التربية والمقاومة
د. نسيب أبو ضرغم
لا بدّ بدءاً من إلقاء الضوء على طبيعة العلاقة القائمة بين التربية والمقاومة. وفي هذا السياق ينبغي طرح عدّة أسئلة ربما توصل إلى إيضاح طبيعة هذه العلاقة بين الاثنتين، هي علاقة سببية؟ فبوجود الأولى توجد الثانية؟ وبشكل تفصيلي أكثر، هل أنّ التربية مكوّن مفهوميّ مستقلّ بشروط وجوده يؤثر سلباً أم إيجاباً على مكوّن عملاني مستقلّ بشروطه ووجوده؟ أم أنّ التربية هي المكوّن الأشمل الذي يتضمّن عنصر المقاومة كمفهوم منطو فيه، ويشكّل في الوقت نفسه أحد أهمّ المفاهيم التي تكوّن البناء التربوي، إنْ على المستوى الفردي أم على المستوى العام؟
ما أريد أن أوضحه وأثبته هو أنّ المقاومة قبل ان تتشكل وتظهر كعمل مادي، هي مفهوم تربوي في الأساس، وبمعنى أوضح، هي مكوّن أساسي من مكوّنات التربية الفردية والعامة. فكيف يصبح الفعل المقاوم تجسيداً لمفهوم مكوّن للتربية؟
لا بدّ من الإشارة بشكل عام، الى أنّ المقاومة هي تتويج أو تجلّ عملانيّ لمسار طويل يبدأ بتكوّن فردي، وبالتالي عام، لانتماء معيّن، يشكل شرطاً جوهرياً لاستمرار وجود وعي الفرد وبالتالي الجماعة. هذا الوعي بالانتماء، يترتب عليه وعي مصالح المجموع، الذي جرى الانتماء إليه، المصالح المادية والنفسية، ويصبح وعي هذه المصالح ترجمة للقاعدة القائمة على ضرورة استمرار الوجود العام.
وعي الانتماء، واستطراداً وعي المصالح المرتبطة بالوجود المنتمى إليه الأمة ، يكوّن مادة مبادئ أساسية تتناول كافة الجوانب من الوجهتين المادية والروحية. مبادئ هي النهج الأساس، الذي يشكل قاعدة انطلاق، لمنظومة مفاهيم ينتجها المجتمع، هي ذاتها، الحلقات التي تربط البناء التربوي للفرد والجماعة.
بهذا المعنى، يمكننا القول، بأنّ التربية هي الصياغة الأخلاقية الاجتماعية للمبادئ العامة، القائمة على وعي الوجود، والانتماء إليه «أمة»، في كافة جوانب مصالح هذا الوجود، سواء المادية منها أم النفسية.
وعي للوجود بالانتماء يولد مبادئ أساسية تضمن مصالح هذا الوجود المادية والروحية، وتؤدّي الى ظهور تربية فردية وعامة قائمة على هذا الوعي.
شروط قيام المقاومة
بعد هذه المقاربة، العامة لموضوع التربية كصياغة أخلاقية اجتماعية للمبادئ العامة المؤسسة لسلامة الوجود بكافة مصالحه، لا بدّ من عرض شروط قيام المقاومة، أية مقاومة.
لقيام المقاومة بنظرنا ثلاثة شروط شرطان روحيان، وشرط مادي، أما الشرطان الروحيان فهما:
1 ـ تكوّن وعي لمصالح الجماعة أمة- متحد المادية والنفسية.
2 ـ استعداد نفسي لمواجهة الأخطار المؤدّية إلى ضرب هذه المصالح المادية النفسية.
تحقق الشروط المادية للخطر أو احتمال تحققها.
وأننا سوف نأخذ بالمنهج المدرحي لتفسير ظاهرة المقاومة، من حيث ضرورة تلازم الشروط المادية والروحية، لتحقق المقاومة، كتعبير عن موقف عام، حماية لمصالح المجموع العام.
في نظرنا، لا يكفي حصول الخطر لتقوم المقاومة، فحصول الخطر هو الجانب المادّي من معادلة المقاومة. فالظلم لا يكفي لحصول الثورة، بل يجب توفر شرطين آخرين لحصولها، هما: الشعور بالظلم والاستعداد الروحي لمقاومته. فإذا أخذنا هذه المعادلة الفكرية إلى الواقع، نرى أنّ المقاومة في بلادنا، لم تأتِ من فراغ، كما أنّ أية مقاومة لا يمكن أن تأتي من فراغ، فهي ذات جذور ضاربة في عمق التربية العامة للمجتمع، فالسؤال المطروح لماذا المقاومة، يجد جوابه في سؤال آخر، هو من أجل ماذا المقاومة؟ فالجواب على هذا السؤال، يحدّد درجة الوعي بالانتماء، والوعي بالمصالح ومدى تجذّر المفاهيم الوطنية في العملية التربوية.
ثمة من لا يرى اليوم، أنّ خطراً «إسرائيلياً» قائماً على لبنان، هذه تربية مرتكزة إلى عقود طويلة كرّست مفاهيم مشوّهة عن الانتماء الوطني والقومي، وعن طبيعة المخاطر المحيطة بهذا الانتماء. من يقول هذا القول، لا يمكن أن يكون مقاوماً، لأنه في الأساس، لا يرى بحكم التربية الوطنية والأخلاقية، أنّ ثمة خطراً يحيق بوجوده، حتى الفيزيائي قبل المعنوي منه. يمكن أن تشكل هذه الثقافة المشوّهة، مقاومة تحمي هذا التشوّه. من خلال عرض الشروط الثلاثة لقيام المقاومة، يظهر البعد الفلسفي لمفهوم المقاومة، فهي بهذا البعد تشكل تعبيراً مادياً عن معطى روحي، قد تشكل من مبادئ فكرية تربوية، هي بهذا المعنى، تجسيد لوحدة العوامل المادية – الروحية الكفيلة في تحقّق الفعل المقاوم، وعندما نقول بأنّ المقاومة هي تعبير مادي عن معطى روحي، نقصد تفصيلاً بذلك، بأنّ المعطى الروحي يمثل القناعة بالحق، فالحق بنظر الفرد والجماعة هو المعطى الروحي الذي يقف وراء التجليات المادية المعبّر عنها بالمقاومة، وهذه التجليات تتعدّد في أشكالها، إلا أنها ترتكز إلى معطى واحد روحي، هو حق الجماعة في وجودها وحماية وجودها عبر حماية مصالحها المادية والنفسية.
اذن كيف تتكوّن القناعة بالحق، الحق في الوجود الحرّ المستقلّ، يتمّ ذلك عبر مسار طويل من تراكم المفاهيم والقيم والتجارب، هي مادة التربية العامة، التي تجري عادة صياغتها بمبادئ عامة أساسية، تشكل أساساً، لأيّ بناء عام تقيمه الجماعة القومية.
الوعي للوجود = يحقق معرفة موقع الفرد والجماعة»، وموقع الفرد والجماعة، يحدّد دور هذه الجماعة، وبالتالي لا مقاومة، حيث لا وعي للذات، لأنّ وعي الذات يحدّد الحقوق، ووعي الذات يحدّد المخاطر التي تحيق بالحقوق، فيتشكل إذاك الشرط الروحي الأول، هذا الشرط يشكل بدوره أساساً للشرط الروحي الثاني، وهو الاستعداد النفسي للدفاع عن هذه الحقوق. وعند اكتمال هذين الشرطين الروحيين، تصبح المعادلة جاهزة في جانبها الروحي، وهي بانتظار اكتمال الجانب المادي، وهو تحقق الشروط المادية للعمل المقاوم، فإذا كان العمل المقاوم تجلياً مادياً روحياً بالمعنى الفلسفي فهو في المعنى التاريخي، فعل نوعي يمكن أن يؤسّس لمسار جديد من التاريخ، ولمضمون جديد لهذا المسار، فالانتقال من العبودية إلى الحرية، ومن اليأس إلى الأمل، ومن التراجع والركون الى التقدم، ومن التخلف إلى الحضارة، ومن الانفعال بالحدث والقوى الخارجية الى الفعل بها، كلّ ذلك هو حالة نوعية في تاريخ الشعوب والجماعات، لا يمكن أن تتحصل إلا بفعل الصراع – المقاومة.
إنسان يعرف حقيقته الاجتماعية
المقاومة بهذا المعنى هي الفعل التاريخي بمعنى أوضح وأدق، هي تحقق الفعل التاريخي عملاً مادياً، نتائج ومفاعيل، إلا أنّ هذا الفعل يجد كينونته الأولى في التربية ومنظومة مفاهيمها، التربية التي أنتجت إنساناً يعرف من هو، من حيث تاريخه وتراثه واستهدافاته، يعرف حقيقته الاجتماعية، أيّ انتماءه وولاءه، يعرف مصالح المتحد الذي ينتمي إليه، يعرف أهمية هذه المصالح الحيوية على مصيره المادي والروحي، يعرف حقيقة الأخطار المحدقة به، كلّ هذه المنظومة من المعارف والمفاهيم، تشكل الخلفية التربوية الأخلاقية التي تتحكم بشروط قيام المقاومة. من هنا يمكن الإشارة، إلى دور التربية في صناعة التاريخ، وما المقاومة سوى وسيلة من الوسائل التي تفرض الظروف استعمالها لحماية وجود الجماعة، وصيانة تراثها، وتأمين استمرارها في الوجود، في كامل حريتها ونموها.
في هذا السياق، لا بدّ من توضيح هذه المقولة، حيث نعتقد أنّ التاريخ، هو نتاج فعل إنساني وسط مؤثرات طبيعية ومادية، ينشأ بينها تفاعل، يخضع لطبيعة وقوة العناصر المكونة للعملية التاريخية. ومن حيث أنّ الإنسان، هو العنصر الايجابي من المعادلة، بمعنى العنصر المبادر والمقرّر والعامل، والمحرك لبقية العناصر المادية من طبيعة واقتصاد وسواها، فتكون العملية التاريخية، عملية تحمل أبعاد هذا الإنسان، بمعنى أنها تبدو كترجمة مادية لقدرات هذا الإنسان وقواه المادية والنفسية. وبالتالي تشكل المكتنزات الفكرية والروحية لهذا الإنسان العامل، الفاعل في صناعة التاريخ، وعندما نقول المكتنزات الفكرية والروحية فنعني بها الوليدة الحتمية للتربية.
فلنأخذ مثلاً الجماعة اليهودية، وهي جماعة دينية وليست جماعة قومية، لأنها تضمّ أشتاتاً من البشر، ينتمون الى أمم مختلفة، موزعة بين أمم كثيرة، وذات ثقافات متنوّعة. إلا أنّ هذه الجماعة اليهودية استطاعت أن توجد لنفسها دولة، بالرغم من عدوانيتها ولا شرعيتها وعصيانها على كلّ النواميس والشرائع. استطاعت، لأنها أخذت بمنهج تربوي، دأبت تُخضع له أبناء اليهود، بحيث أصبحت الغيتوات أطر إمكانية – تربوية متمايزة عن باقي الأحياء المحيطة بها.
هذه التربية التي علّمت أبناء اليهود، أنّ فلسطين أرض الميعاد، وأنها حق قطعه الله لأبناء ابراهيم، وأنّ على اليهودي ألا ينسى صهيون، وأن يعيش العمر عاملاً للعودة إليه. تربية جعلت اليهودي كائناً معادياً لأيّ محيط بشري محيط به، وكانت الغاية من ذلك، منع اندماج اليهود في بقية المجتمعات، حفظاً لهم كمادة بشرية يهودية.
أقانيم التربية اليهودية هي صياغة سلوك فكرية اجتماعية للمفاهيم التوراتية. هذه التربية صنعت إنساناً يهودياً، يحمل أبعادها ومفاهيمها، ودفعته لأن يقوم بأيّ أمر مهما كان لا أخلاقياً في سبيل تحقيق ما تربّى عليه.
التربية عملية انشائية تبدأ عند حدود وعي الطفولة، ولأنّ العدو اليهودي فهم فعل التربية في العملية التاريخية، نجح الى حدّ أنه جعل المسار العام لحركة التاريخ، منذ مؤتمر «بال» الصهيوني يتحرك وفق غاياتها البعيدة، سواء لجهة خلق دولة «إسرائيل»، أو لجهة إغراق العالم في الحروب والدماء وتفكيك المجتمعات، وها هو العالم اليوم لا يلتفت الى فلسطين كوطن تاريخي واحد للفلسطينيين، ولا الى المقدسات تنتهك كلّ يوم، ولا الى الاعتداءات والحروب التي دأبت «إسرائيل» على شنها على العرب، دونما رادع او رقيب أو محاسب. العالم يخضع اليوم لمفاهيم توراتية، جسّدتها الصهيونيه، بناء تربوياً خلق جيلاً بل أجيالاً يهودية تهدّد وجودنا القومي برمته.
في المقابل، من جهتنا نحن، كيف تبدو الصورة، ففي الوقت الذي كانت فيه. التربية اليهودية للفرد اليهودي، تندرج في خلق تربية يهودية عامة تشمل المجموع اليهودي برمته، في هذا الوقت، منذ ما قبل مؤتمر «بال» وبعده، لم يكن قد تكوَّن لدينا شيء عن مفهوم التربية القومية، كانت التربية ترتكز على مفاهيم سلوكية أخلاقية اجتماعية لتهذيب الفرد، دون ان تنتج وعياً قومياً، وعياً عاماً، انّ سبب هزيمتنا أمام التربية اليهودية كانت تهدف الى خلق وعي قومي يهودي، في وقت لم يكن لدينا وعي قومي يحدّد لنا العدو وشروط مقاومته.
«الويل سببه غياب الوعي القومي»
إنّ الويل الذي حلّ بأمتنا، سببه غياب الوعي القومي على حدّ قول سعاده. وانطلاقاً من ضرورة أن لا يكون وعي قومي لدينا، يشكل خطراً على المشروع اليهودي القائم. كانت اتفاقية سايكس بيكو، وما تلاها من تمزقات، طالت هيئتنا الاجتماعية والقومية. إزاء ذلك، كانت المقاومة هي الردّ على هذا الخطر الوجودي، والمقاومة بداهة، لا تقوم بدون مقاومين، والمقاومون هم أبناؤنا، الذين جعلنا بالتربية ان يكون حبّ الوطن والاستعداد للدفاع عنه ومجابهة الأخطار المحدقة به مسلمات راسخة في أفئدتهم.
وانه في ذات السياق، لا بدّ من التوقف عند مشهدين، كلاهما يتصل بنا كشعب وسنرى كيف أنّ غياب التربية اللازمة في المشهد الأول، أضاعت أجزاء هامة من شعبنا وأمتنا، وكيف أنه عبر وجود تربية قومية في المشهد الثاني، كيف تتجسّد حيوية الأمة وتنتصر إرادتها.
المشهد الأول:
كيليكيا واسكندرون تغرقان بطوفان طوراني، منع وجود تربية قومية، متعمّداً تتريك أبناء شعبنا، وبالتالي فإنه حقق نجاحاً كبيراً في هذا المجال، حيث نجد أنّ الهوة بدأت تتسع بين أبنائنا في كيليكيا واسكندرون وبين الوطن الأم.
غياب الثقافة والتربية القوميتين جعل مجموع شعبنا في هاتين المنطقتين العزيزتين، مجموعاً منطفئاً بالمعنى القومي، ويفتقر حسّ المقاومة. وانه بالمعنى الفلسفي، يمكننا القول بأنّ التربية، هي مقاومة بالقوة، أما المقاومة فهي تربية بالفعل، وانتصار لمفاهيم تربوية في معركة تاريخية.
فإنه وفق المفاهيم التربوية، يكوّن سلوك الجماعة، خاصة في شأن المقاومة، المقاومة بكلّ أشكالها مقاومة الثقافة المعادية مقاومة الرأسمال الأجنبي، مقاومة إسقاط الذاكرة، مقاومة العولمة، كدعوة لتسطيح الانتماء الإنساني، فبقدر ما يكون الوعي للذات العملية التربوية كبيراً، بقدر ما تكون المقاومة عاملاً تاريخياً فاصلاً في مسار الشعوب.
المشهد الثاني:
يتجسّد في المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية. نرى أنّ ردّ شعبنا في الانتصار اليهودي وعلى التربية اليهودية، كان رداً مختلفاً عن ردّ شعبنا في الأهواز والإسكندرون، والسبب في ذلك، هو أنّ التواصبل بين مجموع الأمة وهاتين المقاومتين كان تواصلاً واسعاً وعميقاً، وبالتالي فإنّ نسبة الوعي المرتفعة للحقوق القومية وللمخاطر الصهيونية والإمبريالية، جعل الردّ أن يكون على نسبة هذا الوعي.
لقد استطاع الوعي القومي أن يكون جوهر العملية التربوية، وإنْ لم تكن هذه العملية التربوية عملية شاملة، فهي في الحقيقة اقتصرت على فئات من مجموع الأمة ومصالحها، بفعل روح الصراع المتولدة فيها. وأن تنتصر في محطات تكتيكية كثيرة، وفي مرحلتين استراتيجيتين، كانتا على يد المقاومة اللبنانية، عام 2000 وعام 2006. وما ينطبق على المقاومة اللبنانية، ينطبق على المقاومة الفلسطينية، المقاومة التي أصبحت بتراثها المادي والمعنوي، مدرسة للشعب الفلسطيني، فيها يضع قواعد التربية الوطنية.
مبدأ التحدّي والاستجابة
شعبنا لم يخرج عن المبدأ الذي وضعه المؤرّخ أرنولد توينبي، مبدأ التحدّي والاستجابة، فإذا كان التحدّي أمراً ثابتاً في علاقات الأمم، فالاستجابة ليست بالضرورة أن تكون واحدة، هي تختلف بين أمة وأمة إنْ لجهة العنف، أو الاتساع، أو المضمون، أو الوقت، وهذا الاختلاف يعود الى الاختلاف في المفاهيم التربوية العائدة لكلّ أمة من الأمم، التي وقع عليها التحدّي، فمن الوجهة العملية، ثمة سؤال يطرح نفسه، أية تربية وأية مقاومة: التربية التي ندعو إليها هي تربية الفرد على أن يكون خلية واعية مدركة لذاته من خلال إدراكه للجماعة، مدركاً لدوره في الجماعة، مؤمناً أنه لا حياة له خارج سلامة الكلّ، والوطن هو الأرض الحاضنة لهذا الكلّ.
تربيةٌ قومية تعمل على إنشاء جيل مستعدّ أن يدافع عن الوطن والأمة مهما كان الثمن، لأنه بفعل تربيته يكون قد أدرك أنّ بقاء الوطن واحداً حراً، والأمة واحدة موحدة، هو شرط الاستمرار في الوجود. تربية تعلم، أنّ الفرد غذاؤه الروحي والفكري هو في الدرجة الأولى، تراثه، وأنّ انتماءه هو الانتماء لهذا التراث، بعيداً عن التسطيح الذي تدعونا إليه العولمة، بعيداً عن تشويه شخصيتنا وتزوير تاريخنا، وجعلنا كائنات هجينة، لا ملامح لها، ولا صفة ولا مضمون ولا تاريخ.
معركتنا هي في المدارس والجامعات والمعاهد، هي في صفوف الروضات، هي في برامجنا التعليمية والتربوية، هي في كيفية صناعة الإنسان. معركتنا أن نربح الصغار، لأننا إذا ربحنا الأحداث ربحنا معركة المصير القومي.
عندما هَزَمَ نابليون بونابرت بروسيا، وعقد معها معاهدة Tilsit في 8 تموز 1807، أمسك الفرنسيون بكلّ مفاصل الحياة البروسية، إلا أنهم تركوا للبروسيين إدارة مدارسهم. واستطاع البروسيون عبر برامجهم التربوية، أن يخلقوا جيلاً مقاوماً، استطاع أن يعي حقه ويدرك جوانب الخطر المحدق به، ويستعدّ للقتال وينتصر. وعندما هاجم بسمارك فرنسا عام 1870، واحتلها كردّ على احتلال نابليون بروسيا، سُئِل بسمارك لمن يعود الفضل في هذا الانتصار، قال للمعلم الألماني، وفي قوله هذا، دليل على صحة ما ذهبنا إليه.
منذ غزو هولاكو عام 1258 لبغداد، وإسقاط العاصمة الحضارية بغداد، وضرب القاعدة العلمية لشعبنا، وبالتالي مصادرة قرارنا، أصبحنا على مسرح التاريخ في هذا الشرق، وجوداً منفعلاً بالإرادات الغربية، وكانت الهزيمة، قد انعكست انهزاماً فجاً في سلوكيات أبنائنا، بحيث أصبحوا يكيّفون أنفسهم مع الهزيمة، دون أن يتأهّبوا لتجاوزها، والخروج منها. وهذا ما سمّي بعصر الانحطاط، الانحطاط الفكري الإبداعي، والانحطاط التربوي العام، والانحطاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إنّ أكثر مشاهد الانحطاط وجعاً ورُعباً هو الانحطاط في المفاهيم التربوية والقومية، بحيث غاب فكر الفرد عن حياة الجماعة، وأصبحت مصلحة الفرد فوق مصلحة الجماعة… بل أكثر من ذلك، لم تعد الجماعة كوجود اجتماعي قومي، موجودة في ذهن هؤلاء.
السؤال… كيف نعود إلى مرحلة الفعل في التاريخ، ونخرج من مرحلة الانفعال. لا يمكن حصول ذلك، إلا عبر المسار التالي:
حصول وعي عام بالوجود القومي، ومصالحه المادية النفسية، تكوّن مفاهيم تربوية عامة، تكون ترجمة سلوكية اجتماعية عامة لهذا الوعي، خلق إنسان جديد، لا يرى وجوده الفردي خارج وجود الجماعة، وبالتالي تشكل له منظومة مفاهيمه الفكرية والتربوية الاتجاه الفردي، والعام بعد ذلك، وعند حصول الخطر الذي يهدّد هذا الوجود العام، الوجود القومي بكلّ أبعاده المادية والنفسية يتحقق ما كان موجوداً بالقوة، في منظومة المفاهيم التربوية، فيصبح مقاومة، أي وجود بالفعل للمفاهيم والمبادئ وعندها تكون اللحظة التاريخية التي تشهد الخروج النهائي من دائرة الهزيمة.
لا بدّ هنا من الاشارة إلى أنّ طبيعة تكوين التربية واتجاهها، يحدّد طبيعة المقاومة واتجاهها. فالتربية الفردانية الذاتية تولد مقاومة عند الفرد حدودها حدود مصالحه الفردية. كما أنّ التربية العنصرية تولد مقاومة عنصرية في وجه كلّ ما يؤثر سلباً على مصالح العنصر. وكذلك التربية الطائفية والمذهبية، تنتج مقاومة حدودها مصلحة الطائفة والمذهب في وجه الآخرين.
إنّ فعلنا في التاريخ يتوقف على حصول تربية قومية، ترى أنّ سلامة الوجود العام للجماعة وسلامة مصالحها، إنما يستلزم أن تكون المقاومة احتمالاً دائماً، بل خياراً دائماً، لأنه يمثل الاستجابة في مواجهة التحدّي على حدّ قول توينبي.
انّ التربية القومية تنتج مواطناً مقاوماً، وجاهزاً للتضحية، بأغلى ما عنده فهو مقاوم لـ
1 ـ شطب الذاكرة القومية.
2 ـ تسطيح الانتماء مقاومة العولمة
3 ـ تشويه التاريخ كما فعل معظم المستشرقين.
4 ـ صيانة وحدة الوطن والأمة برفض الانتماءات العائلية والطائفية والمذهبية…
5 ـ الدفاع عن الوجود الوطني مهما كلّف الأمر.
كلّ ذلك يشكل الأقانيم الثقافية التربوية التي تؤسّس للانتصار الكبير، فلنربح معركة التربية لنربح معركة المصير القومي برمته.