ، مساحة من الأمل يتعلق بها وسط صراع محموم بين الخير والشرّ. لكن أيمن عبوشي، كاتب رواية «بورسلان»، الصادرة عن «دار الجندي للنشر والطباعة» ـ القدس، لم يترك لقرائه زفيراً، يخفّف عبء 198 صفحة من القراءة الممعنة في تصوير الكراهية والجهل والدهاء والتزلّف في آن.
بدا أن الكاتب قد سرد روايته في أجواء سوداوية حرمت القارئ فرصة التشبث بشخصية طيبة، أو حتى محايدة، أو الانحياز لزاوية آمنة تسعفه في ملاحقته فصول مؤامرات تقطع الأنفاس، تبدأ من السطر الأول، ولا تفلتها إلا في السطر الأخير.
تستنسخ الرواية من البطل، رجلاً آخر يحمل اسمه وملامحه ونفسه الشريرة، وثمّة خصومة بين الاثنين ـ باعتبار أن السفينة لا يقودها إلا قبطان واحد ـ ثمّ تتبع خيوط حبكتها صراعاً دامياً بين رجل ورديفه.
وحين يُسأل أيمن عبوشي عن السبب الذي دفعه إلى ملاحقة شخصية شريرة حتّى النَفَس الأخير، من دون أن يتصدّى لها أو لنسختها، يقول إنه صنع شخصية قذرة، وترك لها حرية الحركة، وتتبعتها، مشى وراءها، رافقها، وزارها عدة مرات، ترك لها العنان في احتقار كل شيء باستثنائها، كديدن هذا النوع من البشر… ثم فصلها عن نفسها، بكل قذارتها، اجتثّ «أناها» منها، ونصبها أمامها، وضعهما أمام بعضهما، وجلس يراقب كيف يمكن أن تتعامل شخصية كريهة، مع «أنا» كريهة مثلها..!
ويظهر أن عبوشي حاول أن يفتعل تجربة أدبية، تخضع الشخصية النشاز لاختبار السرد، من دون مؤثرات أو تدخلات تحول دون تطورها وتناغمها مع بيئة خصبة تكبر وتتعاظم فيها، بحيث يتعامل مع «الشرير» بوصفه «فأر تجارب». تاركاً له المدى ليدرس طرائق تفكيره وألاعيبه.
بهذا التحفيز، ولّد أيمن عبوشي شرّاً مضاعفاً، يتلاقح ويتكاثر ولا ينتهي. ويقول عبوشي إنّ تبيان الصورة القاتمة بتجلياتها ومحرّكاتها الإنسانية، يصوغ تعريفاً سردياً لماهية الشر. والمسألة في وجهة نظره ليست مقارعة رومنسية بين نقيضين، ويتابع: «قديماً، كان الإغريق يصنعون آلهة ليختلقوا قصصاً خرافية للصراع، وليُلحقوا هزيمة مدوّية بالشرّ، مستعينين بجبروت الأسطورة. ووليام شكسبير قتل ـ برومنسية مفرطة ـ أبطاله في حرب الخير والشر..».
ويضيف أن استحواذ الشرّ على المشهد في «بورسلان»، كان ضرورياً لتأكيد حقيقة أن الشرّ يأكل بعضه، ويجترّه بالصورة نفسها.
وفي هذا البناء، تحاول الرواية، نحت واقع هجين من شخصية مزدوجة، فالبطل ـ الذي يعرّف به الكاتب بـ«الدكتور» تارة أو «الوزير» تارة أخرى، يبدأ حياته بانعطافة لا تخلو من الخيال. وعلى رغم غرور الرجل، فإنه يدخل في دوامة من النفور من نفسه، حين يشتمّ رائحة كريهة تنبع منه، وسرعان ما تسفر عن انبلاج نسخة منه، أقوى شكيمة وبأساً من الأصل، ليدخل في عداء معها، ويصبح باسترسال روائيّ: «النرجسي الذي يكره نفسه».
من هنا، يبدأ التحول، وتنطلق فصول الرواية نحو إبراز الجانب الشرير بعد حشره في زاوية الضحية، من دون استفزاز تعاطف القرّاء مع البطل، الذي يدخل في دوامة من الصراعات مع بيئة سياسية لما كان يعرف بـ«الربيع العربي»، وانهيار أنظمة فاسدة، وقيام أخرى لا تختلف عنها كثيراً، يعبّر عنها أيمن عبوشي في أحد فصول روايته، وعلى لسان شخصية «الشيخ عزمي» المعيار الوحيد للخير في «بورسلان» حين يقول إن الديمقراطية هي الحتمية التاريخية، ووسيلة الحكم الجديدة… حيث لا تجبرنا الأنظمة على فعل ما تريده، بل تترك لنا الحرّية لنفعل ما تريده أيضاً.
ويخلص عبوشي إلى حقيقة أنّ تطوّر الشرّ ليس حكراً على شخصية بعينها، بل يتعلق بنمط حياة كامل غيّر شروط اللعبة. وبدأ يستقي أدواته من وسائل رقمية، وفضاء مفتوح يطوّع الكثيرين لرغباته، التي تأخذ مداها في صراعات الأقبية السياسية، وصفقات الأحزاب والمحاصصة البرلمانية، وإن غابت صور القمع، والتعذيب، واليد الطولى للأجهزة الأمنية.
باختصار، يحاول أيمن عبوشي من خلال روايته الثالثة «بورسلان»، أن يؤكد أن للشرّ أوجه عدّة، قادرة على التكيّف حتى مع الثورات التي يعتبرها التاريخ أكثر التحوّلات الإنسانية إجلالاً، لا بل أنّ قوى الشر قادرة على تمثّل أوجه عدّة في طيّاتها، والتسلل من خلال الشعوب، والانقضاض على مصائرهم، من خلال استحضار سدنة الأنظمة البائدة، وتمكينها في دورة حياة «بورسلان».